الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد يقال: إنها من المصالح الدينية، لما فيها من التثبيت والتأثير الظاهر، والفائدة الجلية في ربط أقوام من أهل الجرائم عما هم عليه من القبائح والرذائل، لكن ما يزيده بعضهم من ذكره آية البيعة، وتكرير آخرها، قد ينكر من جهة تنزيل نفسه منزلة الشارع (ص) الذي هو نائب الحق سبحانه حقيقة، إلا أن تكرير آخرها قد يكون للتأكيد في عدم النكث والله أعلم، وبالجملة فهذه الكيفية لا تلزم، وكل أحد ينفق من حاله، فيلقي للمريد على قدره، وكل حركة صدرت من غير هوى أفادت الحقيقة والتحقق، بخلاف غيرها، وكل ما تضمنه العهد من مباح ونحوه فالوفاء به واجب، والمحرم حرام والمكروه مكروه، وبالله التوفيق.
…
41 - فصل
في التنبيه على الأمور المتشابهة من أحوال الجماعة المذكورة
.
ومدارها على ثلاثة أقسام:
أحدها: أمور خالفوا فيها المشهور، وعدلوا عن مذهب الجمهور، كالاستظهار بالنافلة جماعة، وهو مذهب الشافعي، أعني جوازه لاستباحته (1) لأن النوافل في البيوت أفضل اتفاقا، ولئلا تصير كالفرض في الصورة، بل قد ورد صلاة النافلة في البيت كالصلاة المكتوبة في الجماعة، وصلاة النافلة في المسجد كالفريضة في البيت (2).
(1) في خ: (لا استحبابه).
(2)
خرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 157 عن ضمرة بن أبي حبيب، عن رجل من أصحاب النبي (ص) موقوفا، وقال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 1/ 208: رواه آدم بن إياس في كتاب الثواب من حديث ضمرة مرسلا، وفي سنن أبي داود حديث رقم 1044 بسند صحيح عن النبي (ص) من حديث زيد بن ثابت (ض)"صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا، إلا المكتوبة".
وترك القصر في السفر، فقد قال (ص):"إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تترك عزائمه"(1) وقال (ص): "خيار أمتي الذين إذا أساؤوا استغفروا، وإذا سافروا قصروا وأفطروا"(2) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد ورجاله ثقات، ولأن الزيادة بالإتمام عند القائل بالقصر نقص، كالنقص عند القائل بالإتمام، وقد كان في الصحابة المتم والمقصر، ولم يعب واحد منهم على واحد (3)، فالتحديد بعد ثبوت فضل أحد الطرفين تعد، والله أعلم.
وكالقنوت بعد الركوع مخالف للمشهور، لا للجمهور، فلا علة له إلا قصد المخالفة، لما الناس عليه من الأمر، إما قصد الامتياز أو رؤية أن مخالفتهم كمال، وهو قبيح بالتعريض والتعرض للأذى، والله أعلم.
وكالذكر بعد الصلاة بالجهر والجمع من التصلية والتكبير خلاف المشهور، ولكن يساعده قول ابن عباس: ما كنت أعرف انصراف الناس من الصلاة إلا بالتكبير (4)، رواه البخاري وهو من باب الفضائل الخارجة
(1) الشق الثاني من الحديث لا يبعد أن يكون المؤلف وهم فيه، فالحديث مروي عن النبي (ص) من طريق ابن عمر وابن عباس وغيرهما بلفظ:"إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"، كما في مختصر زوائد مسند البزار حديث رقم 701، والمعجم الكبير للطبراني حديث رقم 11880، والسنن الكبرى للبيهقي 3/ 140، ومجمع الزوائد 3/ 165، وورد الشق الثاني من الحديث بلفظ:"كما يكره أن تؤتى معاصيه"، كما في الفردوس للديلمي حديث رقم 577، والسنن الكبرى ومجمع الزوائد، والحديث من طريق ابن عمر وابن عباس صحيح، رجاله ثقات.
(2)
عزاه المؤلف إلى أبي داود والنسائي وأحمد، وهو سهو، والحديث خرجه عبد الرزاق في المصنف 2/ 566 من حديث عروة بن رويح مرسلا، وعزاه الحافظ في التلخيص 2/ 51 من حديث جابر مرفوعا إلى الطبراني في الدعاء والأوسط.
(3)
الحديث بهذا المعنى في مسلم رقم 1117.
(4)
في الصحيح عن ابن عباس (ض): إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي (ص)، وقال: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله (ص) إلا بالتكبير، مسلم بشرح النووي 5/ 83، والبخاري مع فتح الباري 2/ 469.
عن ماهية الصلاة، فالعمل به غير قادح، لا سيما في الثغور على قول ابن حبيب (1)، والله أعلم.
وكقولهم في التقديم للصلاة بحديث: "صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله"(2) فيقدمون الجاهل (3) على العالم إذا كان مقدما عندهم، وانجر بهم الحال إلى تقديم من لا يحكم الصلاة على من يحكمها، وهو أمر صعب جدا، يضارع المحرم أو هو عينه، من جهة مخالفة الجمهور، بل الإجماع في الأولوية، وإن كان إجماع القوم على جواز الصلاة خلف كل بر وفاجر، فالأئمة شفعاء، والأحق مقدم أبدا كما هو معلوم من الفقه، وإن استووا في البراءة من الفسق، والله أعلم.
القسم الثاني: إدخال أمور على العادات يظن أنها من الشريعة وليست منها، كقيامهم للمحترمين منهم، وقد أجازه بعض العلماء، بشرط أن يكون المقام له من أهل الدين، بلا انحناء ولا تكتيف (4) وقد نهى (ص) العرب عن التزي بزي العجم، وما نهى العجم عن زي أنفسهم في قوله: "لا تفعلوا بي
(1) استحب ابن حبيب التكبير دبر صلاة العشاء والصبح في الثغور والرباطات والعساكر، خلافا لمذهب مالك، قال ابن رشد في البيان والتحصيل 2/ 573: ومذهب مالك أظهر، لأن التكبير محدث لم يكن في الزمن الأول، وأنكر ابن حبيب أن يتقدمهم واحد بالتكبير ثم يجيبه الآخرون بنحو من كلامه جما غفيرا.
(2)
عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 70 إلى الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر (ض) مرفوعا بلفظ: "
…
وصلوا وراء من قال: لا إله إلا الله"، وقال فيه محمد بن الفضل بن عطية، وهو كذاب، وكذلك رواه الدارقطني في السنن 2/ 56 من ثلاثة طرق كلها واهية، وحديث: "صلوا خلف كل بر وفاجرا"، مروي من طرق أمثلها حديث أبي هريرة وهو منقطع، المقاصد الحسنة ص 267.
(3)
جاء في مجمع الزوائد 2/ 69: مر عبد الله بن مسعود على مسجد، فتقدم رجل فقرأ بفاتحة الكتاب، ثم قال: نحج بيت ربنا ونقضي الدين، وهو مثل القطوات يهوين، فقال عبد الله: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق، وانصرف.
(4)
التكتيف: وضع اليدين على الصدر كهيئة الصلاة.
كما تفعل الأعاجم بملوكها " (1) وفي الصحيح لم يكن أحب إليهم من رسول الله (ص)، ولكنهم كانوا إذا رأوه لم يقوموا له (2) لما يعلمون من كراهيته لذلك وشدته عليه، وأعظم من ذلك قوله (ص): "من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار" (3) وهذا تبشير بسوء الخاتمة والعياذ
(1) المراد بزي العجم هنا، محاكاتهم في الهيئة التي يفعلونها من قيام بعضهم لبعض، وليس خصوص اللباس، ولفظ حديث أبي أمامة (ض) في المسند: قال: خرج علينا رسول الله (ص) وهو يتوكأ على عصا، فقمنا إليه، فقال:"لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا" وخرجه الطبراني في الكبير رقم 8072 وأبو داود 5230 وابن ماجه 3836، ومن بعض أسانيده أو العدبس مجهول وفي أسانيده الأخرى اضطراب، لذا قال الطبري: حديث ضعيف مضطرب السند فيه من لا يعرف، كما في فتح الباري 13/ 288، وانظر الفتح الرباني 17/ 354.
(2)
عن أنس (ض): لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله (ص)، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهيته لذلك، الترمذي حديث رقم 2754، وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وأحمد في السند، المسند مع الفتح الرباني 17/ 353.
(3)
خرجه الترمذي حديث رقم 2755، وأبو داود رقم 5229، من حديث معاوية يرفعه إلى النبي (ص) بلفظ: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما
…
"، وقال الترمذي: حديث حسن، وهو مخرج في صحح أبي داود برقم 4357، وفي رواية بلفظ: "من أحب أن يستجم له الناس صفوفا
…
"، أي: يجتمعون له، كما في النهاية في غريب الحديث 1/ 301.
حكم القيام للقادم: قال في الفتح الرباني 17/ 353: إنما كره (ص) قيامهم له تواضعا لربه، مخالفا لعادات المتكبرين حتى لا يتخذها المتكبرون من الأفراد سنة، وهذا لا ينافي القيام للوالدين وأهل الصلاح والتقوى من الأمراء وغيرهم، فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه عن عائشة (ض): قالت: ما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله (ص) من فاطمة (ض)، كانت إذا دخلت قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه، وأخذت بيده، وقبلته وأجلسته في مجلسها، وفي الصحيح أن النبي (ص) أرسل إلى سعد بن معاذ عندما نزل أهل قريظة على حكمه، فجاء، فقال النبي (ص): "قوموا إلى سيدكم
…
"، البخاري مع فتح الباري 13/ 288، قال الخطابي: فيه من العلم أن قول الرجل لصاحبه: يا سيدي غير محظور إذا كان صاحبه خيرا فاضلا، وإنما جاءت الكراهة في تسويد الرجل الفاجر، وفيه أن قيام المرؤوس للرئيس الفاضل وللولي العادل، وقيام المتعلم للعالم مستحب غير مكروه، وإنما جاءت الكراهة فيمن كان بخلاف هذه الصفات، ومعنى ما روي من قوله: من أحب =
بالله، فكيف يتعرض له من كان في طريق الله، بمجرد احتمال قد يصح وقد لا، ويظهر من هذا أن الفاعل أعذر من القائل.
وقد سئل عز الدين بن عبد السلام رحمه الله عن هذا القيام، فأجاب بحديث:"لا تقاطعوا ولا تدابروا"(1)، وقال: تركه يؤدي إلى التدابر
= أن يستحم له الرجال صفوفا، هو أن يأمرهم بذلك على وجه الكبر والنخوة، الفتح الرباني 17/ 352، وفتح الباري 13/ 289، قال في العتبية 4/ 359: سئل مالك عن الرجل تكون له المرأة الحريصة المبالغة في تأدية حقه، فإذا رأته داخلا تلقته فأخذت عنه ثيابه ونزعت نعليه، فلا أرى بذلك بأسا، وأما قيامها فلا أرى ذلك، ولا أرى أن يفعله، هذا من التجبر والسلطان، فقلت له: والله ما ذلك من شأنه ولا تشبهه هذه الحال، ولكنها تريد إكرامه وتوقيره وتأدية حقه، وإنه لينهاها عن ذلك ويمنعها منه، فقال لي: كيف استقامتها في غير ذلك؟ فقلت له: من أقوم الناس طريقة في كل أمرها، فقال: تؤدي حقه في غير هذا، فأما هذا فلا أرى أن تفعله، فإن هذا من فعل الجبابرة، بعض هؤلاء الولاة يكون الناس ينتظرونه جلوسا فإذا طلع عليهم قاموا له حتى يجلس، فلا خير في هذا ولا أحبه، وليس هذا من أمر الإسلام، فأرى أن تدع هذا وتؤدي حقه في غير ذلك.
قال في البيان: القيام للرجل على أربعة أوجه: وجه يكون القيام فيه محظورا، ووجه يكون فيه مكروها، ووجه يكون فيه جائزا، ووجه يكون فيه حسنا.
الأول: الذي يكون فيه محظورا لا يحل، فهو أن يقوم إكبارا وتعظيما لمن يجب أن يقام إليه تكبرا وتجبرا على القائمين إليه.
الثاني: الذي يكون القيام فيه مكروها، فهو أن يقوم إكبارا وتعظيما وإجلالا لمن لا يحب أن يقام إليه ولا يتكبر على القائمين إليه، فهذا يكره للتشبه بفعل الجبابرة، ولما يخشى أن يدخله من تغير نفس المقوم إليه.
الثالث: الذي يكون القيام فيه جائزا، فهو أن يقوم تجلة وإكبارا لمن لا يريد ذلك ولا يشبه حاله حال الجبابرة، ويؤمن أن تتغير نفس المقوم إليه لذلك، وهذه صفة معدومة إلا فيمن كان بالنبوة معصوما، لأنه إذا تغيرت نفس عمر بالدابة التي ركب عليها، فمن سواه بذلك أحرى.
الرابع: الذي يكون فيه القيام حسنا، فهو أن يقوم الرجل إلى القادم عليه من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه، أو إلى القادم عليه مسرورا بنعمة أولاها الله إياه ليهنئه بها، أو إلى القادم عليه المصاب بمصيبة ليعزيه بمصابه وما أشبه ذلك، فعلى هذا يتخرج ما ورد في هذا الباب من الآثار ولا يتعارض شيء منها.
(1)
مسلم من حديث أبي هريرة (ض) عن النبي (ص) وتمامه: "ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا إخوانا كما أمركم الله".
والتقاطع، فلو قيل بوجوبه لم يكن بعيدا، فجعله من محل الضرورة لدفع المفسدة، وقد أشبع فيه ابن الحاج في مدخله، ثم هو بكل حال قبيح، وأقبح منه جعله من الدين، أعاذنا الله من البدعة والفتة بمنه وكرمه.
وكقراءة الفاتحة وسورة قريش بعد الطعام، وهو أمر لا نص فيه، فالتزام أهل الدين له يقتضي أن يكون منه، فيكون بدعة، وإلا فهو ذكر مذكر بالشكر والنعمة لا نص في نفيه، فقد يكون من حيز ما هو عفو، فيتعين بيانه بالترك مرة، والتنصيص أخرى، وكإدخال العروس بيته بالذكر، وهو تبديل لما ورد فيه من العادات المشعرة بها كالدف والغربال، والوليمة والدخان والغناء المباح لذلك، المعروف من الشريعة فيه، ولو كان محلا للذكر ما أغفله الشارع ولا أهمله السلف، ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما أتى يه أولها، وكذلك الذكر مع الجنازة، والله أعلم.
وكذلك ذكرهم عند باب الشيخ إلى خروجه، أو وقوفهم به إلى قضاء حاجته من بيته، وقراءة بعضهم الفاتحة قبل الصلاة، وعدم الغسل بعد الطعام وقبله، وإن كان فيما قبله اختلاف، وقد صح "الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم"(1) فأما إهمال المريض حتى يصح افتقاره فمن قلة الرحمة، وهو لا يعمل به إلا طائفة منهم، فلا حديث عليه، وبالله التوفيق.
القسم الثالث: في أمور اصطلحوا عليها، وجرت بينهم مجرى العرف والعادة، منها ما هو في الأكل، ومنها ما هو في اللباس، ومنها ما هو في المحاوراة، ومنها ما هو في التصرفات، فتحتاج لعقد فصل مستقل، وبالله سبحانه التوفيق.
(1) لم يصح. عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 23 للطبراني في الأوسط، وقال: فيه نهشل بن سعيد متروك، وذكره الصغاني في الموضوعات ص 17، وكذلك الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 155.