الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث، فعليكم باتباع الجادة واعتقاد أهل السنة والتسليم للسادة واحترام القادة، أعني حملة الشريعة وأهل العلم والديانة من غير غض ولا اغترار، وبالله التوفيق.
…
50 - فصل
في أنواع المعتقدة ووجوه الاعتقاد
وهم أنواع كثيرة لا يكاد يحاط بها لكثرتهم، لكن أمهاتها خمس:
أحدها: طائفة اعتقدت وجود الخصوصية وثبوتها في الجملة، ولم تتعرض لنفي ولا لإثبات (1) لا في زمانهم ولا فيما تقدمهم، بل إذا ذكر الصالحون ومن في معناهم قالوا: نفعنا الله بهم وأعاد علينا من بركاتهم، وإذا ذكر الواحد بعينه قالوا: نفعنا الله بالصالحين، وهذه الطائفة سالمة إلا أنها ناقصة يضيق عطنها (2)، عن فهم الاختصاص في الآحاد والأشخاص، ولو لم يكن من نقصهم إلا حرمانهم من رؤية بعض أهل الاختصاص والدخول في حزبهم بوجود الموالاة.
الثانية: طائفة اعتقدت وجود الخصوصية واختصاصها ببعض الأزمنة دون بعض، فإذا ذكر المتقدون قالوا: نفعنا الله بهم، وهكذا كان الناس يفعلون، وإذا ذكر أكبر أهل الوقت وأوفاهم حالا وعملا، قالوا: ما رأينا شيئا، هيهات، أين الناس؟ وهم أنقص حالا من الذين من قبلهم، لتخصيصهم الزمان وما علموا أن رب الأولين والآخرين واحد، و"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق"(3) إلى غير ذلك مما ينادي عليهم بالجهل والحرمان، والله أعلم.
(1) أي: نفي الخصوصية أو إثباتها لواحد بعينه في زمان أو جهة بعينها كما سيفصله المؤلف في أنواع الطوائف الأخرى المخالفة لهذه.
(2)
ضيق العطن: قلة الصبر وضيق الفهم.
(3)
متفق عليه، انظر البخاري مع فتح الباري 17/ 56، ومسلم 1/ 137.
الثالثة: طائفة اعتقدت الاختصاص ببعض الجهات، فإذا ذكر صلحاء المغرب مثلا لم يقبلوا شيئا من أحوالهم، وإذا ذكر صلحاء المشرق، قالوا:
نعم، أولئك هم الناس، من شأنهم كذا ومن شأنهم كذا، وبالعكس، وهذا لا تجده إلا في أهل كل جهة ينكرون من معهم ويعتقدون الغائب عنهم، لوجود الألفة بهذا، واستغراب هذا، وهو من قوة دائرة الوهم، وقد تكون من كون العصبية في النفس (1)، مما هو شأن أولاد المرابطين وذريتهم، والله أعلم.
الرابعة: طائفة اعتقدت الاختصاص ببعض الصفات والأعمال، وأعظمهم في ذلك جماعة اعتقدت وجود العصمة في الولاية (2) فاطرحوا كل من رأوه موصوما بوصف البشرية، أو من وقع في أمر ربما يتنقص به حاله من مكروه أو شبهة، فحرموا بذلك من بركات ما عاينوه من السادة.
وطائفة على العكس من هذا، اعتقدوا الإباحة للولي في كل ما يتناوله أو يأتيه، حتى لو رأوه على محرم ما أنكروا عليه، وربما دخل عليهم فيه بعض الناس، فكان ضالا مضلا، وهو فيما وقع فيه إما عاص إن وقع مرة بحسب غلبة الشهوة والقدر الجاري، أو فاسق إن تكرر منه ذلك ودام مع الإصرار، وذلك ينفي الولاية، أو صاحب حال يسلم له ولا يقتدى به، ويطلب منه حق الله، ولا يهزأ به، أو محكوم له بحكم المجانين في ظاهره، بحيث تسقط عنه الأحكام، ويعتنى به لما قام بقلبه.
فقد قال بعض المحققين: ما زال يختلج في نظري أن المجذوب فاقد عقل التكليف، فكيف تنسب له الولاية، حتى فتح الله سبحانه: بأن العقل الذي ناط به الشرع التكليف، هو عقل تدبير المعاش، فإذا فقد عاد الإنسان كالبهيمة في العالم، يعرف مصالح جسمه الحالية دون غيرها، فصار له
(1) هذا الطبع مستحكم في النفوس، ولذا لا يجد العالم الاحترام اللائق به بين أهله وذويه في حياته، فإذا مات سمحت أنفسهم بتعظيمه.
(2)
لا عصمة لأحد غير الأنبياء، سئل الجنيد: أيزني الولي؟ فأجاب: {وكان أمر الله قدرا مقدورا} ، وقد تقدم انظر ص 50.
حكمها في سقوط الاعتبار، إلا أن العقل إن فقد بخيالات وهمية كان صاحبه مطرحا ظاهرا وباطنا، وإن فقد بحقيقة إلهية كان له حكمها، فيعظم صاحبها من حيث أنه صار محلا لمعنى شريف، ولأن تلفه كان في الله، فتعين تعظيمه لله تعالى كما تقدم (1).
وقد قال رسول الله (ص) للمجنونة التي سألته الدعاء: "إن شئت صبرت ولك الجنة"(2) مع أنها اشتكت الانكشاف، فافهم.
ويعرف حال المجذوب من المجنون بإشارتهما، فكل من أشار إلى حقيقة مجموعة فهو مجذوب، وإن كانت صورتها أجنبية عن مقصده، ومن تفرقت إشارته، فهو مجنون، {ولتعرفنهم في لحن القول} (3) فافهم الإشارة.
واعلم أن ما يقع ممن له بقية من عقله ممن ثبتت له الخصوصية في نظر معتقده، لا يخلو إما أن يكون مما لا يباح بوجه، كاللواط والزنى بالمعينة وشرب الخمر إدمانا، ونحو ذلك، فهذا لا يصح تأويله، وهو فيه إما عاص غير فاسق إن وقع مرة، أو فاسق إن أصر عليه، وذلك لا يصرفه عن مرتبته إلا في الحال، لحديث:"لا يزني الزاني وهو مؤمن"(4) أي: كامل الإيمان، وفيما بعد ذلك تعود حرمته بتوبته، فإن "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(5)، أن
(1) انظر فصل 12.
(2)
الحديث في الصحيح عن ابن عباس (ض): "أن امرأة سوداء أتت النبي (ص)، قالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك"، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها"، البخاري مع فتح الباري 12/ 218.
(3)
محمد 30.
(4)
خرجه مسلم 1/ 76، من حديث أبي هريرة (ض).
(5)
خرجه ابن ماجه 4250 والبيهقي في الكبرى 15/ 154 من حديث أبي عبيدة بن عبد الله ابن مسعود عن أبيه ولم يسمع منه كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 200، له شاهد من حديث ابن عباس بسند ضعيف موقوف على ابن عباس على الراجح، خرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 5472 والبيهقي في الشعب 5/ 436، وذكره الحافظ في فتح الباري 13/ 471 لكن ابن أبي حاتم في العلل ذكر أن رواية الحديث عن أبي عبيدة عن أبيه خطأ، والصواب إنما هو عبد الكريم عن زياد بن الجراح عن =
يباح بوجه ما، وذلك مما يحسن فيه التأويل على فاعله المعتقد بأن يكون إنما فعله لوجهه المباح، كأخذ مال من شخص، لاحتمال استحقاقه، وضربه لاحتمال وجوبه عليه، وقتله لاحتمال تعلقه عليه، هذا كله مع إقامة الحق الشرعي علميه، فلا يريبنك (1) الحق عن الاعتقاد ولا بالعكس، لأن كلا منهما حق، وأصل ما ذكرنا في ذلك مأخوذ من قصة الخضر وموسى عليهما السلام (2) وقد نبه عليه ابن عباد في رسالته الكبرى، فانظره.
الخامسة: طائفة وقفت مع الصور دون الحقائق، فاعتقدوا أصحاب النواميس وكثرة الأعمال، وأصحاب الأحوال المستغربة من الأقوال المزخرفة، والأعمال المحرفة، التي بعضها ضلال، وبعضها محال، لكنهم قد يقعون على بعض من وافق ظاهره باطنه، وقليل ما هم، لا سيما في هذه الأزمنة التي غلب فيها إفراد الوجه (3) فلا تكاد تجد صاحب ظاهر إلا خلا عن الباطن، ولا صاحب باطن إلا ناقصا في الظاهر، فإنه لا يلزم من العلم العمل، ولا من الحال بلوغ الأمل، وقل أن تظهر حالة على صادق في نهايته، بل في بدايته لغلبتها عليه، فلذلك تجد غالب الناس يعتقد المريدين والمبتدئين دون المشايخ، ولو كان العلم ضامنا للعمل ما ضل إبليس بعد علمه بالصراط المستقيم الذي هو الشكر، حتى قعد عليه، فقال:
{ولا تجد أكثرهم شاكرين} (4) بعد قوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} (5) وفي قصة بلعام وبرصيص وغيرهما (6) ما ينبه على ذلك، بل يصرح به،
= ابن معقل، قال: دخلت مع أبي على ابن مسعود فذكره، العلل 2/ 141 وذكره كذلك الدارقطني في العلل 5/ 297 وقال: هو أصح من حديث أبي عبيدة.
(1)
في ت1: (يجيبنك).
(2)
أنظر هامش ص 61.
(3)
أي: غلب فيها عدم وجود من اجتمع له خلاص الباطن مع كمال الظاهر.
(4)
الأعراف 17.
(5)
الأعراف 16.
(6)
بلعم، قيل: هو المشار إليه في قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} ، على ما جاء في كتب التفسير، فكان بلعام عالما يعلم الاسم الأعظم فكفر، انظر خبره في تاريخ الطبري 1/ 439، وتفسير الطبري 28/ 32.