الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في نفسك أو يلحق غيرك في دينه ودنياه، فلك في التخلف وجه، وهو تحقيق المناط، والتمسك بما لا خفاء به من أمر الأول كما تقدم، وبالله التوفيق.
48 - فصل
في أوصاف المدعين وحركاتهم وما يجري منهم وبسببهم
.
وهم أنواع كثيرة لا تكاد تنضبط بزمام، قد تقدم منها جملة، ونذكر هنا ما تيسر في ذلك، فمنهم من يدعي العلم بالسنة، ويتعلقون بالأحاديث الباطلة، ويحملون الناس على العمل بها، فتنقاد لهم النفوس لغربة ما أتوا به، وعظيم ما يسمعون من ثوابه مع خفته، وقد تكلم على ذلك جماعة من العلماء، حتى لقد قال القاضي أبو بكر بن العربي (ض): اعلموا رحمكم الله تعالى أن الله سلط على الخلق، لجهلهم بالحق، وحرصهم على الخير، قوما نالوا خدمة العلم وليسوا من أهله، فأدخلوا على النبي (ص) أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان، وساقوها لهم في معرض الخير، وطريق الشر، ليلحقوهم بالأخسرين أعمالا، فكانوا بذلك من عباد الشيطان، لا من عباد الرحمن، فحذار أن يأخذ العامي إلا بما في كتب الإسلام الخمسة؛ البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي والموطأ (1) فإنه روحها وتاجها، ذكره في العارضة والسراج.
ومنهم قوم يدعون مقامات الرجال، وهم خلو من العلم والعمل والحال، وإليهم يشير الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله حيث قال: عشرة وأي عشرة فاحتفظ بها: إذا رأيت رجلا يدعي حالة مع الله تخرجه عن أمر الشرع فلا تقربن منه، وإذا رأيت رجلا يركن إلى غير أبناء جنسه فلا تقربن
(1) الكلام في العارضة مع شيء من الاختلاف، وقال: خمسة، وذكر ستة كتب، أقول: لم تنحصر الأحاديث الصحيحة في هذه الكتب الستة، بل توجد في غيرها، وليس كل ما ورد في غير الصحيحين من الكتب الستة صحيحا، ولو كانت عبارته:(فحذار أن تأخذ بغير الثابت من الحديث) لأنصف، عارضة الأحوذي 3/ 286.
منه، وإذا رأيت رجلا يسكن إلى الرئاسة والتعظيم فلا تقربن منه، ولا ترجو فلاحه، وإذا رأيت فقيرا عاد إلى الدنيا فلو مت جوعا فلا تقربن منه، ولا تركن إلى رفقه فإن رفقه يقسي قلبك أربعين صباحا، وإذا رأيت رجلا يستغني بعلمه فلا تأمنن جهله، وإذا رأيت رجلا يرضى عن نفسه ويسكن إلى وقته فاتهمه واحذره أشد الحذر، وإذا رأيت مريدا يسمع القصائد ويميل إلى المراثة (1) فلا ترجون فلاحه، وإذا رأيت فقيرا لا يحضر عند السماع، يعني سماع ما يلقى إليه، فاعلم أنه حرم بركات ذلك بتشتيت باطنه، وتبديل فهمه، وقد قال في الحكم: رب عبر عن المقام من استشرف عليه، وربما عبر عنه من وصل إليه، وذلك ملتبس إلا على صاحب بصيرة، فالكلام لا يدل على وجود المقام، لكن لكل شيء علامة ودليل.
قال في الحكم: من أذن له في التعبير فهمت في مسامع الخلق عبارته، وحببت إليهم إشارته، وقال أيضا: ربما برزت الحقائق مكسوفة الأنوار، إذا لم يؤذن لك فيها بالإظهار، وقال الشيخ أبو العباس المرسي (ض): كلام المأذون له يخرج وعليه حلاوة وطلاوة، وكلام غير المأذون له يخرج وعليه كسفة، حتى أن الرجلين يتكلمان بالحقيقة الواحدة فيتقبل من أحدهما وترد من الآخر، قلت: وربما ظهر ذلك من الشخص الواحد، فتقبل منه في محل وترد عليه في غيره، ومن علامة المدعي عدم انبساطه بزمام الحق وشواهد الحقيقة، فتجده تارة يدعي العلم، وتارة يدعي العمل، وتارة يدعي أنه من أهل الكرامات، وتارة يستظهر بأوصاف الأحوال، وقد يلتزم حالة واحدة لا ينتقل عنها، والصادق تختلف حركاته ولا يختلف قصده، ولا يختل أصله، بل ترد كل شيء منه لأصل واحد فينتظم، سواء في باب العلم أو العمل أو الحال، لأن الحق واحد وطرقه متعددة، والباطل متراجع كله، فافهم.
قالوا: والمرائي يدوم على حالة واحدة أربعين سنة والصادق يتقلب في الساعة الواحدة أربعين مرة، مع لزومه العلم والأدب في كل ذلك.
(1) في خ: الرأفة ولعلها المراقة.