الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأن الحال اليوم على ما وصفناه، وكنت تأتيني باكيا على نفسك، وأنا أيضا كذلك عسى الله أن يرحمنا، إلا إن رضيت لنفسك أن تكون منافقا مداهنا، وللمداهنين إماما، لا والله، لا أرضى والله بهذه الحالة لمسلم، فتب إلى الله تعالى، وراجع ربك لعله يرجع إليك ما كنت عليه من الخير، وتعال نقم مأتما ومناحة على التقصير في العمر اليسير، والاشتغال بالترهات والفرح بالخزعبلات، بل أصل الأباطيل، والله نقول: إن من ثقل عليه هذا الكلام، فهو بتلك الصفة التي وصفنا، ولهذا قلق، ولو كان بريئا منها، سكن كما يسكن عند ذكرنا ذم السراق والقطاع وأشباههم، ولما كان (1)، في هؤلاء مدخل فر إلى الاعتراض، ليزداد من الله بعدا في رده الحق، وليس اعتراضه علينا في هذا بأول دمع جرى على طلل، لم يزل أبدا كل من يتكلم في معايب النفوس وأحوالها، ويبدي نقائصها ويذم شأنها على التعيين وعلى غير التعيين - في كل زمان - مذموما عند أهل زمانه، لعدم موافقته أغراض النفوس، فإذا انقرض زمانه ومات، نشأت طائفة عند ذلك تعرف قدر ما جاء به ويقال: قال فلان (ض): هكذا كان الناس، انتهى كلامه في هذه الفصول التي فصلناها، وإلا هو لم يفصل شيئا، وبالله التوفيق.
…
99 - فصل
ثم أخذ بعد انتهاء كلامه المتقدم في محاسبة نفسه على ما هو به
، ومشى في هذا إلى ذكر السماع، فقال رحمه الله: وروينا من حديث إبراهيم بن عبد الله بسنده إلى رجل من أشجع (2) قال: سمع الناس من المدائن
(1) أي: المتكلم عنه وأمثاله.
(2)
نقل المؤلف هذه الحكاية الطويلة المنسوبة إلى سلمان بهذا السند وفيه رجل مجهول، وذكر أولها أبو نعيم في الحلية 1/ 203 بقوله: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، ثنا أبو العباس السراج، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جرير، عن الأعمش، عن عبيد بن أبي الجعد، عن رجل من أشجع، قال: سمع الناس بالمدائن وهي عنده تنتهي عند قول ابن عربي هنا: ((قرأت عليكم كتاب الله فذهبتم)) .. إلخ.
أن سلمان في المسجد فأتوه، فجعلوا يثوبون إليه حتى اجتمع إليه نحو من الألف، قال: فقام فجعل يقول: اجلسوا اجلسوا، فلما جلسوا افتتح سورة يوسف يقرأها، فجعلوا يتصدعون ويذهبون حتى بقي نحو من مائة فغضب، وقال: الزخرف من القول أردتم، قرأت عليكم كتاب الله فذهبتم، ناشدتك الله يا نفسي فهذا مجلس حق فأصدقيني؟ هل سمعت قط كتاب الله يتلى فلم تهتزي، فلما أنشدت الشعر اهتزت وجننت وأخذك الحال.
فقالت: ذلك والله ديدني ودائي أبدا، بل والله أزيدك ما هو أنحس من هذا مما أنا عليه، إني أقرأ القرآن ويدركتى العياء، وأقول لك: والله لا أقدر على شيء، وقد ضعفت وكل خاطري، فتجيبني إلى ذلك، وتترك المصحف من يدك والتلاوة من لسانك، فما تلبث أن ننهمك على مقطعة من كلامك أو كلام غيرك، في أي فن كانت، فتفتح فاك بها وتترنم، وترتلها مترسلا على طريقة تستحسنها، نشيطا طيب النفس وما بك من كسل ولا عياء، فلو كان ذلك الكل والعياء حقيقة مني لاستصحبك، وإنما ثقل علي القرآن، وكنت أجعلك في تلاوته تحدر ولا ترتل حتى تسريح، وكذلك في أوراد العبادات التي يجب التثبت فيها، وذلك كله خديعة مني بك، أترى هكذا حالة المؤمن؟ لا والله.
بل كلام الله للمؤمن ألذ وأشوق إلى سماعه من الظمآن للماء الزلال، فإنا لله وإنا إليه راجعون على نفص الإيمان، بل والله ذهابه، يا شؤم نفسي ويا حسرتي، ويا أسفي كم والله سمعت آية من كتاب الله فثقلت علي ومججتها، وكم والله رنة شعر سمعتها فاستعذبتها، أخاف والله يا وليي على نفسي وعلى من هو مثلي أن ينقل اسمي من ديوان المؤمنين إلى ديوان من قال فيهم رب العالمين:{وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} (1) وقد اتصفت بهذا: {وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} (2) وقد اتصفت بهذه، وإلى قوله: {ذلكم بأنه إذا دعي الله
(1) الزمر 45.
(2)
الزمر 45.
وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنون} (1) يقول القوال: زخرف القول وغروره، فأهتز وأقوم، وأقول شاباش (2) هذا والله حسن، وأقسم بالله كاذبا، ولا يزال الملعون من شيطانى يوقعنى ويزين لي كما يفعل صاحب القرد بقرده، فإذا أخذ حاجته مني صفعني صفعة فأضجعني، فيقوم من قل فلاحه فيغطيني بردائي حتى يخلى سبيلي وأقوم فأهنأ، وقد عزاني الملأ الأعلى في ديني، وفيما نقص من عقلي، فإذا كان آخر الليل أنا وجماعة السوء مثلي، وقد تعبنا من كثرة ما رقصنا، فلم نلحق ننام إلا والصبح معنا قد قام، فنقوم نتوضأ أقل ما يطلق عليه اسم الوضوء، ثم نجيء إلى المسجد، هذا إذا وفقت، وإلا فالأغلب على من هذا حاله أن يصلي في داره بإنا أعطيناك الكوثر، وسورة الفاتحة، كيف ما كانت، والقنوت ليس بواجب فاتركه، وأنقرها مخففة جدا، ثم أضطجع، هيهات ما كانت طريق الله هكذا.
وإن كنت موفقا أكثر من غيري، توضأت وخرجت إلى المسجد، وإذا دخلت - ويقال لي: قد صلى الناس - فلا أجد لذلك حزنا، ولا أكترث به، بل أقيم الصلاة وأصلي وكأنه ما فاتني شيء إلا لاهي القلب مسرورا، ونقول بلسان الحال: قد جعل لي أجر الجماعة بقصدي، وأراحني الله من تطويل الإمام، وإن أدركت الصلاة مع الإمام، فأنا في تلك الصلاة على أحد وجهين؛ إذا كنت مستريح القلب من كل شيء، إما خاطري في ليلتي البارحة وحسنها، وما كان أحسن ذلك القوال وشعره، وأقضي صلاتي كلها في هذا، حتى لا أدري ما صلى الإمام ولا بما صلى، وإنما رأيت الناس يفعلون شيئا ففعلت، ركعوا فركعت، وسجدوا فسجدت، ووقفوا فوقفت، وجلسوا فجلست، - أو يكون النوم قد أخذ مني، وهي الحالة الثانية، فأترقب عند ذلك فراغ الإمام، وتثقل علي القراءة، وأغتاب الإمام في نفسي وأمقته، وأقول: ما أثقله، قد افتتح سورة الواقعة والحشر، هلا قنع بالانفطار والفجر، والنبي (ص) قد أمر بالتخفيف، هذا خلاف السنة، ونحوقل ونهلل، كل ذلك لغير الله.
(1) غافر 12.
(2)
لعلها تحرفت في العامية إلى قولهم: شايش.
أما تستحي من الله وقد وقفت البارحة مسخرة للشيطان وملعبة له، ورقبتك مصفعة له، وناصيتك بيده، وأنت في هذا كله تلتذ، ثم الداهية العظمى، والطامة الكبرى، والداء العضال، والمصيبة الآزفة، التي ليس لها من دون الله كاشفة، أني أقول في تلك الحالة كلها: إني مع الله، وفي الله، وبالله قمت، وفي الله شطحت، وإلى الله وصلت، وقلت: وقيل لي، ويعتب (1) لذلك هؤلاء بالغمر الجهال مثله، فيقول: لم لم تسألوني إذ رجعت من حالي، ولو سئل لافتضح، ولو فرضت أنه أجاب، فقد يجيب الكاذب عما يسأل عنه، ويؤيده الشيطان بخيالات ينصبها له ويبديها في سره، فيعبر عنها، قل الله تعالى:{وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} (2) الآية، فهذا ولي الشيطان ينطق بلسانه وهو مطيع له، فانتظم في أهل الشرك، فناهيك من مجلس يحوي ويضم المشركين وأولياء الشيطان، ثم قال: وأخبرني شيخي وكان من أهل الكشف والوجود، عن رجل أعمى البصر من الصالحين، حضر مبيتا في سماع بمدينة فاس، فقال الأعمى: هذا إبليس قد دخل على صورة معز، فرآه يشم واحدا واحدا. قال الشيخ: وقعد الأعمى ينعت الجماعة الأول فالأول على التتابع، كما هم عليه من اللباس والصورة، وهو يقول: نرى الملعون يمشي عليهم ناظرا إليهم، حتى قال: نراه واقفا عند واحد عليه غفارة حمراء، وعمامة، وإحرام، التفتوا إليه، قال: فالتفتنا إليه، فرأيناه يستجلب الحال، فقال الأعمى: إن الملعون قد توقف عند هذا الرجل، ثم قال: نراه يريد أن ينطحه بقرنه، ثم قال: قد حمل عليه فنطحه بقرنه، فإذا ذلك الرجل قد صاح صيحة عظيمة، وغلب عليه الحال، وقام يشطح، فقام المجلس لقيامه، وهو بهذه المثابة ما أحسن قول الله تعالى إذ يقول:{وما علمناه الشعر وما ينبغي له} (3) فناهيك من حطة لم يرضها لنبيه (ص) وقال: {إن
(1) أي: يعتب عليهم ويلوم: لم لم تسألوني.
(2)
الأنعام 121.
(3)
يس 69.