الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
42 - فصل
في أمور تقيدوا بها في العادات وغيرها
.
فمن ذلك تقيدهم في اللباس والصوف (1) وبالأبيض منه والأخضر، والعمامة، كورية إن كان ثم ما يكون فوقها، وكشفها إذا أراد مصافحة ونحوها، فأما الثلاثة الأول فلها مستند، وأما العمامة الكورية فهي من فعل قوم لوط، وزي العجم، إذ عمائم العرب ذوات دوائب، أو محنكة، ولم يزل رسول الله (ص) ينهى عن التزيي بزي الأعاجم، وقد تقدم ما فيه من كلام بعض العلماء وتأويله، مع أن الأولى التنزه عند الاشتباه (2) والله أعلم، وما وراء ذلك لا نعرف لهم فيه أصلا، ولا في نفيه مستندا فلا نتعرض له.
ومن ذلك تقيدهم في المخاطبات بأمور لم تعهد لغيرهم، كقولهم:
(الاختيار في الكلام)، (الاختيار في القيام)، (الاختيار في كذا
…
)، لكل أمر يريدون الاستئذان فيه، وهو كل أمر يتصرفون فيه مما قل وجل، حتى الواجبات والضروريات، وقد تقرر ما فيها، فأما غيرهما فقد يكون له وجه، لكن السنة خلافه، لا سيما اشتراطه، إلا في حق المريد المشرف الذي يخشى عليه من حركاته، فيكون دواء لعلته، والله أعلم.
فأما تلك الألفاظ المذكورة المتعارفة بينهم فهي اصطلاحية، وقولهم:(الفقراء بالصورة)، يحتمل وجوها ثلاثة:
أحدها: أنهم في ذلك يخبرون عن أنفسهم أن ليس لهم في الطريقة إلا الصورة، فهو من باب التواضع ورؤية الفلس في الحال من الحقائق، فهو من باب الأدب.
الثاني: إن حقيقة الفقر للشيخ والصورة للمريد، حتى ينتهوا إلى المشيحة، وكذا سمعت تأويله عندهم.
(1) سئل مالك رحمه الله تعالى عن لباس الصوف، فقال: لا خير في الشهرة. انظر المدخل 2/ 141.
(2)
في خ: (التنزه عن الاستنباط).
الثالث: إن تسمية الفقراء لا حقيقة له فيهم، لاتسامهم بالغناء بالله في نفس الأمر، فهو اعتراف بالمنة، ووقوف مع كرامة الحق في خطاب التكليف، ونعمة الإسلام ونحوه، وهذه كلها أمور تجر إلى الدعوى والاستظهار بالنسبة، فلا يسلم من رؤية النفس معها إلا من عصم الله سبحانه وتعالى، ثم فيه من إغراء المنكرين عليهم بالتهجين والتقبيح واستثقال النفوس لذلك منهم بما لا خفاء فيه، فاعرف ذلك، ومن ذلك تقيدهم في الأمور بمقدم يرجع إليه في غياب الشيخ أو حضوره ممن ترضى حاله أو لا، وقد يكون جاهلا، فيقدمونه حتى على العالم منهم، وهو من إرهاق العسر، مع أن السنة عدم ذلك إلا في السفر.
فإن قالوا: نحن مسافرون بالمعنى، قلنا: يتعين أن تقتصروا في حركاتكم على ما يقتضيه سفركم في اتباعه، وهو معرفة الطريق، ووجه السير، والنزول ونحوه، لا في (1)، العموم، لكن قد يكون للتعميم وجه، حيث لا نص من الشارع بنفي ولا إثبات، فاتقوا الله في ذلك.
ومن ذلك إباحة المعانقة وتقبيل اليد والمصافحة، أما المصافحة فحسنة وفيها اختلاف (2) وقد تقدم الكلام على صورتها، وأما تقبيل اليد فالمشهور كراهته (3) والفتيا بجوازه حيث لا وازع دنيوي، ولا خشية شهوة ولا توهمها، والمعانقة كرهها مالك وأجازها غيره (4) لكن هذه الثلاثة قد تكون ذريعة لأمور منكرة، عاينا منها ما شاء الله عند قوم، وقد قال بعض التابعين: يكون في هذه الأمة لوطيون ثلاثة، قوم بالفعل وقوم بالمصافحة وقوم بالنظر (5)، فيرحم اللهم مالكا في سد هذه الذرائع بالكراهة، ولغيره العذر بإثبات الحكم، وإثم الفاجر على نفسه، والله أعلم.
(1) في ت 1: (إلا في).
(2)
انظر حكمها في فصل 38 (هاش).
(3)
انظر حكمه في فصل 38 (هاش).
(4)
انظر حكم المعانقة فصل 38 (هاش).
(5)
أخرجه البيهقي في الشعب 4/ 359 من قول أبي سهل، وانظر الدر المنثور 3/ 151.
ومن ذلك اشتراطهم الزيارة (1) على المريد، وأنه مع إخوانه مساو لهم في الحال وغيره، وهو شيء يجر إلى أكل الحرام النص، فإن النفوس مهجبولة على حب الخير، واستحسان ما يذكر بالحسن فتأتي لذلك، وتدخل فيه، مع حب الدنيا، فلا يمكنها إلا الإسعاف مصحوبا بالتكلف، وقد قال (ص):"أنا وأتقياء أمتي برآء من التكلف"(2) وقد انجر بعض الناس إلى المنافسة فوقعوا في خلاف المقصود، وصار يؤذي بعضهم بعضا بالمعايير، ويقولون: ذوي فلان (3) مثل ثيران الحرث، لا يأتون بشيء، ويريدون العلف والتلف، إلى غير ذلك، وهذا أمر محرم إجماعا، وأعظم من ذلك استنادهم إلى قوله تعالى:
{إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة
…
} (4) الآية، وهي آية منسوخة الحكم وإن بقي الندب، لكن في حق المقام الأشرف (ص)، فلا يقاس به غيره، وقياسه به من إساءة الأدب، وشم روائح الزندقة، وإن ادعي الوراثة ففي العلم والعمل والحال، لا في تكلف التعظيم والوقار، وأخذ المال، بل يتعين عليه أن يدع الناس وهمهم فيه، ويسقط عنهم الحق (5) والكلفة، فإن هو فعل، وإلا هلك وأهلك، وبالله التوفيق.
…
(1) أي: يزورونه للأكل عنده كما يتضح مما يأتي.
(2)
قال النووي: ليس بثابت، وأخرجه الدارقطني في الإفراد بسند ضعيف عن الزبير بن العوام مرفوعا بمعناه، وعزاه في كشف الخفاء لابن عساكر لكن النهي عن التكلف ثابت في الشريعة، قال تعالى:{وما أنا من المتكلفين} ، وفي الصحيح عن عمر موقوفا:(نهينا عن التكلف)، وليس المراد منه أن الإنسان لا يهتم بضيفه ولا يكرمه، بل المقصود منه ألا يتكلف الإنسان له ما لا يقدر عليه، البخاري مع فتح الباري 17/ 30 وكشف الخفاء ص 237 و375.
(3)
الصواب: ذوو فلان.
(4)
المجادلة 12.
(5)
المراد بالحق الإلزام الذي ألزم به بعضهم بعضا فأداهم إلى التكلف.