الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يصل صاحبه للحق إلا من حيث استشعار الاستهلاك (1) فيه، ولذلك قال بعض المشايخ في حق بعض من تقدمه منهم: لو أدرك أحدا من صبياننا لأسلم على يديه (2).
وقال الحسين (3) بن المنصور: لما بلغه شأن الخواص وانقطاعه لتحقيق التوكل: أين هو من الفناء في الله، وقال الواسطي لأصحاب أبي عثمان رحمه الله لما قالوا له: يأمرنا بالعمل ورؤية التقصير فيه -: أمركم بالمجوسية المحضة، هلا أمركم بالغيبة عنها بشهود منشيها ومجريها، أو كما قال، وتكلم عليه الإمام القشيري في ذلك كلاما حسنا، فانظره، وبالله التوفيق.
…
59 - فصل
في بيان طريقة أهل اليمن وما ظهر منها وما كمن
والنفوس عندهم أراضي لا يصلح حرثها إلا بسابقة مطر هو التوفيق، فمن وجد عندهم منه نكثة ولو في بساط الظلمات اعتبروه، ومن لا أهملوه، فأي نفس رأوها قابلة للحرث حرثوا فيها ما تقبله بحسب قواها، فهم يربون العالم بالعلم، والعابد بالعمل، والمريد بالذكر، والصادق الساذج بالهمة، لا يخرجون أحدا عما أهلته له الحكمة الإلهية، بل يعينونه فيه، ويجعلون سلوكه منه ليكون أعون له على ما يريده، فإن من سار إلى الله بطبعه، كان الوصول أقرب إليه من طبعه، ومن سار إلى الله بالخروج عن طبعه، كان وصوله على قدر بعده من طبعه.
(1) في ت 1: (إلا عند رمق، فلا يلتذ بمشاهدة الحق إلا من حيث استشعار الاستهلاك
…
إلخ).
(2)
أي: لانقاد له، من الاستسلام وهو الانقياد، وهو من قول الجنيد في أبي يزيد كما في لطائف المنن ص 119.
(3)
الحسين بن منصور الفارسي الحلاج أبو عبد الله المقتول على الزندقة، قال الحافظ ابن حجر: الناس مختلفون فيه، وأكثرهم على أنه زنديق، لسان الميزان 2/ 314 وطبقات الصوفية 307. في ت 2: الحسن.
وقد عرف أن الفلاح العارف إذا وجد الأرض مشغولة بما لا منفعة فيه أزاله عنها (1) ثم حرث فيها ما فيه منفعة على حسب ما تقتضيه، فكذلك العارف من هذه الطائفة، يجرد النفوس عن شوك المحرمات، ثم يشق أرضها بوجود الصدق وأسباب الاعتقاد، حتى إذا تأهلت لبذر الذكر، ألقي فيها منه ما يصلح لها وتحمله قواها، وجعلوا الأمر عند الله فيما ينمي ذلك من مطر التوفيق والتنزلات الموهبية، غير أنهم يهيئون السواقي التي هي الأسباب الشرعية من العمل ونحوه، وينقون الحجر، واللفيف من الربيع والشوك ونحوه، مثل الرياء والعجب وما في معناه، خوفا من آفته، ثم لا تزال هممهم متعلقة بفضل الله وكرمه في توصيل المقصد والمراد على أتم الوجوه وأكملها، فلذلك كان طريقهم مصحوبا بالتنعم بالحق من أول قدم، لأنه لا تعريج لهم على غيره من أول الأمر إلى آخره، وذلك مقتضى الإيمان والحكمة، فلذلك قال (ص):((الإيمان يمان والحكمة يمانية))، وهو أيضا طريق الرحمة والسهولة التي أشار لها عليه الصلاة والسلام بقوله:((إني لأجد نفس الرحمن من ناحية اليمن)) (2)، يعنى تنفس الرحمة، وهو بساط النصر في قوله:((نصرت بالصبا)) (3) الحديث، فاعرف ما أنت فيه، ثم اسلك على منهاجه تبلغ مرادك في أقرب مدة إن صدقت وأهلت، وذلك بأن تنظر
(1) في ت 1: (إذا وجد الأرض مشغولة بما فيه منفعة نماه بالخدمة والسقي ونحوه، حتى ينتج، وإن وجدها مشغولة بما لا منفعة فيه
…
إلخ).
(2)
عزاه الهيثمي في المجمع 10/ 59 إلى أحمد من حديث أبي هريرة (ض) وقال: رجاله رجال الصحيح غير شبيب، وهو ثقة، ولفظه، قال (ص):((لا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية، وأجد نفس ربكم من قبل اليمن))، والجزء الأول من الحديث في الصحيح، وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 1097 أن زيادة: ((أجد نفس ربكم
…
إلخ))، ضعيفة لضعف شبيب، حيث لم يصرح بتوثيقه سوى ابن حبان، لكن الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 56 قال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير شبيب، وهو ثقة، وعزاه الزيلعي إلى البزار من حديث سلمة بن نفيل، وقال البزار: رجاله رجال معروفون من أهل الشام مشهورون إلا إبراهيم بن سليمان الأفطس، مسند البزار رقم 3702 وتخريج الأحاديث والآثار 4/ 316.
(3)
البخاري مع فتح الباري 3/ 174.
في قواك، فما وجدته غالبا عليك من شهوة أو غضب أخذت في تقويته بالأذكار اللائقة به، والأعمال الموافقة له، والحركات المؤثرة له، ثم لا تزال كذلك حتى يبدو الأثر فيك، ثم يبدو عليك، ثم يبدو منك، وعلى هذه الطريقة يحوم الشيخ أبو العباس البوني رحمه الله في كتبه، وأحسنها في ذلك (القبس)(1) وهو أخفها مؤنة، وقد عرف أن كل اسم فخاصيته من معناه، وتصريفه في مقتضاه، وسره في عدده، وتأثيره على قدر قول صاحبه، ونفوذه على قدر القيام بمناسبته من الشريعة، فاعرف ذلك، وسر به تجد الأمر كأنه طوع يدك.
واعلم أن معاقل الطريق أربعة:
أولها: موقف الانتباه، وأذكاره ما يقتضي التنصل (2) من الاستغفار والاعتراف ونحوه.
الثاني: موقف الدخول لبساط العبودية، ويناسبه ما ينعش الهمة، مثل ذكر سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، ونحو ذلك.
الثالث: موقف التطلب والاستفادة، ويناسبه ما يقتضي ذلك، مثل الحي القيوم، فإن فيهما سر الحياة والقيام وما جرى مجراه.
الرابع: موقف التحقق ويناسبه ما يقتضي الفناء والاستغراق، مثل العظيم والكبير وما في معناهما، ولهذه الإشارة شرح لا تقوم به السطور، ولا تحيط به الصدور، وله مناسبة في الأفعال، وتصريف من بساط الحكمة، دون قصد الأشخاص، وعليه مدار الخمس من الشرعيات والوجوديات، واجمع الهمة واصدق الطلب تدرك المراد بجملته، ولا تتبع أهواء الباطلين الذين لا عزم ولا همة ولا خدمة، حتى حذر الناصحون من طرائقهم في ذلك عموما، فقالوا: (باين البوني وأشكاله، ووافق خير
(1) في ت 2: (الفيض).
(2)
يعني: التخلي عن الذنوب وتركها.