الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكمه، لا سيما والمقصود بذلك، أعني إفراد الذكر والوجه إنما هو المريد المشرف على الحقيقة، الذي قد تهيأ للفتح حتى تنصبغ حقيقته بما أشرف عليه، فهو المأمور عند القوم باعتزال كل شيء بعد الواجبات والسنن المؤكدة، سوى الذكر اللائق به في حاله، فهو حكم خاص لمخصوصين، لا لعوام المتوجهين، لأنهم إن كانوا في البداية احتاجوا لأشغال حقيقتهم بما ينفي ما دخلها من المختلفات الهوائية، وإن كانوا في النهاية، كان ذلك زيادة في أنوارهم وفتحهم على نسبته، وتعميم الحكم جهل، وإرساله لغير نهاية كذلك، لكن حقهم في التربية عدم الإشعار بالمقاصد المتوجه إليها، والأفراد دون الفوائد والغايات، ليكمل الاستعداد للأخذ، وتنجمع الهمة في التوجه والغايات، فلا يعترض عليهم ذلك.
وقد قال ابن عطاء الله (ض): واعلموا أن الله تعالى أودع أنوار الملكوت في أنواع الطاعات، فأي من فاته من الطاعات صنف، أو أعوزه من الموافقات جنس، فقد من النور بقدر ذلك، فلا تهملوا شيئا من الطاعات، ولا تستغنوا عن الأوراد بالواردات، ولا ترضوا لأنفسكم بما رضي به المدعون، بجري الحقائق على ألسنتهم وخلو أنوارها من قلوبهم، فذلك حال الجاهلين الذين لم يفقهوا عن الله، ولا واجههم المدد من الله، انتهى.
وفيه تنبيه على أن التقيد غير معتبر، وذكره في لطائف المنن وهو من أعجب شيء في الباب، والله الموفق للصواب.
…
24 - فصل
في ذكر الأوقات المعدة عندهم للذكر
.
وهي ثلاثة:
بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة المغرب، وعند السحر، وفي كل حركة مستأنفة أو معتادة غير ضيقة.
قلت: فأما بعد صلاة الصبح فهو وقت لذلك شرعا، وحقه أن يتوزع بين تلاوة وذكر ودعاء وفكر، حسبما دلت عليه نصوص الشريعة، ونص عليه الأئمة كأبي طالب المكي والغزالي وغيرهما، فإقصاره على ما تقصرونه عليه تعد على الشارع، إلا أن يكون في حق مريد خاص، مداواة لعلة قلبه عند إشرافه حتى تتمكن الحقيقة من نفسه فلا بأس به لضرورة التداوي، فإن الضرورات لها أحكام تخصها لا يصح أن تتعدى إلى غيرها في كل فن وباب، والله أعلم.
ثم ما تريدونه في ذلك من حزب السلام وقراءة الواحد وسماع الجميع مخالف أيضا، إلا أن تدعوا أنه من باب التذكير، لأن السماع المجرد أدعى للتأثير، ولكن ليس بعلم حتى يكون لكم في سماعه وإسماعه مستند، وإنما هو ذكر والذكر مطلوب من كل أحد، وهذا إن سلم مما فيه من التعريض بالمنكرين، والله أعلم.
نعم وكون الذكر بالجمع والجهر على وزن معلوم عندكم لا يليق، لما فيه من الخلاف والدخول في الشبهة لغير ضرورة شرعية، فإن قلتم: من باب التعاون والوعظ، قلنا: قد يسوغ، ولكن الاسترسال في العجلة آخر المجلس والبلوغ في الأمر إلى حد تحتل معه حروف الكلمة في الذكر أو يختل نظمها لا يفيد شيئا من ذلك، بل يبعد عنه، بل قال بعض العلماء: إن التسكين في هاء (إله) تؤذن بانقطاع الاستثناء وهو كفر بالصورة، وإن لم يكن بالحقيقة والعياذ بالله، فأما ما بعد المغرب فالمطلوب إحياؤه بالصلاة (1) ولكن الذكر فيه غير ضار لعدم تبديل ما جاء في الشريعة أو شيء منها فيه، لأن هذا الوقت لم يخصصه الشارع
(1) ذكر المؤلف إحياء ما بين العشاءين بالصلاة في فصل 17: (وأما القسم الثالث فمرجعه إلخ)، وقد ذكر الغزالي في الإحياء جملة من الأحاديث في ذلك، وكلها ضعيفة أو باطلة، كما في تخريج الحافظ العراقي، وقد ذكر المؤلف نفسه في فصل 37:(في تفويتهم صلاة العشاء)، أن حديث إحياء ما بين العشاءين فيه ما فيه، وقد ورد في الركعتين بعد المغرب أحاديث صحيحة، انظر الإحياء 1/ 204 و351 و356.
بأذكار ولا غيرها، إذ ذكر العشي إنما الوارد فيه بعد العصر مطلقا، أو المغرب (1) بأذكار خاصة معلوم ورودها عند أئمة الإسلام، ففي الخبر يقول الله تعالى:"ابن آدم اذكرني ساعة بعد الصبح وساعة بعد العصر أكفك ما بينهما"(2) إلى غير ذلك.
وقد أهملوا ذكر ما بعد العصر أظنه لوجود الشغل لأنهم أبدلوه بما بعد المغرب، فيكون مخالفة للوارد والله أعلم، فأما آخر الليل فسنته التضرع والابتهال ووجود الدعاء والاستغفار، فهو وقت المناجاة كما أشارت إليه آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة، في قوله تعالى:{تتجافى جنوبهم عن الضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا} (3) وقوله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} (4){وبالأسحار هم يستغفرون} (5) إلى غير ذلك، وقال (ص):"ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه"(6) الحديث.
(1) خرج ابن السني عن أم سلمة: كان رسول الله (ص) إذا انصرف من صلاة المغرب يدخل فيصلي ركعتين، ثم يقول فيما يدعو:"يا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلوبنا على دينك"، الأذكار ص 33.
(2)
في الإحياء 1/ 343: وروى الحسن أن رسول الله (ص) كان فيما ذكر، من رحمة ربه يقول: "إنه قال: بابن آدم، اذكرني بعد صلاة الفجر ساعة
…
" الحديث، عزاه العراقي إلى ابن المبارك في الزهد مرسلا، وذكره السبكي في أحاديث الإحياء التي لم يجد لها إسنادا، وعقد لها فصلا طويلا في طبقات الشافعية الكبرى عند ترجمة الشيخ الغزالي 4/ 152.
(3)
السجدة 16.
(4)
آل عمران 14.
(5)
الذاريات 18.
(6)
الحديث في البخاري من رواية أبي هريرة (ض)، أن رسول الله (ص) قال:"ينزل ربنا إلى المساء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ "، وقد أشار الحافظ إلى الرواية التي ذكرها المؤلف بلفظ: هل من تائب فأتوب عليه، من رواية سعيد بن مرجانة، عن أبي هريرة، وقد خرجها مسلم 1/ 522.
وقال إبراهيم الخواص (1)(ض): دواء القلب ثلاثة (2)،: خلاء البطن، وتلاوة القرآن بالتدبر، والتضرع عند السحر وقيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع، قال:"أدبار المكتوبة، وجوف الليل الآخر"(3) لكن قد يقال: عملنا بقوله (ص): "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"(4) وهي شبهة قائمة ولكن نصوص الشريعة ومقاصد الشارع معتبرة في العموم، ويرجع بغيرها إلى خواص الأشخاص والأوقات.
فأما التعرض بها للأغراض والحوائج والتجاهي بها والتمييز بذكرها، فمن حيث صورته لا يليق، ومن حيث حقيقته معتبر بالنية ولكل شيء وجه، ولكن السنة خير كلها والسلف خير منا وأحرص على الخير، وقد كانوا (عمال)(5) أنفسهم (6) ولم يكن عندهم شيء من ذلك مع احتياج الوقت لله، من جهة مناصات الكفار، والتبكيت عليهم، وإشاعة أمر الدين، ولكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، وهم
(1) إبراهيم بن إسماعيل الخواص، من أقران الجنيد (ت 291) الطبقات الكبرى 1/ 83.
(2)
صوابه خمسة وليس ثلاثة بإضافة قيام الليل ومجالسة الصالحين، انظر طبقات الأولياء ص 17.
(3)
في الترمذي 5/ 526 من حديث أبي أمامة (ض)، قال: يا رسول الله (ض): أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبة"، قال الترمذي: هذا حديث حسن، ومعنى أسمع: أي أقرب إلى الإجابة، وذكر الحافظ في الفتح 13/ 382 الأحاديث الدالة عنى الدعاء عقب الصلوات، ورد على من زعم أنه لم يكن من هدي النبي (ص).
(4)
خرجه البخاري في التاريخ الكبير 2/ 115 من حديث عمر مرفوعا، وفيه صفوان بن أبي الصهباء، قال الحافظ في التقريب ص 227: مقبول، واختلف فيه قول ابن حبان، أي أنه ذكره في الثقات وفي الضعفاء، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 1/ 302 بعد أن عزا الحديث إلى البخاري في التاريخ، والبزار في المسند، والبيهقي في شعب الإيمان، قال: وفيه صفوان بن أبي الصهباء - وتحرفت النسخة المطبوعة إلى (أبي الصفاء)، ذكره ابن حبان في الضعفاء وفي الثقات.
(5)
في ت 1: (أعمال).
(6)
يعني في مهنة أنفسهم.