الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد أسمعت لو ناديت حيا
…
ولكن لا حياة لمن تنادي
قلت: وما وصفه من العلوم الناقصة المنقصة يدخل فيه الاشتغال بدقائق علوم القوم، من حيث ما يقصر به، لا من حيث هو.
وقد قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ض) من لم يتغلغل (1) في هذه العلوم مات مصرا على الكبائر وهو لا يعلم، يعني: علوم القوم الدالة على الآداب والمعاملات، والله أعلم.
وقال: كتاب الأحياء يورثك العلم، وكتاب قوت القلوب يورثك النور.
قلت: ولا ينتفع بهما إلا من له أصل من غيرهما يرجع إليه بهما، لاتساع موردهما وموقعهما، وبالله سبحانه التوفيق.
54 - فصل
في العلوم النورانية والظلمانية والمتشابهة
وذلك بحسب القصد والفيض والهمة، ومقاصد العلوم ومراصدها، فكل علم خبث قصده، وخبث القصد به، فهو ظلمة، وكل علم حسن القصد به، وقصده فهو نور، وكل علم حسن قصده، وخبث القصد به، كان ظلمة بوجه قصده، نورا بعين مقصوده، فلذلك قال الحسن (2) (ض): ما قصد هذا العلم أحد إلا كان حظه منه ما أراده، وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي (ض): العلوم على القلوب كالدراهم والدنانير في الأيدي، إن شاء الله نفعك بها، وإن شاء ضرك معها، قال رسول الله (ص):"والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها"(3).
(1) في خ وت 1: يتغافل.
(2)
الحسن بن يسار بن أبي الحسن البصري، إمام من مشاهير أئمة التابعين (ت 110 هـ) تذكرة الحفاظ 1/ 71.
(3)
الحديث أوله: "الطهور شطر الإيمان
…
إلخ"، خرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري (ض) عن النبي (ص)، حديث رقم 223.
وسئل الجنيد (ض) عن العلم النافع فقال: هو أن تعرف ربك ولا تعدو قدرك، قال في (التنوير): والعلم النافع، هو الذي يستعان به على طاعة الله، ويلزمك المخافة من الله، والوقوف على حدود الله، وهو علم المعرفة بالله، ويشمل ذلك العلم بالله والعلم بما به أمر الله، إذا كان تعلمه لله، وقال في موضوع آخر: الذي يطلب العلم لله إذا قيل له: غدا تموت، لا يضع الكتاب من يده.
قلت: وذلك لقيامه بحق وقته، وخلوه عن الفضول حتى لا يرى أفضل مما هو فيه، فاختار أن يلقى الله عليه، والله أعلم.
والعلوم المعينة على تنوير القلب أربعة:
أولها: علم التوحيد والإيمان، وأقل ما يجزئ منه عقيدة مجردة عن البرهان، محررة في البيان، كترجمة العقيدة للإمام الغزالي (1)، وما جرى مجراها، وأوسطه ما في رسالته القدسية، وأعلاه معرفة أصول المذهب الحق وقواعده، وأضر ما فيه فرض الشبه والاشتغال بأنواع التأويل من غير احتجاج لذلك، لأنه مشتت للقلب، مشوش للذهن، موهن للإيمان، مضعف لحرمة الربوبية من القلب، إلا في حق كامل منتصر للشريعة بما أوتيه من العلم والبيان، فيقوم بذلك دفعا لأهل الاعتراض، ومداواة لذوي القلوب المرضى، لا لخلي سليم غير محتاج إليه، ولا قادر على القيام عليه، والله أعلم.
الثاني: علم الفقه والأركان، وأقل ما يكفي فيه معرفة عقود الأبواب وشروطها، وأوسطه ما يتسع به النظر في الأحكام، وأعلاه ما تثبت به الحجة والمحجة من العلم، بالتوجيه والتنظير والدليل والتعليل، وأنواع التقسيم إلى غير ذلك، وأضر ما فيه التشدق (2) في المجالس، وتشتيت،
(1) لزروق شرح على عقيدة الغزالي منه نسخة بالمكتبة الوطنية بمدريد رقم 5200 ذكر الدكتور عمر القوصي الشيباني في مقال (زروق حياته وأصول طريقته) مجلة كلية الدعوة الإسلامية عدد 12.
(2)
في ت 1 (التشوف).
الذهن بالخلافيات، واتساع التأويل في الحركات، ورؤية النفس بالتحصيل، مع مصاولة الأقران ومكائد الإخوان، والاشتغال بوجوه الهذيان، فتعلم مستمعا ساكتا، مقتصرا على محل الفائدة، متبرئا من الدعوى ورؤية النفس، تسلم من آفاته، وبالله التوفيق.
الثالث: علم التصوف والأحوال، وفائدته تحقيق العبودية، والنظر في وجه تعظيم الربوبية، بإقامة الحقوق، والإعراض بالحق عن كل مخلوق، وأقل ما يجزئ فيه (بداية الهداية) للغزالي، وأوسطه منهاجه أو بعض كتب المحاسبي، وأعلاه كتب ابن عطاء الله ومن نحا نحوه، وأما كتب الحاتمي (1) وابن سبعين وابن الفارض (2) وأبي العباس البوني (3)، ومن جرى مجراهم، فلها رجال لهم في الحقائق مجال، وعندهم في التمييز مقال، فلا يشتغل بها في البداية إلا غوي، ولا في النهاية إلا خلي، ولا في التوسط إلا ذكي (4) يأخذ بما بان رشده، ويسلم ما وراء ذلك، ليسلم من آفاته، وما هو إلا كما قال بعضهم في ترجمة من كتاب له: بحر طامس، يحتاج لبحري غاطس، وقد أولع به قوم فضلوا وأضلوا، وفارقوا العمل بما توهموه، فزلوا وربما ادعوا ما فهموه أو تنسموه حالا لأنفسهم، فافتضحوا بشواهد الأحوال، كما قيل:
من تحلى بحلية ليست فيه
…
فضحته شواهد الامتحان
(1) هو محيي الدين بن عربي تقدمت ترجمته، انظر فصل 9.
(2)
تقدم فصل 9.
(3)
هو أحمد بن علي بن يوسف، متصوف مغربي، له مصنفات في علم الحروف، ومن كتبه شمس المعارف الكبرى، وهو من الكتب التي يأتي للمؤلف أنها واجبة الاجتناب، الأعلام 1/ 169.
(4)
قارن هذا مع قوله فيما يأتي: وقد أولع بها قوم فضلوا وأضلوا إلخ، وهذا هو الذي يعول عليه، ثم إن قوله هذا لا يتفق مع كلامه في فصل:(فيما يتبع من أمور الصوفية المحققين وما يترك)، بأن كل ما جاء عن صاحب الوجد والذوق يعرض على الكتاب والسنة إلخ، انظر فصل 6، وقد تعرض المؤلف لهذه الطائفة أيضا في فصل 9:(في ذكر ما ظهر في هذه الأزمنة من حوادث).
أعاذنا الله من البلاء بمنه وكرمه.
الرابع: علم الإيضاح والدلالة والبيان والتحقيق، ومداره على أربعة:
العربية، لغة ونحوا وما يجري مجراها، والمراد بها ما يقع به الفهم والتفهيم على أتم الوجوم بأقرب ما تحصل به، فهي كالملح إن كثر ضر، وإن قل فسد الطعام بنقص لذته، بل عدمها، والله أعلم.
والاصطلاحات الحديثية والفقهية وغيرها لا سيما اصطلاح الصوفية، فإنه مهم لغرابة ألفاظه، ودلالته على معانيه الواضحة المعروفة عندهم، التي من جهلها اعترض بالباطل، أو بقي جيده من التحقيق عاطلا، فمعرفة الاصطلاحات لازم بكل حال، والله أعلم.
وفقه الحديث لتعرف مواقعه، وعلم التفسير كذلك، ولكل منهما ظاهر وباطن، وحد ومطلع، فالظاهر للنحاة والقراء، والباطن للمفسرين وأصحاب المعاني، والحد للفقهاء والعلماء، والمطلع للعارفين والأولياء، ولا تصح رتبة دون التي قبلها، والله أعلم.
والعلوم التي حواها الكتاب والسنة في الجملة ثمانية: علم اللسان وهو العربية، وعلم الأديان وهو التوحيد، وعلم الأركان وهو الفقه، وعلم الأبدان وهو الطب، وعلم الحساب وهو التنجيم، وعلم السلطان وهو السياسة، وعلم الإخوان وهو علم المعاشرة، وعلم الجنان وهو التصوف، ولكل علم منها مشرب وحقيقة، وعلى المريد منها حظ في العبودية لا بد له منه، ونوع من الفتح على حسب ما أهل له، فاعرف ذلك، تجده إن شاء الله، وبالله التوفيق، وإذا علمت العلوم المنورة فقد بانت لك العلوم المكدرة، ولا يسع هذا المختصر أكثر من هذا، والسلام.
***