الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعلمية، ونبه عليه ابن عطاء الله في كتابه (مفتاح الفلاح)، وكان بعض مشايخ المغرب ممن أدركناه يتصرف بها تصرفا عجيبا (1)، وكذلك أدركنا بيننا (2) من الفقهاء لم يكن لهم تصرف غيرها، وكان لهم من سني الحالة وعظيم المنزلة ومواقع الهداية ونفع العباد ما لا مزيد عليه، فاعرف ذلك، وسر ذلك أنها تنزلت في حقنا منزلة السجود لآدم، لأنها عبودية تعلقت صورتها بواسطة، فمن آثرها كان محققا في العبودية ممكنا في القرب، ومن أباها كان شبيها بإبليس في إبائه، ومن منع منها كذلك، وإن كان لا يبلغ رتبة الشيطان لاختلاف قصده، فله فيه نسبة، فافهم، وإذا لم تكن الصلاة لحبيب الله (ص) هداية وفتحا ونورا، فأي شيء يكون؟ أو الثناء على المشايخ ولعن الطاعن عليهم والمنتقد لهم؟ أعاذنا الله من البلاء بمنه وكرمه.
…
22 - فصل
فإن قالوا: نحن لا نهجر العلم رأسا ولا نترك التلاوة جملة ولا ندع الصلاة على رسول الله (ص) بتا
، ومدعي ذلك علينا ظالم لنا، كيف وعندنا حزب الملام وفيه من التسليم على أنبياء الله وأوليائه وموالاتهم ومعادات من عاداهم، ما ينفي وجود هذه الدعوى عنا، وكذلك ما نفعله دبر كل صلاة وعند ختم المجالس، من الصلاة والتسليم عليه (ص)، ولنا في كل يوم حزب من القرآن معلوم كأول سورة البقرة يوم السبت، فما بعده مما هو معلوم عندهم، وعند أكابرنا من شواهد علوم القوم ما لا يخفى على مخالطهم.
قلنا: إنما نرد عليكم التحجير في العموم، وتأكيد الأمر حيث لا يصلح، والاستظهار بالأمور الشنيعة في المقاصد التي تنحونها مما يوجب احتقار غير ما تدعون إليه، لا سيما ما يظهر عليكم في ذلك من ادعاء الأفضلية في الحال والخصوصية في الأعمال، وتعميم الحكم في المقال،
(1) يعني: عدم الفتور عنها مع ملاحظة آثار بركتها عليه.
(2)
في خ: (بيتا).
وإدخاله على العامة والجهاد، وقد قال رسول الله (ص):"لا تجعلوني كقدح الراكب، فإن الراكب يملأ قدحه، فإن احتاج إلى وضوء توضأ أو إلى شراب شرب، وإلا أراقه، ولكن اجعلوني في أول صلاتكم ووسطها وآخرها"(1) الحديث، وهذا الذي نهى عنه هو حالكم، إذ تأبون أن يكون لكم منها ورد وتمنعون من ذلك من أتاكم، وتشددون عليه فيه غاية الشديد، بل ربما كان محبا لكم فتطرحونه لتمسكه بذلك، وهذا شيء في غاية القبح، وأقل ما في بابه الكراهة المثقلة، وهو أمر لا خفاء به عند كل ذي فطرة إيمانية.
فأما تلاوة القرآن على الوجه الذي تعتمدونه فلا أصل له في سلف ولا سنة، وإنما هو أمر مركب على الخاصية، موقوف على الاختيارات النفسية، وقد سمع رسول الله (ص) بلالا يقرأ من مواضع متفرقة فقال:"ما هذا يا بلال؟ "، قال: يا رسول الله أنتقي طيبه، قال:"اقرأه متصلا فإن كلام ربنا كله طيب"(2) وقال (ص): "مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعلقة، إن تعاهدها وجدها، وإن تركها تفصمت واحدة واحدة حتى لا تبقى منها واحدة"(3) قد أخبرت عن بعضهم أنهم يقرأون القرآن بالنهار ويتجنبونه بالليل، وهو عكس السنة والكتاب، إذ أثنى الله تعالى على قرآن الفجر، وجاء في الخبر الحض على القيام به بالليل والعمل فيه بالنهار، ومن لم يقم به بالليل ويعمل به في النهار فقد ضيعه، وقيل في قوله تعالى:{كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (4) إنها في الرجل يحفظ القرآن ثم ينساه، وفي الخبر: "عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم
(1) خرجه عبد الرزاق في المصنف 2/ 215 وعزاه الهيثمي في المجمع 10/ 158 إلى البزار من حديث جابر، وقال: فيه موسى بن عبيدة ضعيف، وفيه إبراهيم بن محمد التميمي قال أبو حاتم: منكر الحديث، وانظر مختصر زوائد مسند البزار حديث رقم 2169.
(2)
الحديث بمعناه خرجه عبد الرزاق في المصنف 2/ 495 وابن أبي شيبة 6/ 151 عن سعيد بن المسيب مرسلا، وذكره الحكيم الترمذي 2/ 319 في نوادر الأصول من حديث أبي هريرة.
(3)
خرجه البخاري من حديث ابن عمر (ض) مرفوعا بلفظ: "إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد إليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت"، البخاري مع فتح الباري 10/ 456.
(4)
طه 126.
عند الله ممن (1) حفظ آية من كتاب الله ثم نسيها، أو قال: ضيعها" (2) الحديث، وهذا أمر قد وقع لجماعة، ممن خالط هؤلاء الناس لسبب نهيهم له عن التلاوة، ويرون ذلك كمالا وإنما هو نقص وضلال، وأغرب ما سمعته في ذلك عن أستاذهم، أن شيخه دخل عليه وهو يتلو، فقال: خل عنك يا فلان ما وصل الرجال إلا بالذكر، وهذه كلمة سوء تؤذن باحتقار كتاب الله، وأن الذكر أفضل منه، والأحاديث تدل على خلاف ذلك (3) أعاذنا الله من البلاء، ثم ما ذكره الإمام الغزالي وغيره في ذلك، من أن من كان حضوره بالذكر أتم فهو في حقه أفضل، معتبر بالأحوال والأشخاص بعد تسليم أن القرآن أفضل وأنفع، وأنه لا ينتقل عنه إلا للضعف عن حمل أنواره، أو لما ورد نصا في محله، وأنتم قد أتيتم بالأمر عموما، فلا يصح لكم ذلك، والله أعلم.
وأما العلم فما عند الأكابر لا ينفع الأصاغر إلا بتعليمه، ولا تعليم إلا من حيث صورة ما أنتم عليه، بل كافة أصحابكم جهال بأحكام العبادات
(1) في ت 1: (من رجل حفظ).
(2)
جزء من حديث خرجه الترمذي وأبو داود عن أنس مرفوعا، أوله:"عرضت علي أجور أمتي"، وهو ضعيف، قال الترمذي 5/ 179 بعد أن ذكره: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قال: وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه واستغربه، قال محمد - يعني البخاري -: ولا أعرف للمطلب بن عبد الله سماعا من أحد من أصحاب النبي (ص)، إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي (ص)، قال: وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول: لا نعرف من المطلب سماعا من أحد من أصحاب النبي (ص)، قال عبد الله: وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس، وذكره الحافظ في الفتح 10/ 463.
(3)
من ذلك ما رواه أحمد عن سمرة، قال: قال رسول الله (ص): "أفضل الكلام بعد القرآن - وهن من القرآن - أربع لا يضرك بأيتهن بدأت؛ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبره"، المسند 5/ 20، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 91: رجاله رجال الصحيح، فأفضل أنواع الذكر القرآن، ثم الذكر والثناء على الله، ثم أنواع الأدعية، وانظر زاد المعاد فصل: في هديه في الذكر. فهذا من حيث العموم، لكن قد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، وذلك إذا طلبه الشارع في وقت معين أو حال مقيد، كالتسبيح في الركوع والسجود، والذكر عقب الصلوات بالتسبيح والتحميد والتكبير، والذكر بحكاية الآذان عند سماعه، فإن ذلك في محله أفضل من قراءة القرآن، الوابل الصيب ص 86، وانظر زاد المعاد، ويأتي للمؤلف هذا التفصيل من أن كل شيء في محله أفضل من غيره، انظر فصل 28.