الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصراط: "رب سلم سلم"(1) فكيف يكون لغيرهم كلام أو نسبة، ويرحم الله سيدي أبا العباس الحضرمي (ض)، حيث يقول في كتابه (صدور المراتب): وما ندري وما أحد من الناس يدري ما يفعل الله به وبغيره، أعاذنا الله من المحن والفتن بمنه وكرمه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
…
39 - فصل
فيما أحدثوه من أخذ العهد
وخالفوا به الحقيقة والقصد
.
وذلك لا يختص بهذه الطائفة، بل لغيرهم فيه قدم وشرط، وجملة ذلك عشرة أوجه:
أحدها: رحلتهم في طلب أخذ العهد على الناس، والنزول عليهم في بلادهم لذلك، وفيه من الابتذال ما لا يخفى، ومن مخالفته فعل القوم ما لا ينبغي، فإن قالوا: حرصا على هداية الخلق، قلنا: لم نر للهداية بارقة إلا في حق من دعاه قلبه لذلك، وهو الذي يطلب، لا أنه الذي يطلب، وفي شهرة الشخص كفاية لطالب الخير، ولو انفرد هذا الأمر لكان له وجه ضعيف، لكن بإضافته لغيره صار قبيحا.
الثاني: حمل الناس على ذلك بالقهر مرة وبالحيلة أخرى، مع اكتفائهم منهم بمجرد ذلك وإن كانوا جهلة، وإشداد الأمر عليهم إن تأبوا عنهم وكانوا رؤوسا، أو ممن ترجى لهم الرياسة، وهو أمر لا خفاء في قبحه أيضا، وقد أخبرت بوقوع ذلك من جهة أثق بها، عن جهة هي أمثل من رأيت في ذلك، والله أعلم.
(1) في الصحيح من حديث أبي هريرة (ض): "
…
ويضرب جسر جهنم، قال رسول الله (ص): فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ:"اللهم سلم سلم"، البخاري مع فتح الباري 14/ 250.
الثالث: قبول كل أحد فيه على ما هو عليه، وتقريره على ما هو به من حسن أو قبح، دون انتقال إلى خلافه، سوى صورة طريقهم الذي غالب أمره بدعة، وما كان منه سنة، قد تركوا به ما هو آكد منه، وهو إلزام التقوى بترك الغيبة والريبة والكذب والخيانة إلى غير ذلك من أمور الدين التي لا يعرجون عليها.
الرابع: اعتقادهم أن التوبة لا تصح إلا بمتوب (1)، ولا تكمل إلا بشيخ، وإنه لا يصح أن يكون إلا من خرقتهم (2) وإن كان من غيرهم، فإما أن يسلموه على استنقاص وإما أن يطعنوا فيه، وهو شيء خارج عن الحق، فيرحم الله الشيخ أبا العباس بن الحسن نزيل تلمسان، حين جاءه بعض أصحابنا ليتوب على يديه فقال: إذا جاءتك التوبة فلا تتوقف علي، بل لا تأتيني إلا بعد تحصيلها إما طلبا للدعاء بالثبات، وإما لتعلم لوازمها، فكف.
الخامس: اعتقادهم أن الشيخ كاف عن العمل، والعمل لا يصح بعد العهد إلا بالشيخ، وهو أمر فاسد للبطالة في الأول، ولمخالفته الحق في الأمر الثاني، فقد جاء رجل لسيدي عبد السلام بن مشيش (3)(ض)، فقال له: أريد أن أستأذنك في مجاهدة نفسي، فأجابه بقوله تعالى:{لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين * إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون} (4) فالتوبة لا تحتاج إلى متوب والمجاهدة لا تحتاج لإذن، لكن لمذكر حتى يقع الندم، ثم لمعلم حتى يعرف الحق، ثم لمعين حتى يحصل الثبات، وهو كمال لا شرط، والله أعلم.
(1) أي: شيخ يتوب على يديه.
(2)
لعل المعنى: ممن ليس خرقتهم.
(3)
عبد السلام بن سليمان بن ملك، ملقب مشيش، أحد أقطاب التصوف (ت 622 هـ) جامع كرامات الأولياء 2/ 167.
(4)
النور 44، 45.
السادس: اشتراط بعضهم على مريده أن يعتقد فيه العصمة، وأن كل ما يصدر منه حق في نفس الأمر، وإن خالف الحق بصورته، ثم يضيق (1) عليه المباحات، ويسمح له في الواجبات، ولا ينبهه على المحرمات، ولا يعرج له على رد المظالم، ولا قضاء الفوائت ولا استدراك الوقت، ولا الحذر من أسباب المقت، بل يهمله إن كان ضعيفا، ويستخدمه إن كان قويا، ويستعين به إن كان فقيها، ويغلطه في نفسه إن كان له فهم، بأن يريه أن كلما يصدر منه من الفهوم ونحوها قبح، فإن قدمه على جماعة فقد شغله بما لا يمكن فلاحه بعده من الرئاسة، التي قطعت ظهور الكبار، فضلا عن هذا المسكين، أعاذنا الله من البلاء بمنه.
السابع: أن يصيره بعد أخذ العهد مملوكا لا يباع، وأسيرا لا يفدى، إذ يقيمه خديما للطاحونة، وحليفا للمسحاة، ويبقى معه لا روح له ولا مال، ولا ولد ولا أهل، ولا حول ولا حيلة، فيأخذه بأمور لا تطاق من غير شفقة ولا رحمة، ويريه أن ذلك في حقه منفعة، وتطهير لسره، قائلا: السر في التراب، والحكمة في الخدمة، ويذكر من الأمور الظاهرة على مشايخه من الآثار النفسانية ما يخفف عليه ذلك، ومنهم من يكتسب من مريده بالأخذ من ماله، وحجة من يكتسب على مريده، بأن يوجهه للسؤال، ويريه أن ذلك صلاح له في الحال والمآل، وأن مراده به إخماد نفسه، وإظهار صدقه، وزوال كبره، وما هو إلا سقوط المروءة، وثبوت دعوى الاختصاص، والفضيحة، وإجابة داء الطمع، والعياذ بالله، ومنهم من يكتسب من مريده، بحيث يكون له جاه أو شهرة، فينال بنسبته إليه مزية ومنزلة، فيأخذ من أموالهم، وينال من أغراضهم ما يريد، بسبب اشتهاره بمشيخة فلان، حتى اضطرهم هذا المعنى إلى إدخال أقوام لهم جاه غير مستقيم والتبجح بهم، والاستظهار بنسبتهم لهم، إلى غير ذلك، أعاذنا الله مما ابتلاهم به بمنه وكرمه، وهذا الأمر وإن لم يشعروا به قصدا، فهو كامن
(1) في ت 1: (لم يضيق).
في النفوس، وما يظهر من تأويله بوجه الحق، فمن غدرها (1)، الناشئ عن العلم، المتولد من تمكن الهوى، والله أعلم.
الثامن: التزام الأسلوب الغريب الذي تنقاد إليه النفوس لغربته، من غير مبالاة بالدين، ولا تعريج عر سنن أئمة المهدين، حتى لو ذكر بشيء من ذلك لقالوا: هذا علم الكتاب، والذي عندنا علم القلوب، ولقد انجر الأمر ببعض من خذله الله عند سماع بعض تلك الحكايات إلى أن قال: ما ظاهر الشريعة إلا حرمان، وهذا الكلام عين الضلال والحرمان، أعاذنا الله من البلاء بمنه. التاسع: فطم التائب عن كل علم وعمل سوى ما عندهم، وليس عندهم إلا ما علم من البدع والكيفيات، فهي خيانة إن قصدت في الفرع، وإن لم تقصد في الأصل بوجود الجهل، حتى انجر الأمر ببعضهم إلى استباحة المحرمات، والتصريح بالمنكرات، ورؤية ذلك عين الكمال، فلقد رأيت من لا يشترط على مريده سوى مخالفة مذهب مالك في مسائل خاصة إلى الرخصة (2) ورأيت من صرح بأن فلانا يرى الله جهرة، وهو والعياذ بالله خروج عن الإجماع أو قريب منه في إثبات الحكم (3) فكيف مع تعيين الشخص، وما هو بمستقيم الحالة، أعاذنا الله مما ابتلاهم به بمنه وكرمه.
العاشر: سوء الملكة، وقوة التعصب بذكر الموالاة والمعاداة، وأن صدق الهمة في الشيخ بمعاداة من عاداه وموالاة من والاه، فاضطرهم ذلك إلى المفاخرة والعناد والمنارعة، وقلة المبالاة بحرمة المشايخ، بل المسلمين جملة، فلا تسمع إلا غوثا (4) وتشويشا ودعاوى كاذبة، ونفوسا خائبة، بل لا تسمع إلا "شيخنا وشيخكم"، "ونحن وأنتم"، "وطريقتنا وطريقتكم"،
(1) أي: غدر النفس.
(2)
أي: راجعة إلى الرخصة.
(3)
أي: حكم رؤية الباري عز وجل في اليقظة مجمع على منعها.
(4)
هكذا وردت، ولعل الصواب (هوشا) بمعنى هياجا واضطرابا كما في القاموس المحيط (هوش).