الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال في الحكم: لا تزكين واردا حتى تعرف ثمرته، فليس المراد من السحابة الأمطار، وإنما المراد منها وجود الإثمار، انتهى، وهو عين الحق والصواب.
الخامس: تجنب إظهاره وإظهار محبته، بل نفيها رأسا، والإبعاد منه بالغاية، والإنفار ممن يقول به ويراه دينا قيما، وبيان ذلك للحاضرين، وإظهار معايبه لهم حتى يزهدوا فيه، وسيأتي من ذكرها، وما زلت أحذر الأصحاب من الاقتداء بي في خمسة أمور (1):
أحدها: العمل بالسماع وأقبحه في عيونهم.
الثاني: التوسع في الأكل صفة ومقدارا، فإن ذلك إساءة أدب.
الثالث: مخالطة كل أحد ومباسطته وذلك هجنة وقلة مروءة.
الرابع: كثرة المزح والانبساط والتوسح في الكلام، لأنه يجر إلى الشر والنقص.
الخامس: النظر في كتب الدقائق والعمل عليها دون غيرها، فإني لا أفعل ذلك والله عن روية ولا اختيار، وما كتبت التحذير منه هاهنا، إلا لئلا أجعل حجة فيه، وبالله التوفيق.
…
90 - فصل
في ذكر شيء من المواجيد والخواطر
فإن النفوس ترتاح إليها، والحاجة ماسة لها في حق كل مريد صادق.
لا يخلو المريد في حال وجده بالسماع ونحوه من أن يغيب عن
(1) في ت 2: من الاقتداء في خمسة.
إحساسه أم لا، فإن غاب عن إحساسه، فلا يخلو إما أن يستفيد في غيبته علما أم لا، فإن استفاد علما فوجده صحيح، لأن الشيطان لا يقدر أن يغيبه عن إحساسه ويفيده علما، لكنه يظهر عليه بأحد الأمرين: إما أن يغيبه عن إحساسه، وإما أن يجري على لسانه شيئا يشبه الحكمة وليس بها، وعلامة ذلك أن يحدث له في جسده اضطراب عند الإحساس ولا يتأثر صاحبه به، إلا من حيث الاستلذاذ الطبيعي، فلا يظهر فيه ولا في سامعه إلا نقيض ما دل عليه مسموعه، لأن الحق إذا أتى من بساط الباطل عاد عليه شؤم بساطه، فكان عينه (1) لذلك.
قيل لحمدون القصار (2): ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام وحياة القلوب، وأنتم تكلمتم لنصرة النفوس وظهور المرتبة، انتهى بمعناه لا بلفظه لطول العهد به.
ثم الخواطر باعتبار جهاتها أربعة: الملك عن يمين القلب، والشيطان عن يساره، والنفس من خلفه، والخطاب الإلهي يأتيه من أمامه، ووجه القلب لناحية الظهر، كذا ذكره ابن أبي جمرة، ولا أدري من أين نقله، وهو صحيح في الوجدان، وباعتبار عرضها: فالملكي مثل غبش الصبح، والشيطاني مثل شعلة النار، يحدث به احتراقا وهوشة في البدن، والرباني كالشمس الضاحية، مع برودة تثلج الصدور ويتنعم بها، والنفساني مثل الفجر الكاذب، قائم واضح تعقبه الظلمة، ويظنه الظان حقيقة وليس بها.
وباعتبار أفعالها: فالشيطان متردد ولا يأتي إلا بشر أو بخير لا يعضده دليل، ويضعف بالذكر، والملكي متردد أيضا، لا يأتي إلا بخير معضود بالدليل، يقوى بالذكر، والرباني نكتة إلهامية في توحيد خاص، وهو راتب مصمم، فإن لم يكن في التوحيد الخاص، فهو لا يأتي إلا بخير، وقد
(1) أي: عين الباطل.
(2)
حمدون بن أحمد بن عمارة أبو صالح القصار النيسابوري، شيخ مذهب الملامة في نيسابور ومنه انتشر مذهب الملامة، كان عالما فقيها (ت 271 هـ) طبقات الصوفية ص 123.
يكون بشر امتحانا وابتلاء، فإن زاد مع اللجوء إلى الله، فعقوبة تحتاج إلى الاستغفار، وإلا فتذكير، أو نفساني لأنه يشاركه في التعميم، ويفارقه في انتفائه باللجوء والاستغفار والمجاهدة، ثم هو إن كان مع عجلة لا مع تأن، ومع أمن لا مع خوف، ومع عمى العاقبة لا مع بصارة العاقبة، فهو من النفس أبدا، وهذا كله إن لم يكن من الشرع في الترجيح واضح، فإن كان فهو المرجح.
وفي الحكم إذا التبس عليك أمران فانظر أثقلهما على النفس فاتبعه، فإنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقا، وفي (لطائف المنن): الذي يطلب العلم لله إذا قيل له: غدا تموت لا يضع الكتاب من يده، وقال المشايخ (ض): من عرف ما يدخل جوفه، عرف ما يجري في قلبه، لأن الحرام يطمس القلب، والشبهة تدهشه، والحرص يعميه، قال بنان الحمال (ض) (1): بقيت طاويا مطروحا على باب بني شيبة تسعة أيام، لم أذق شيئا، فنوديت في سري: من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه، أعمى الله عيني قلبه، قالوا: وكل وجد سري عن صاحبه فلم يؤثر فيه موافق ما سمع من القرآن والسنة، فسماعه بالنفس، ووجده بالشيطان أو بالطبع.
والحركة في السماع نقص كلها، وإنما الوجد بالاستلقاء والثقل، وقد سئل الشيخ أبو محمد عبد القادر (2)(ض) عن صفة الواردات الإلهية والطوارق الشيطانية، فقال (ض): الوارد الإلهي لا يأتي باستدعاء، ولا يذهب لسبب، ولا يأتي على نمط واحد، ولا في وقت واحد، والطارق الشيطاني بخلاف ذلك غالبا، انتهى، وهو شرح عجيب لا يصدر إلا من مثل هذا الإمام (ض) ونفعنا به بمنه وكرمه.
…
(1) هو بنان بن محمد الحمال، من جلة المشايخ، صحب الجنيد، وأسند الحديث، توفي بمصر 316 هجرية. طبقات الصوفية ص 291.
(2)
أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجبلي الحنبلي، شيخ بغداد العالم الصالح (ت 561) سير أعلام النبلاء 20/ 439.