الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن كان يؤدي إلى منكر أعظم منه فيمنع، لا من حيث ذاته، بل من حيث ما يؤدي إليه، وقد أمرنا بطاعة الأمراء، واحترام العلماء، ما لم يكن الذي نصيب أعظم من الذي يصيبنا (1) وهذا زمان الفتن والمحن، فلا سبيل إلى التعرض للأمور الجمهورية في حق كل ضعيف أو مجهول الحال، أو من يرى أن كلامه فيها من الدعوى والاستظهار بالكلمة، فإن ذلك يؤدي إلى التلف والهلاك، وقد عاينا منه كثيرا، والتواريخ مملوءة به، فدع الأمراء والمتصدرين سبيلهم، إن أصابوا فلهم، وإن أخطؤوا فعليهم، فقد قال (ص):((إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك)) (2) ومن تعلم العلم ليحكم به على الناس فلا يستريح ولا يستراح منه، ومن تعلمه لنفسه فمستريح ومستراح منه، وعلى الإنسان أن يقوم بنفسه ثم بأهله وولده وصديق ملاطف إن أمن غائلته، وقليل ما يوجد في هذه الأزمنة، وللمحاولات وجه، فدع عنك أمر العامة، ثم سايس الأمور في حظوظ الناس، تظفر بسلامة الدنيا، وتحصيل الديانة، وبالله التوفيق.
…
102 - فصل
في متشابه الأمور بين البدعة وغيرها
فمن ذلك في باب العلم، الاشتغال بعلم المنطق والجدل، أو علم الكلام والفلسفة، ونحوها، فقد ذهب جماعة من الأئمة إلى منع الاشتغال به، ورآه ضلالا، وذهب جماعة إلى تقديمه والاهتمام به، ورآه كمالا،
(1) في ت 2: يصيبه.
(2)
تقدم في فصل 13، وقد ذكر حديث أبي سعيد في الصحيح مراتب تغيير المنكر، وفيه قال (ص):((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))، وورد في حديث آخر في الصحيح بعد ذكر هذه المراتب الثلاثة:((وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل))، مسلم 1/ 69 و70.
وقوم فصلوا فيه، وقوم توقفوا، وقوم جعلوه في حيز المهملات.
ومذهب السلف وجمهور أصحاب أهل المذاهب على تجنبه، فقد اتفق مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وسفيان الثوري في جماعة من العلماء على تحريم الكلام في علم الكلام، ولم يتكلم السلف (ض) في الاسم والمسمى، ولا في التلاوة والمتلو، ولا في الصفة والموصوف، ولا في مشكلات الآيات والأحاديث، إلا من حيث إخراجها عن ظاهرها المحال فقط، بل ضرب عمر (ض) صبيغا لما كان يتتبع مشكل الأحاديث والقرآن ويسأل عنه.
وقال جماعة من السلف، بل جملتهم: بكراهة رواية الأحاديث المشكلة، وممن روى عنه ذلك مالك (ض)، وعاب الشيوخ على الشيخ أبي بكر بن فُورَك كلامه في الأحاديث المشكلة التي لم تصح، والاشتغال بتأويلها، وقالوا: كان يكفيه تضعيف أصلها، ولا ينبغي أن يتكلم منها إلا على ما صح، لوجود الاضطرار إليه، وله نية صالحة فيه، فجزاه الله وجزاهم خيرا.
وقال الشافعي رحمه الله: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم هو المسمى أو غيره، فاشهد أنه من أهل الكلام ولا دين له، وقال الإمام أحمد بن حنبل (ض): لا يفلح صاحب علم الكلام أبدا، ولا يرى أحد ينظر في علم الكلام إلا وفي قلبه مرض، وقال أيضا: علماء الكلام زنادقة، وقال أبو يوسف (1): من طلب العلم بالكلام تزندق.
وقال الشافعي رحمه الله: قد اطلعت في علم الكلام على شيء ما ظننته قط، ولأن يبتلى العبد بكل شيء نهى الله عنه عدا الشرك، خير له من أن ينظر في الكلام.
(1) أبو يوسف صاحب أبي حنيفة يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي (ت 182) تذكرة الحفاظ 1/ 292.
قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله: وحدثنا الثقة أن الإمام أبا بكر [الشاشي](1) رحمه الله، كان يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم فيه تعالى، وفي ذكر صفاته إجلالا لاسمه سبحانه، ويقول: هؤلاء يتمندلون بالله عز وجل.
وقال الخطابي (2) رحمه الله: وكان بعض من أدركنا من مشايخنا، قل ما يذكر الله إلا فيما يتصل بطاعة، وكان يقول للإنسان: جزيت خيرا، وقل ما يقول: جزاك الله خيرا، إعظاما لاسمه تعالى أن يمتهن في غير قربة.
قال بعض المشايخ (3): ومن تكلم في بعض علم الكلام من الأئمة، فإنما قصد لدفع ما أحدثه أهل الأهواء من الشبه والتخيلات التي لا يمكن ردها إلا بالكلام فيه، لابتنائها عليه، قال: واختلف العلماء هل لا يرد الباطل إلا بالحق، أو يرد بكل ما أمكن رده به، فمن منع من علم الكلام، قال بالأول، ومن أجاز قال بالثاني (4)، والله أعلم.
…
(1) هو أبو بكر الشاشي محمد بن أحمد بن الحسين الشافعي (ت 507) تذكرة الحفاظ 3/ 1241.
(2)
هو حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي أبو سليمان، محدث فقيه (ت 388) شذرات الذهب 3/ 127.
(3)
هو ابن أبي جمرة كما في بهجة النفوس له 1/ 143.
(4)
رد الباطل كالسحر والصرع ونحوه لا يجوز بما لا يعرف معناه من العزائم والطلاسم، لأنها كثيرا ما تشتمل على الشرك والكفر، كما قال مالك رحمه الله تعالى في المجهولات:((ما يدريك لعلها كفر))، قال المؤلف في قواعد التصوف 64: وقد رأيت من يرقي بألفاظ كفرية، فلا يكون الاستشفاء إلا بما شرعه الله تعالى ورسوله (ص)، قال تعالى:{ولا يفلح الساحر حيث أتى} وقد دلت الأحاديث الصحيحة أنه لا يجوز الوصول إلى الحق عن طريق الباطل، فقد نهى النبي (ص) عن إتيان الكهان، ولو كان يحصل للناس بإخبارهم نفع، وقال للذي سأله عن الرقي:((أعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك))، وقال:((النشرة من عمل الشيطان))، وقال:((من أتى عرافا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد))، إلى غير ذلك من النصوص الشرعية الدالة على منع أن يتخذ الباطل طريقا إلى الحق، وليس للإنسان أن يدفع الضر عن نفسه بما شاء، ويجلب النفع بما يشاء، بل لا يكون ذلك إلا بأمر شرعه الله تعالى، لا بما حرمه، انظر مجموع الفتاوى 24/ 278، وأساسيات الثقافة الإسلامية للمحقق ص 176.