الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
35 - فصل
في ذكر شبهتهم في ذلك وفيما قبله
.
وهو أن المريد المشرف على غير الحقيقة يتعين عليه إفراد الوجه بكل حال، فلا ينطق إلا بذكر مناسب لحاله، ولا ينظر إلا بفكر مناسب لأمره، ولا يتحرك إلا بحركة مناسبة لتوجهه، حتى تنصبغ حقيقته بمعاني ما فتح له، فيعود للأحكام العامة، وإنما يعمل بذلك دواء لعلة تفرقته عند آخر أمرها، وهي مرتبة لا تجوز للمبتدئ لعدم تهييئه لها، فكيف بالناسك المقتدي، لأن شأنه اشتغال عوالم جنسه، وحفظ النظام بوجهه بالتزام التقوى، ثم بالاستقامة، حتى إذا استكملنا فيه، طولب بمراقبة أنفاسه، وعند ذلك يسوغ له الاستئذان في كل شيء، لغليان قلبه، وجريان الخواطر عليه مع الأنفاس، وحركات أحواله مع التقلبالت، ليسلم من الغلط، ويبرأ من الرعونة والدعاوى، ويهتدي فيما دق كما اهتدى فيما جل، وما لم يفعل ذلك كان الغلط والضلال والضرر أقرب إليه من كل شيء، حتى إذا صار فيه ذلك كالمطبوع، نقل لتحقيق الحقيقة بإفراد الوجه وإخلاء الباطن عن الغير، وهنا يضيقون عليه أنفاسه، ويضبطون عليه حواسه، ويمنعونه المخالطة والمماسة، حتى إذا صح توجهه، ألقوا إليه ما يصلح له من الذكر المفرد، اللائق به على حسب ما يرونه من شاهد حاله، ثم إذا تمكن ذلك منه عادوا به للمبادئ في الصورة، وإنما هو لتكميل الحقيقة، فالنهاية الرجوع للبداية، وليست البداية التعلق بالنهاية، فمن طلب بداية في نهاية فاتته العناية، ومن طلب نهاية في بداية حصل على الغواية، وما هو إلا كمن يريد منفعة الإكسير (1)، في المعدن قبل تطهيره، فيتلفه بغير منفعة، وهذه حالة هؤلاء المساكين الذين بادؤوا المبتدئ بالتجريد، فخرجوا به إلى محل النفي والتبعيد، واغتروا في ذلك بحركات المشايخ مع المريدين الذين علمت، همتهم، إما بسلوك سابق، أو بجذب غالب،
(1) الإكسير: الكيمياء، انظر تاج العروس (كسر).
فلم يبق فيهم بقية، رزقنا الله البصيرة النافذة، ومن علينا بكل جدوى عائدة، بمنه وكرمه.
36 -
فصل
في الإحداد (1) بالصوم وغيره عقوبة أو كفارة لما يقعون فيه.
وهو أمر اجتهادي لا ينكر من حيث نفعه في التربية، لكن المنكر منه قولهم: من فعل كذا فعليه كذا، مثل قولهم: من استيقظ ليلا ثم غلبته عيناه عن حزبه فعليه صيام يومه، ويدعون أن ذلك تأديب للنفس، وعقوبة لها، وإجبار لما فات من عمل ليلتها، وكل ذلك لا يصح، لوجوه ثلاثة:
أحدها: أن التأدب لا يجري على نمط واحد في النفوس المختلفة، فمن الناس من لا يبالي بالصوم ويؤثر فيه غيره، فيكون صومه زيادة عليه في غير حاصل، كما حكي عن بعضهم أنه جعل على نفسه كلما اغتاب صام يوما، فلم ترجع، فجعل كلما اغتاب تصدق بدرهم، فانزجرت (2) وربما عينا عكسه.
الثاني: أن العقوبة إنما تكون بالمؤلمات وغالب المتوجهين في .. يتهم، الصوم لهم ملائم، وربما زادهم جرأة وتقوية، فلا يصح أن يكون عقوبة لكل نفس، وهو أمر واضح.
الثالث: أن الكفارة والإجبار لا يكون إلا بما كان سنة أو خبرا غير معارض بشيء من الشريعة، وهذا معارض في الأصل والفرع، أما المعارضة
(1) أي: إيقاع حد وعقوبة بالصوم.
(2)
في ترتب المدارك 3/ 240: قال ابن وهب صاحب الإمام مالك، قال: جعلت على نفسي كلما اغتب إنسانا صيام يوم، فهان علي، فجعلت عليها كلما اغتبت إنسان صدقة درهم، فثقل علي وتركت الغية.
في الأصل فقولهم: من فعل كذا فعليه كذا، ولو لنوع من الناس - يضارع التشريع - إذ لا يقول ذلك، في أمر الدين سواه (ص)، ومن فعله سواه فقد ضاهاه في إثبات الأحكام، ومن ضاهاه في ذلك فهو شر المبتدعة، وسواء في النفي والإثبات، وأما المعارضة في الفرع، فهذا محل قد يثبت فيه من الشارع حكم عام، فلا يصح تخصيصه إلا بأمر منه، ولا أمر، فالمخصص كذلك دونه مبتدع، والحكم الثابت من الشارع صلوات الله وسلامه عليه في ذلك هو قوله (ص):"من فاته ورده من الليل فصلاه بينه وبين الزوال، كان كمن صلاه من الليل، وكان نومه عليه صدقة"(1) كذا رواه مسلم في صحيحه، ولم يفرق (ص) فيه بين حالة وحالة، فمن أين جاء التخصيص؟ أو من التعدي على أمر الله ورسوله؟ وقد قال تعالى:{وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} (2) وقال صلوات الله وسلامه عليه: "من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها لا كفارة لها إلا ذلك"(3) أقم الصلاة لذكري، هذا في الفرض، حصر الكفارة في وجوه الاستدراك من غير زائد، فما ظنك بالنافلة، أعاذنا الله من الابتداع في الدين، وسلك بنا مسلك المتقين بمنه، ثم إنا لا ننكر أن يكون للتربية وجه في ذلك، لكن لا بطريق العموم، بل على حسب ما يعطيه الحال من فراسة الشيخ فيه، وما يراه صالحا له ولائقا به في تربيته، فإن تحقق أن نومه من شبعه، وأن صومه يؤلمه أمره به، وإن تحقق غير ذلك عامله بحسبه، لا أنه يجعل ذلك قاعدة كلية، وأمرا ثابتا في الدين، فافهم، وبالله التوفيق.
…
(1) خرجه مسلم 1/ 515، ومالك في الموطأ 1/ 200، وأحمد في المسند 1/ 52، من حديث عمر بن الخطاب (ض)، عن النبي (ص)، وليس في حديثه: وكان نومه عليه صدقة. وخرجه النسائي 3/ 215، من حديث عائشة وفيه: وكان نومه صدقة عليه.
(2)
الفرقان 62.
(3)
انظر الموطأ 1/ 41، ومسلم 1/ 475.