الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاتباع لازم، والاعتراض حرمان، وعليه يتنزل قولهم، من قال لأستاذه: لم؟ لا يفلح أبدا، وهذا كله بعد تحقيق المشيخة له، والله سبحانه أعلم.
…
45 - فصل
في صفة الشيخ المعتبر عند القوم جملة وتفصيلا
.
والمشايخ ثلاثة في الجملة؛ شيخ تعليم، وشيخ تربية، وشيخ ترقية.
فأما شيخ التعليم فيحتاج فيه لثلاثة:
أولها: علم صحيح، بحيث يجوز مبنيا على الكتاب والسنة، مؤيدا بالقضايا العقلية والوجوه المفهمة المسلمة بالأدلة الصحيحة المقدمة.
الثاني: لسان فصيح بحيث يبين به عن المقاصد من غير احتمال ولا قصور، لأن العبارة هي التي تفيد المقاصد وتدفعها، وقد قال ابن العريف رحمه الله: الطالب يسأل ليعلم، فحقه أن يسأل عن مسألة بمسألة أخرى، والعامي (يسأل ليعمل)(1) فحقه أن يذكر النازلة، وعلى العالم أن يبين بيانا يمنع السائل من التأويل، انتهى، وهو عجيب.
الثالث: عقل رجيح يميز به مواضع العلم، ويقي به نفسه عن كل وصف منقص في دينه ودنياه، فيكون تقيا نقيا، وعلامته في ذلك وجود الإنصاف حيث يكون الحق مع غيره، والوقوف مع الحق، بحيث لا أحد يقابله بلزوم لا أدري فيما لا يدري، والتبرؤ من مواضع التهم قولا وفعلا واعتقادا.
وقد قال الشيخ أبو عبد الله بن عباد (2)(ض): أوصيكم بوصية لا يعرفها إلا من عقل وجرب، ولا يهملها إلا من غفل فحجب، وهو ألا تأخذوا في
(1) لا يوجد في ت1.
(2)
هو محمد بن إبراهيم بن عبد الله النفزي، الفقيه المالكي الصوفي، له شرح على الحكم العطائية والرسائل الكبرى والصغرى، انظر نيل الابتهاج ص 279 والأعلام 6/ 190.
هذا العلم مع متكبر، ولا صاحب بدعة، ولا مقلد، أما الكبر فطابع يمنع من فهم الآيات والعبر، وأما البدعة فتوقع في البلايا الكبر، وأما التقليد فقال: يمنع من بلوغ الوطر، ونيل الظفر، قال: ولا تجعلوا لأهل الظاهر حجة على الباطن، قلت: بل يحرصون بأن يجعلوا أهل الظاهر حجة لهم، لأن الباطن لا بد له من نسبة في الظاهر بالعكس، فلذلك قال بن العريف: كل باطن باطل، وجيده من الحقيقة عاطل (1)، انتهى وهو عجيب، فاعرف حقه، وبالله التوفيق.
وأما شيخ التربية فيحتاج فيه إلى ثلاثة أمور:
أحدها: معرفة النفوس وأحوالها الظاهرة والباطنة، وما يكتسب به كمالها ونقصها، وأسباب دوام ذلك وزواله على وجه من العلم والتجربة لا ينتقص ولا يختل في أصله، وغالب فرعه.
الثاني: معرفة الوجود وتقلباته، وحكم الشرع والعادة فيما يجريان فيه نصا وتجربة، ومشاهدة وتحقيقا، وذوقا للأجسام الكثيفة، والأرواح اللطيفة، حتى يعامل كلا بما يليق به.
الثالث: معرفة التصرف بذلك وتصريفه، بأن يضع كل شيء في محله على قدره ووجهه، من غير هوى ولا ميل لحظ، ولا يتم له ذلك إلا بورع صادق في تصرفه، ينتجه عدم رضاه عن نفسه، وزهد كامل نشأ عن حقيقة إيمانية تهديه لترك ما سوى الحق سبحانه، وتأدب كامل بمن صح أدبه، وقد قال أبو علي الثقفي (2) (ض): فلو أن رجلا جمع العلوم، وصحب طوائف الناس، فلا يقتدى به حتى يأخذ أدبه عن شيخ أو إمام.
(1) قال المؤلف في قواعد التصوف ص 47، بعد أن ذكر أن للناس في أخذ العلم من الكتاب والسنة ثلاثة مسالك، قال: قوم أثبتوا المعاني وحققوا المباني، وأخذوا الإشارة من ظاهر اللفظ وباطن المعنى، وهم الصوفية المحققون، والأئمة المدققون، لا الباطنية الذين حملوا الكل على الإشارة، فهم لم يثبتوا المعنى ولا العبارة، فخرجوا عن الملة ورفضوا الدين كله.
(2)
هو المحدث الفقيه الزاهد العابد محمد بن عبد الوهاب بن عبد الرحمان الثقفي، =
وقال الجنيد (ض): علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء، ويأخذ أدبه من المتأدبين، أفسد من اتبعه، وقال في حكم ابن عطاء الله (ض): لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله، ربما كنت مسيئا فأراك الإحسان منك صحبتك إلى من هو أسوأ حالا منك انتهى، وإليه أشار بقوله: ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه.
قال في التنوير: وليس يدل على فهم العبد كثرة علمه، ولا مداومته على ورده، إنما يدل على فهمه نوره وغناه بربه، وانحياشه إليه بقلبه، وتحرره من رقة الطمع، وتحليه بحلية الورع، فبذلك تحسن الأعمال وتزكو الأحوال، قال الله تعالى:{إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} (1) انتهى غرضنا من كلامه، فانظره إن شئت، وبالله التوفيق. وأما شيخ الترقية، فعلامته ثلاثا:
أولها: أن رؤيته زيادة في العمل، ومنه قولهم: كنا إذا فترنا نظرنا إلى محمد بن واسع فعملنا عليه أسبوعا (2).
= من ولد الحجاج، كان إماما في أكثر علوم الشريعة، مقدما في كل فن، عطل أكثر علومه، واشتغل بعلم الصوفية، فال الصبغي: شمائل الصحابة والتابعين أخذها مالك الإمام عنهم، وأخذها عن مالك يحيى بن يحيى التيمي، وأخذها عن يحيى محمد بن نصر المروزي، وأخذها عن ابن نصر أبو علي الثقفي، (ت 328) سير أعلام النبلاء 15/ 280 وانظر طبقات الصوفية ص 361 - 365.
(1)
الكهف 7.
(2)
محمد بن واسع أحد الأعلام، ثقة عابد صالح، قال سليمان التيمي: ما أحد أحب أن ألقى الله بمثل صحيفته مثل محمد بن واسع، وقال جعفر بن سليمان: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة غدوت فنظرت إلى محمد بن واسع، كان كأنه ثكلى، وكان يقول عن نفسه: لو كان للذنوب ريح ما جلس إلي أحد، وكان يقول: إن الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم، وكان يسرد الصوم =
الثاني: إن خطابه تنمية للحال، وإليه إشارة الشيخ أبي محمد عبد السلام بن مشيش (ض)، حيث يقول: لا تصحب من يؤثر نفسه عليك، فإنه لئيم، ولا من يؤثرك على نفسه، فإنه قل ما يدوم، واصحب من إذا ذكر ذكر الله، فالله يغني به إذا شهد، وينوب عنه إذا فقد، ذكره نور القلوب، ومشاهدته مفاتيح الغيوب انتهى، وهو عجيب.
الثالث: إن مخالطته مثيرة للأنوار في بساط الكمال، فيرحم الله ابن عباد فيقول: في رجزه للحكم:
إن التواخي فضله لا ينكر
…
وإن خلا من شرطه لا يشكر
والشرط فيه إن تواخى العارفا
…
عن الحظوظ واللحوظ صارفا
مقاله وحاله سيان
…
ما دعوا إلا إلى الرحمن
أنواره دائمة السراية
…
تقيك وفد حفت بك الرعاية
وقاصد الفاقد هذا الشرطا
…
بصحبة يعقدها قد أخطا
لكونه يرى بها محاسنه
…
فنفسه ذات اغترار آمنة
انتهى وهو جامع لمقاصد الشروط، وبالله سبحانه التوفيق.
…
= ويخفيه، ولذا قال ابن شوذب: لم يكن لمحمد بن واسع عبادة ظاهرة، قال الأصمعي: لما صاف قتيبة بن مسلم الترك وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع، فقيل: هو ذاك في الميمنة، جامح على قوسه، يبصبص بأصبعه نحو السماء، قال: تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير، وشاب طرير، وقال ابن واسع، وهو على فراش الموت:(يا إخوتاه، تدرون أين يذهب بي؟ والله إلى النار، أو يعفو الله عني)، توفي رحمه الله تعالى سنة 123 هجرية، ذكر ذلك كله الذهبي في سير أعلام النبلاء 6/ 118 وصفة الصفوة 3/ 266.