الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنكرات، وربما انجر بهم ذلك لانطباع حقيقته في قلوبهم، وارتسامه في خيالاتهم، فظهروا بأمور تناسب ذلك، وربما أتوا فيه بمراء أضافوها إلى النبي (ص) تناسب أغراضهم، ولا تصح نسبتها له، وربما يصح بعضها مع قبول التأويل، فجهل هذا المسكين في قبولها أولا، وفي عدم تأويلها آخرا، واغتر في ذلك بما جرى من نوعه لأهل الحق، الذين وزنوا أنفسهم بالورع، وقاموا مع الحق في كل أمر متبع، كابن أبي جمرة (1) وغيره من السادة، مع أن ما وقع لهم له تأويلات حسنة، وما وقع له في بعضه فلا يحتمله (2) التأويل، ثم إنه جمد عن التأويل عندما طلب به، وبالغ في ذلك لما أداه لهتكه وإذايته، رحمة الله عليه وغفرانه لديه إن كان صادقا في خبره لا غير، وبالله التوفيق.
10 - فصل
الطائفة الثانية طائقة تعلقت بالأحوال
.
وهم ثلاثة:
أولها: طائفة ادعت أنها ترى رجال الغيب من الخضر (س) وأمثاله، وتخبر في ذلك بأمور إما كذبا صراحا، أو تلبس عليها الأمر بخيال شيطاني ونحوه، فهلكت في الهالكين، وربما أهلكت غيرها، فلقد سمعت أن بعض هذه الطائفة ادعى أن الخضر نبي مرسل، وقال:
أرسله الله لقوم في البحر يقال لهم: بنو كنانة، قال: ومن قال بولايته فقد تنقصه، وتنقيص النبي (ص) كفر، كذا حكى لي من أثق به أنه سمع ذلك من لفظه، ففلت: نعم نسلم له صحة ما يدعيه، ولا نسلم له تكفير
(1) عبد الله بن أبي جمرة الأندلسي، كان على زهد وعبادة وتمسك بالسنة (ت 675) الطبقات الكبرى 1/ 176.
(2)
في خ، ق، ت 1:(ما لا يحتمله التأويل).
القائل بما ذكر لعدم القاطع، ولو كان الأمر صحيحا في نفسه، لأنا لو ألزمنا بذلك لكانت زيادة عقيدة في الدين على غير أصل ومستند صحيح.
ثم ظهر بعد هذا الشيخ من تلامذته من ادعى أنه يأخذ عن الخضر الأحكام، فدعا الناس لاتباعه، وحملهم على أمور مفارقة لأصل الملة المحمدية فيما ذكر لنا، واحتج في ذلك بقصة الخضر مع موسى (1) واحتجاجه باطل، لأن موسى (س) إنما التزم التسليم له لا اتباعه فيما يأمره به من صورة المنكر، وهو إنما ألزمه الصبر عليه لا وجود (2) اتباعه والعمل بمثل فعله، مع أنه لم يأت بأمر ينكره عليه العلم في نفس الأمر حسبما دل عليه كلامه، حين بين له الوجوه التي يعرفها، فلم يأت إلا بما هو جائز في الشرع، وإنما اختصر باطلاعه على السبب دون غيره، وهذا على تسليم أنه نبي، وهي مسألة متنازع فيها بين أهل العلم، ومع ذلك فلم ينقل عنه حكم خاص غير ما ذكر من التصرف الخارق للعادة، وقد مر ما فيه، ثم هب أن الخضر (س) يأتي بالأحكام، فشريعة نبينا
(1) جزم جماعة من العلماء بأن الخضر غير موجود الآن منهم البخاري وإبراهيم الحربي وابن العربي وابن عطية وطائفة غيرهم، وحجتهم قول النبي (ص):"لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد"، يعني بعد القرن الذي كان فيه رسول الله (ص)، ولم يأت في خبر صحيح أنه جاء إلى النبي (ص)، مع أن النبي (ص) قال:"رحم الله موسى لوددنا لو كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهم"، فلو كان الخضر حيا لحضر إليه.
وقال جماعة: هو حي لا يموت إلا في آخر الزمان، قال ابن الصلاح: هو حي عند جمهور العلماء، وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين، ووافقه النووي، وقال النووي: ذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح، وقال عن الحديث السابق: لا يبقى على وجه الأرض إلخ، إن الخضر مخصوص منه كما خص إبليس بالاتفاق، لكن يقال: جاء النص بتخصيص إبليس، فأين النص بتخصيص الخضر؟
والأحاديث الواردة في اجتماعه بالنبي (ص) كلها ضعيفة، ولا يثبت شيء منها يدل على بقائه الآن، انظر فتح الباري 7/ 245 وانظر في الرد على الاحتجاج بقصة الخضر مع موسى كتابي الغلو في الدين ص 36.
(2)
لعل الصواب: (وجوب).
محمد (ص) ناسخة لجميع الشرائع إلا ما قرر، وهذا أصل في الدين يتعين اعتقاده، ومخالفه كافر إجماعا، ولذلك لما أخبر (ص) عن نزول عيسى (س) ذكر تقريره لشريعتنا يقوله:"فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وإمامكم يومئذ منكم"(1)، هذا وهو أمر محقق، واجب الاعتقاد، فكيف بغيره فافهم.
ولقد بلغني أن هذا الرجل بلغ به الأمر إلى أن قال: ارتفعت أحكام القرآن ولم يبق إلا ما قال له قلبه عن ربه، وهذا كفر وضلال، وقال لي بعض الناس: كنا عنده ونحن نقرأ القرآن، فوقف علينا وقال:
ارتفعت بركة القرآن، ولم يبق الفتح إلا في الذكر بالجمع، أو نحو هذا، ويكفي في الرد عليه فوله (ص):"من ابتغى الهدى في غيره أضله الله"(2) وذكر لي أنه يظهر بخوارق العادة، ويدعي مع أمره الولاية، بل الوراثة، وكل ذلك مكر واستدراج، نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه.
…
(1) انظر حديث نزول عيسى في صحيح مسلم 4/ 225.
(2)
جزء من حديث علي (ض) في فضل القرآن، خرجه الترمذي 5/ 172، وقال: حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفى إسناده الحارث، وفيه مقال، ذكر الحافظ في فتح الباري 1/ 232، شبهة الذين يحتجون بقصة الخضر، على أن الأولياء والخواص لا حاجة لهم إلى النصوص الشرعية، وإنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم لصفائها حيث تتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، وفيما يلي كلام الحافظ على طوله لعظيم فائدته، وقوته في الرد على منتحلي هذه الشبهة، قال: الثانية، ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة، فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواص، فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ويحكم عليهم بما يغلب من خواطرهم، لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتنجلي لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون الأحكام الجزئية، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر.