الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرمة الربوبية بالإيمان والتقوى وقوة اليقين، ولزوم الباب لكل وجه حسب الإمكان والتيسير دون مشقة، وهو لمن وجد شيخا كاملا يربيه بحفظ حرمته معه حتى تنصبغ نفسه بذلك، فتكون معاملته للحق بعد أتم من معاملته مع الشيخ، ونفرد لتفصيل هذه الجملة فصلا وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
…
61 - فصل
في لوازم الفقير في نفسه ولوازمه في حق شيخه وحقه على
الشيخ وحقه على الفقراء وحق الفقراء عليه على الجملة والتفصيل
أما لوازمه في نفسه فهي أربعة:
أولها: لزوم الصدق في الأقوال والأفعال والأحوال، حتى يصير كله صدقا ظاهرا وباطنا، فلا تبقى له همة ولا إرادة ولا عزمة ولا قول ولا طريقة ولا حقيقة إلا دخلها من الصدق ما يحتاج إليه فيها، فيقلده الحق تعالى لذلك سيف الجلال والهيبة والتعظيم، كما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى:{في مقعد صدق عند مليك مقتدر} (1) وقوله تعالى: {أن لهم قدم صدق عند ربهم
…
} (2) الآية. قال شيخنا أبو العباس الحضرمي (ض): والصدق هو سيف الحق قلده الله أرباب الحقائق، ما وضع على شيء إلا قصمه، ولا تطيق الموجودات مقابلته ولا قوته، أعني مفاجأة الحق للعبد بما يحصل من الشهود والوجود الذي يحصل من الله لعبده، وهو تجل من التجليات، وهو نوع من تجلي الحق سبحانه، والله الموفق للصواب.
الثاني: الانحياش إليه تعالى في جميع الأمور من عوارض وأغراض
(1) القمر 55.
(2)
يونس 2.
وأسباب وأعراض ومحن وأمراض، بل جميع ما يحتاج إليه دفعا وجلبا مما قل وجل، وهو معنى قولنا حسبنا الله، أي: اكتفينا به عن كل مطلوب سواه بكل حال، ولذلك قال أبو علي الدقاق (ض): من علامة المعرفة ألا تطلب حوائجك كلها إلا من الله تعالى: قلت أو جلت، مثل موسى (س) اشتاق إلى الرؤية فقال:{رب أرني أنظر إليك} (1) واحتاج يوما إلى رغيف، فقال:{رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} (2) انتهى.
وثمرته الظفر بالمراد، قال الله تعالى في حق الذين قالوا:{حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم} (3) فاعرف ذلك وتأمله حقه تجد الكنز الأعظم، والإكسير الأكبر، والمسك الأذفر، والعنبر الأشهب في بابه، وبالله التوفيق.
الثالث: الرضى عن الله في جميع الحالات، قياما بحق الأمر في التكليف، وبحق القهر في التعريف، وثمرته الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة لقوله تعالى:{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} (4) قال عبد الواحد بن زيد (5)(ض): الرضى باب الله الأعظم، ومستراح العابدين، وجنة الدنيا، اتتهى وهو عجيب.
الرابع: إفراد الوجه في التوجه باتباع السنة، وشهود المنة كما تقدم تفصيله، فانظره هناك، وبالله التوفيق.
وأما لوازمه مع شيخه وحقه على الشيخ فأربعة تقابلها أربعة:
أولها: حسن القبول لما يلقيه إليه من أمر المعروف، أو حسن
(1) الأعراف 143.
(2)
القصص 24.
(3)
آل عمران 173، 174.
(4)
النحل 97.
(5)
عبد الواحد بن زيد البحري الزاهد، كان يصلي الغداة بوضوء العشاء أربعين سنة، وهو متروك الحديث (ت 177 هـ) العبر 1/ 138 وشذرات الذهب 1/ 287.
التخلص إن ألقى خلافه، حتى لا يعمل بمنكر ولا يستظهر بمخالفة، ويقابله كمال النصيحة، والاهتمام بالوارد والصادر من أحوالك عليه، لأنك مطروح بين يديه.
الثاني: حفظ الحرمة في الشهادة والمغيب، بأن تخدمه ولا تبالي، وتعادي لأجله وتوالي، ويقابله بذل المجهود في تحصيل المنافع العينية والغيبية، بأن لا يدخر (1) عليك مالا ولا جاها، ولا حالا ولا همة ولا غير ذلك، ليكون لك كما أنك له، فيلحظك بهمته، ويعينك بدعوته، ويؤيدك بعزمته، ولا يدع منك عورة إلا سترها، ولا خلة إلا سدها، ولا حسنة إلا عدها، إلى غير ذلك فافهم.
الثالث: حصر الأمر في جهته لكل مهم دنيا ودينا، فهو وسيلتك إلى الحضرة المحمدية، علما وعملا وحالا، وهي وسيلته إلى الله تعالى، فتمسك به بكلك، يكن لك بكله حتى يريح الحق تعالى خاطره من التهمم بك، بقضاء حاجته فيك، وهذا معنى قولنا: خاطرك، أي ليكن على بالك، لعل الحق ينظر إلى قلبك فيريحك منه، وكذا (كل)(2) شيء لله إذا قصد به الطلب، والله أعلم.
الرابع: أن تراعي أحواله معك فلا تتعدى أدبا في محله، والحالات أربعة؛ حالة يعاملك فيها بالأبوة (3) من التأديب والتدريب والتهذيب، وحقك فيها الرضى والقبول، وحالة يعاملك فيها بالأخوة من النصح والمعاضدة، وهو مقام التوبة والتقوى، وحقه عليك الثبات على العهد ولزوم العمل بالقصد، وحالة يعاملك فيها بالأبوة من الذب عن عرضك ومالك ومروءتك
(1) في ت 1: بأن لا يدخل.
(2)
في هامش النسحة خ: (لعل لفظة - كل - سقطت بين كذا وشيء وليحرر) والعبارة المشهورة عندهم قول الشيء لله كما يأتي في فصل 91 بدون لفظ كل.
(3)
لعل الصواب (بالبنوة) كما ورد في هامش النسخة خ، ولأن التمثيل بالأبوة يأتي فيما بعد.
ونحو ذلك، وحقه عليك في ذلك السمع والطاعة، وحالة يعاملك فيها بالمشيخة من التربية والترقية، وحقه عليك فيها ألا تكتمه شيئا من سرك، ولا تخالفه في شيء من أمرك، لأن الطبيب لا يقابل بالنظر والقياس، والله أعلم.
وأجمع ما في ذلك قول الشيخ أبي مدين (ض):
وراقب الشيخ في أحواله فعسى
…
يرى عليك من استحسانه أثرا
وأما حقه على الفقراء وحقهم فإسقاط الحق والكلفة مع وجود المحاسنة والألفة، فقد قال (ص): ((اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق جسن
…
)) (1) الحديث.
فخض أولا بالتزام التقوى، ثم الاستدراك بالتوبة عند الوقوع، ثم بمعاملة الخلق بالحسنى، ومرجع ذلك لأن تعامل الخلق بما تحب أن تعامل به أو أوفى، وتحقيقه أن تقدر نفسك في محل من تريد معاملته وبالعكس، فكل ما تريد أن يعاملك به عامله بمثله من غير تفريط ولا إفراط، ومدار ذلك على ملك النفس عند الشهوة والغضب، حتى يقع العدل في كلا الحالتين، ففي الخبر: ((ثلاث منجيات وثلاث مهلكات وثلاث درجات وثلاث كفارات، فالمنجيات: خشية الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه
…
)) (2) الحديث، رواه أبو نعيم وغيره، وفي
(1) خرجه الترمذي 4/ 355 من حديث أبي ذر (ض)، وقال: حسن صحيح.
(2)
عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 95 إلى الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر، وقال: فيه ابن لهيعة، ومن لا يعرف، ومن حديث أنس عزاه إلى البزار، وقال: فيه زائدة بن أبي الرقاد، وزياد النميري، وكلاهما مختلف في الاحتجاج به، والكفارات هي انتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السبرات ونقل الأقدام إلى الجماعات، والدرجات: إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام، وانظر كشف الخفاء 423.
الصحيح (1) قال (ص): ((المؤمن كيس فطن حذر، ثلثاه تغافل، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) (2).
وقال ابن مسعود (ض): خالط الناس وزايلهم ودينك لا تكلمنه (3) ويقال: الفقير مثل الأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح.
وقد قال عيسى (س) للحواريين: بحق أقول لكم أين تنبت الحبة، قالوا: في الأرض، قال: فكذلك الحكمة لا تنبت إلا في قلب مثل الأرض.
قال بعض المشايخ: طريقنا هذا لا يصلح إلا لأقوام كنست بأرواحهم المزابل (4) انتهى، وهذا القدر كاف لمن وفق في باب المعاشرة، وبالله التوفيق.
…
(1) لا وجود له في الصحيح، وهو سهو من المؤلف.
(2)
الجزء الأول من الحديث تقدم في فصل 49، خرجه الديلمي، وفيه أبان بن أبي عياش متروك، وليس فيه:((ثلثاه تغافل))، والجزء الأخير: ((والمؤمن الذي يخالط الناس
…
إلخ))، خرجه ابن ماجه 2/ 1338، والترمذي 4/ 622، وأحمد في المسند 2/ 43، من حديث ابن عمر (ض)، وحسن إسناده الحافظ في فتح الباري 13/ 125.
(3)
قول ابن مسعود (ض): ذكره البخاري تعليقا بلفظ: خالط الناس ودينك لا تكلمنه، قال الحافظ في الفتح 13/ 142 وصله الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال: خالطوا الناس وصافوهم يما يشتهون ودينكم لا تكلمنه، وأخرجه ابن المبارك في كتاب البر والصلة من وجه آخر عن ابن مسعود بلفظ: خالطوا الناس وزايلوهم في الأعمال.
(4)
هو من كلام أبي بكر نصر بن أحمد بن نصر الدقاق الكبير، كان من أقران الجنيد، انظر الطبقات الكبرى 1/ 76.