الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويتبطل، فليلزم الرخص، قال ابن عباد رحمه الله: ويعني بالرخصة هاهنا كل ما كان مضادا لحال المريد من تناول الشهوات واللذات، والميل إلى المألوفات والمعتادات، والركون إلى الدعات والراحات، وارتكاب الشبهات والتأويلات، فإن حال المريد يقتضي مباينته لهذا كله، وإن كان بعض ذلك مباحا في رخصة الشرع لعامة الناس. انتهى، وفي كلامه تلفيف يحتاج إلى بيان معنى، وتحقيق وبسط وجه، وبالله التوفيق.
…
65 - فصل
في الرخصة والشهوة والشبهة والتأويل وحال المريد في ذلك
ومعاملته فيه
اعلم أن الناس ثلاثة:
الأول: عارف يتصرف بالفناء على لسان العلم، ولا حديث لنا معه لكماله.
الثاني: عامي يتصرف بالعلم على وجه إسقاط الحرج، ولا كلام لنا معه لأنه تابع للفقه.
الثالث: مريد يتصرف بالعلم على بساط الحقيقة، فحقه أن يحفظ ظاهره من النقص، وباطنه من الغفلة، وذلك يقتضي استغراق حركاته فيما يرضي الله عنه، ولا يقدم على شيء إلا بنية، ليكون له من كل شيء أمنية، ويأخذ منه بالمحقق، ويدع المحتمل، ويأخذ من المحقق بما هو الأولى أبدا، وبحسب ذلك فهو يفارق ما فيه (مغمز ما)(1) وقد عرف أن الرخص والشهوات من ذلك في الجملة، لكن لها من حيث الشرع وجوه تكون فيها كمالا، فكل رخصة أجمع المسلمون أو جمهورهم على استحباب العمل
(1) في ت 1 بياض.
بها، أو قال بذلك فيها إمام المريد في ديانته، فهي نور وعليها تنزل قوله (ص):((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تترك عزائمه)) (1).
مثال ذلك القصر في السفر، والترفق في العمل، والإفطار بدلا من صيام الدهر، ومباسطة الأهل، والكذب في الإصلاح بين الناس حيث يؤمن، إلى غير ذلك مما ندب إليه أو أبيح، غير مقيد بضرورة أو تقيد بمصلحة شاملة النفع في نظر الشارع، وكذا كل شهوة في طيها قربة، غير أنه ينبغي له أن يتثبت فيها، بأن لا يقدم عليها ابتداء دون تحقيق المناط فيها، مثاله أن تدعوه نفسه لأهله في النكاح، وتبدي له علة من خوفه على نفسه التشوف أو إعفافه أهله ونحو ذلك، فلا يجيبها بأول مرة، بل يتوقف إلى تحقيق ما تدعيه بوجه لا شك فيه، وكذلك إذا طلبته بتناول شهوة من مأكول ونحوه، فليعزلها عن الطلب والتشوف بالإياس حتى لا تعتاد ذلك.
ثم إن جاءت من وجه مباح دون تسبب ولا تعريض ولا إشراف، فلا يتركها، لأن الشهوات لا تترك لذاتها، بل لما تؤدي إليه من الغفلة أو التحامل على ما لا ينبغي، أو الإغماض (2) في خلاف الحق، أو تفويت مندوب بسببها، فلذلك تركها القوم لا لذاتها، ولذلك أشار الأثر المروي عن بعض الأنبياء: أن الله تعالى أوحى إليه حذر قومك الشهوات، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها محجوبة عني (3) وقال (ص): ((المؤمن يأكل بشهوة أهله
…
)) (4) الحديث.
(1) تقدم في فصل 41.
(2)
في ت 1: الاغماق.
(3)
مروي عن كعب الأحبار في حلية الأولياء 5/ 382 وتاريخ ابن عساكر 7/ 430 أن جبريل أتى آدم وقال له وذكره، وفي الحلية 9/ 260 نسبه أبو سليمان الداراني إلى داود عليه السلام.
(4)
ذكره الحافظ السخاوي والعجلوني بلفظ: ((المؤمن يأكل بشهوة عياله، والمنافق يأكل بشهوة نفسه))، وعزاه إلى الديلمي في مسنده عن أبي أمامة مرفوعا، ويروى عن عمر بن الخطاب:(كفى سرفا ألا يشتهي رجل شيئا إلا اشتراه فأكله)، وسنده منقطع، انظر المقاصد الحسنة ص 439، وكشف الخفاء 2/ 408.
وقال في الحكم: المؤمن يشغله الثناء على الله عن أن يكون لنفسه شاكرا، وتشغله حقوق الله عن أن يكون لحظوظه ذاكرا انتهى، ومعناه أنه يذم ربه فيما ينعم عليه به فلا يتفرغ لثنائه على نفسه، لاشتغاله بحمد مولاه وشكره، ويذم حقه فيما يرومه من الحظوظ، فلا يدخلها إلا بأمر منه، فتكون عاملا له لا لحظه، والله أعلم.
فإن قيل: كل مباح لا يخلو عن شهوة والعبد مضطر إليه.
قلنا: الخلاص من ذلك بذم حق الله فيه، فما لم يكن الباعث عليه حق الله، فلا تقربه، ولذلك طلب من المريد أن لا يأكل إلا من فاقة، ولا ينام إلا من ضرورة، إلى غير ذلك، فافهم، ومتى تأخر ذم الوجه عن الواقع، فهو تأويل لا عبرة به، وضرره أكثر من نفعه، إلا أن يفيد استغفارا، أو تذكرا للمستقبل فلا بأس به، والفرار منه أحسن.
ثم من الرخص والشهوات ما أجمع المسلمون على إباحته، أو قاربوا الإجماع، كالسلم والفطر في السفر، والسلف، وعدم البحث عما في الأسواق أحلال هو أم لا، ما لم يتعين أو تقوم شبهة فيه، والصلاة خلف أئمة الأمصار والقرى المعتبرة دون بحث، ورأوا أن البحث فيه من التنطع، وهو أيضا ممن حيز الرخص المحبوبة، لكونه من سماح الدين وسهولته الذي لا تطيب به إلا نفس مؤمن سليم الصدر، فإن الرخصة تحيك في صدر المشمر، كما تثقل العزيمة على المقصر، فلذلك قوبلت بها.
وإنما الرخصة المذمومة عند القوم الرخصة المكروهة، كترك معتاد الفضائل والاسترسال في العاديات، أو التوسع في المباحات، أو الرجوع في المندوبات، أو الدخول في جلي الخلافيات، لا لضرورة فادحة، فإن توقى الشبهات لازم لكل مؤمن، فضلا عن المريدين، لكن شبهة الخلاف قل أن ترتفع عن مسألة في الفروع، لقلة مسائل الإجماع، لكن ما قويت شبهته أو كان الاحتياط يساعده لزمت مراعاته، وإلا فلا حرج في الدين، والخروج من الخلاف مستحب اتفاقا حسب الإمكان، واختلاف العلماء رحمة.