الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا - النص
مقدمة المؤلف
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم، قال الشيخ الفقيه الإمام الصالح، العلم الأوحد، الشهير الصدر الكبير، أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي، عرف بزروق رحمه الله آمين-:
الحمد لله الذي رفع عماد السنة وأعلى منارها، وخفض بساط البدعة وكسف أنوارها، وأوضح شواهد الحقيقة (1) وأظهر أسرارها، وكشف طرائق الباطل وطمس آثارها، وأحكم بناء التحقيق وشيد أسوارها، وأمر باتباع السنة وألزم إيثارها، فالسعيد من استبصر فأبصر، والموفق من نبه فتذكر، والمحروم من وقف فتحيرا فلا هو مقتول ففي الموت راحة، ولا هو ممنون عليه فيعتق، والشقي من بدل في الدين وغير، جعلنا الله من الفرقة الناجية، ومتعنا بالسنة في هذه الدار الفانية، وشملنا في الدارين بالعافية، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أما فبل، ومع، وبعد، فإن في كل واد بني سعد، من اطمأن إليهم أتلفوه، ومن تعلق بهم كشفوه، ومن استغاث بهم أوقفوه، أعني الذين اتخذوا الجهل مهادا، والبدعة وسادا، والهوى عمادا، وادعوا أن ذلك هو الدين
(1) الحقيقة: مشاهدة الربوبية بالقلب، وهي سر معنوي لا حد له ولا جهة، وهي والطريقة والشريعة متلازمان، انظر الرسالة القشيرية ص 44 وحاشية ابن عابدين 4/ 239.
القويم، والصراط المستقيم، فرفضوا السنة والجماعة، ووصفوا المعصية وصف الطاعة، وتركوا السنة وأسبابها، وآثروا البدعة وفتحوا أبوابها، فكانوا دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، كما أخبر الرسول (ص) فيما أخرجه البخاري عن حذيفة بن اليمان (ض)، قال: "كان الناس يسألون رسول الله (ص) عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت:
يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال:"نعم"، قلت: فهل بعد ذلك الشر (1) من خير؟ قال:
"نعم، وفيه دخن"، قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم (2) يهدون يغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال (3): "دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال:
"هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال:
"تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك"(4) وكان (ص) يقول في خطبته: "إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد (ص)، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وصاحبها في النار"(5)، رواه النسائي من طريق جابر، وأصله في مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام:"ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة"(6)، أي السنة، لقوله في الرواية الأخرى: "ما أنا عليه
(1) في ت 1 زيادة: (فهل بعد ذلك الخير من شر).
(2)
في ت 1: يستنون بغير سنتي.
(3)
رواية البخاري بلفظ، قال:"نعم، دعاة على أبواب جهنم".
(4)
البخاري مع فتح الباري 16/ 144.
(5)
النسائي 3/ 153، بلفظ: "إن أصدق الحديث
…
،
…
وكل ضلالة في النار"، وأصل الحديث في مسلم 2/ 592.
(6)
الترمذي 5/ 25، وأبو داود 4/ 197، وابن ماجه 2/ 1321، من حديث أبي هريرة، دون قوله:"ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة"، وهذه الزيادة وردت بلفظ:"كلها في النار إلا واحدة"، من طريق ابن عمر ومعاوية وعوف بن مالك، وكلها ضعيفة، ومن =
وأصحابي" (1) وقال سفيان الثوري (2) (ض): "لو أن فقيها في رأس جبل لكان هو الجماعة" (3) ونحوه عن ابن المبارك (4)، وغيره، وبذلك فسره ابن أبي جمرة (5) في حديث حذيفة (ض)، وفي تمام الحديث المذكور: "وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى فيه عرق ولا مفصل إلا دخله" (6) نسأل الله السلامة، وقال رسول الله (ص): "إذا ظهرت البدع وسكت العالم فعليه لعنة الله" (7).
وقال (ص): "يحمل (8) هذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"(9) وما ذلك إلا
= صححها قواها بانضمامها إلى بعضها، وقد حذر بعض أهل العلم من هذه الزيادة ورأى أنها موضوعة، وليست من الحديث، لا يؤمن أن تكون من وضع الملاحدة لإثارة الفتنة، وطعن كل فئة من المسلمين على الأخرى، ورميها بالكفر والتضليل، فابن حزم رد الحديث بهذه الزيادة في كتاب الفصل 3/ 292 من جهة سنده، وقال الشةكاني في تفسير قول الله تعالى:{ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا} - من سورة المائدة-، قال: أما زيادة: كلها في النار إلا واحدة فقد ضعفها جماعة من المحدثين، بل قال ابن حزم: إنها موضوعة.
(1)
الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: غريب، والحديث حسن.
(2)
هو سفيان بن سعيد توفي 161 هـ، انظر طبقات الحفاظ 1/ 203.
(3)
قال عبد الله بن مسعود (ض) لعمرو بن ميمون: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ، انظر إغاثة اللهفان 1/ 85.
(4)
توفي 181 تذكرة الحفاظ 1/ 274.
(5)
أبو محمد واسمه عبد الله، له:"بهجة النفوس" شرح مختصر البخاري، فقيه عابد توفي 699 هـ، نيل الابتهاج ص 140.
(6)
أبو داود 4/ 198، من حديث معاوية بن أبي سفيان.
(7)
زيادة من خ، في الجامع الصغير ص 31:(إذا ظهرت البدع ولعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فلينشره، فإن كاتم العلم ككاتم ما أنزل الله على محمد (ص)، عزاه لابن عساكر عن معاذ، وهو ضعيف.
(8)
في ت 1: يجيء.
(9)
خرجه البزار من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بلفظ: "يحمل هذا العلم. . . إلخ"، وقال: فيه خالد بن عمرو القرشي، منكر الحديث، قد حدث بأحاديث لم يتابع عليها، وهذا منها، وعزا الهيثمي الحديث إلى البزار، وقال: فيه عمرو بن خالد، أقول:(الصواب: خالد بن عمرو)، كذبه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ونسبه إلى الوضع، انظر مختصر زوائد مسند البزار 1/ 221، ومجمع الزوائد 1/ 145.
بالتبصر في الدين، قال الله تعالى:{قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن تبعني} (1) وقال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (2) وقال عز وعلا: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (3).
قال الجنيد (4)(ض): الصراط المستقيم طريق محمد (ص)، وقال أيضا:
الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى سنة الرسول (ص)، وقال أيضا:
علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء، ويأخذ أدبه عن المتأدبين أفسد من اتبعه.
وقال سهل بن عبد الله (5)(ض): بنيت أصولنا على ستة أشياء:
كتاب الله، وسنة رسوله (ص)، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق (6) وقال أبو عثمان الحريري (7)(ض) من أمر
(1) يوسف 108.
(2)
النحل 125.
(3)
الأنعام 153.
(4)
هو أبو القاسم الجنيد بن محمد، سيد الطائفة وإمامهم، توفي 297 الرسالة القشيرية 287.
(5)
هو أبو محمد سهل بن عبد الله التستري أحد أئمة القوم، توفي 283 هـ الرسالة القشيرية 267.
(6)
قال الشاطبي في الاعتصام 2/ 349: إذ قال إمامهم سهل بن عبد الله التستري: مذهبنا مبني على ثلاثة أصول: الاقتداء بالنبي (ص)، في الأقوال والأفعال، والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع الأعمال.
(7)
في ت 1: الخير، وكله تحريف، والصواب: الحيري، وهو أبو عثمان سعيد بن إسماعيل النيسابوري الحيري، محدث، صوفي، ذكر الذهبي في فضله حكاية، قال: لما قتل احمد بن عبد الله الخجستاني - الذي استولى على البلاد - الحافظ الذهلي أخذ في الظلم والعسف، وأمر بحربة فركزت، وجمع الأعيان، وحلف إن لم يصبوا الدراهم حتى يغيب رأس الحربة، فقد أحلوا دماءهم، فكانو يقتسمون المغارم بينهم، فخص تاجر بثلاثين ألف درهم، ولم يكن يقدر إلا على ثلاثة آلاف، فحملها إلى أبي عثمان، وقال: أيها الشيخ، قد حلف هذا كما بلغك، ووالله لا أهتدي إلا إلى هذه، قال: تأذن لي أن أفعل فيها ما ينفعك؟ قال: نعم، ففرقها أبو عثمان، وقال للتاجر: امكث عندي، وما زال أبو عثمان يتردد بين السكة والمسجد حتى أصبح، وأذن =
السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة، قلت: وهو أن يأتي بأمر لا وجه له ولا دليل من صاحب الشريعة، كان خيرا أو غيره (1) قال الله تعالى:{وإن تطيعوه تهتدوا} (2).
وقال أبو العباس بن عطاء الله (3)(ض): من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب (ص) في أوامره وأفعاله وأقواله وأخلاقه.
وقال أبو حمزة البغدادي (4)(ض) من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلى الله تعالى إلا متابعة الرسول (ص) في أقواله وأفعاله وأحواله.
وقال أبو القاسم النصراباذي (5)(ض): (أصل الخوف ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، وتعظيم حرمات المشايخ، ورؤية أعذار الخلائق، والمداومة على الأوراد، وترك الرخص والتأويلات.
قلت: هذه هي الأصول التي من ضيعها حرم الوصول، وأكثر أهل الزمان على ذلك، إلا من عصم الله سبحانه وتعالى، وقليل ما هم، وقد
= المؤذن، ثم قال لخادمه: اذهب إلى السوق، وانظر ماذا تسمع، وهو في مناجاته يقول: وحقك لا أقمت ما لم تفرج عن المكروبين، (أي: لا أقمت الصلاة)، قال:
فأتى خادمه يقول: وكفى الله المؤمنين القتال، شق بطن أحمد بن عبد الله، فأخذ عبد الله في الإقامة. قال الذهبي: بمثل هذا يعظم مشايخ الوقت. وقوله الذي استشهد به المؤلف ذكره الذهبي في ترجمته. انظر سير أعلام النبلاء 14/ 6.
(1)
زيادة من خ.
(2)
النور 54.
(3)
هكذا ورد بالأصول، والصواب: ابن عطاء الأدمي، اسمه أحمد بن محمد بن سهل من علماء مشايخ الصوفية، وما نقله عنه زروق هو عن ترجمته في طبقات الصوفية، توفي 309. طبقات الصوفية ص 265.
(4)
اسمه محمد بن إبراهيم، صوفي عالم بالقراءات، توفي 289 هـ طبقات الصوفية ص 295.
(5)
هو إبراهيم بن محمد، شيخ خراسان في وقته، توفي 367. طبقات الصوفية ص 484.
قال رسول الله (ص): "إن مما في صحف إبراهيم (س)
…
، وعلى العاقل أن يكون عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه ممسكا للسانه" (1) الحديث، فمعرفة الزمان وأهله صعب، والكلام فيه متسع رحب، وفيه من الآفات الدنيوية، ما نسأل الله السلامة منه، ومن تحريك الآثار النفسانية، مما نرغب إلى الله في الخلو عنه، لا سيما ما يشتبه فيها الحق بالباطل، ويظهر المتحلي به كالعاطل، فإن النفوس تسرع لإنكاره، ولا يصح من المشفق على نفسه وجود إظهاره، لما يحرك من عقارب التعصب والإذاية، وما يوجبه من اشتداد ظلمة الغواية، لكن الحق أبلج، والباطل لجلج، والدين النصيحة، والسكوت في الحق فضيحة، فوجب أن نأتي من ذلك، بما هو الأهم، لشيوعه في الوقت، حماية لمن وقف عليه من أسباب البعد والمقت، فنذكر أمورا يدعي أهلها أنهم على طريقة السادة الصوفية، ويرون أنهم في ذلك على حالة سنية، من غير دليل واضح قاطع، ولا نور ظاهر ساطع، ويدعون إلى ذلك بحسب إمكانهم، ويمنعون مما سواه كافة إخوانهم، ويقولون: إن قبولهم ذلك من قوة إيمانهم، وتحقق إحسانهم، وإن ذلك هو عين الحقيقة، ومنهاج سلوك السبيل والطريقة، وإنما هي طريقة معوجة، وأمور ملبسة مروجة، يغتر بها الجاهل، فيتبع، ويحتج بها المتعصب، فيضل ويبدع، أعاذنا الله مما ابتلاهم به، وسلك بنا طريق الحق بفضله، وإنما يظهر الحق في ذلك بالتبصر، ويزول اللبس فيه ويذهب التستر، وهذا حين نشرع في المقصود وبالله التوفيق، فنقول:
(1) هو من كلام وهب بن منبه رواه عبد الرزاق في المصنف 11/ 22 قال: "من حكمة آل داود" وخرجه ابن حبان من حديث أبي ذر 2/ 78 وعزاه الزيلعي في تخريج الحديث والآثار 2/ 390 إلى الحاكم في المستدرك والطبراني في معجمه والبيهقي في شعب الإيمان، وفيه يحيى السعدي ضعيف. قال: وله طريق آخر رواه أحمد وإسحاق في مسنديهما، وفيه معان وعلي بن يزيد والقاسم ثلاثتهم ضعفاء. وفي إسناد ابن حبان إبراهيم بن هشام الغساني كذبه أبو حاتم وأبو زرعة، فالحديث ضعيف جدا حتى إن ابن الجوزي ذكره في الموضوعات واتهم به إبراهيم المذكور. الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان 2/ 77 وتخريج الأحاديث والآثار 2/ 39.