الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
91 - فصل
في الكلام على تعلقات العوام من أهل التمسك وغيرهم
فمن ذلك تعلق كل طائفة من الناس بمن يواليه من الأولياء، كأبناء الفقراء بآبائهم وأسلافهم، وأهل كل بلد بمن له شهرة فيها مختصة بجهتهم، وجملة المنتسبين لمن تنتسب طريقهم، غالب البطالين الذين ليس لهم في إرادة المعالي قدم يستندون لأكابر المشهورين مثل: الشيخ سيدي عبد القادر، والشيخ سيدي أبي مدين، والشيخ أبي يعزى (1)، والشيخ أبي العباس السبتي، ونحوهم من المخبتين، وهذا كله لا يخلو عن دسيسة عصبية، أو رؤية مزية لأنفسهم، حتى لقد رأيت من حال أهل مصر يعظمون ابن الفارض، ويسبون الحاتمي، ومشرب كل منهما واحد، ولكل صالح النية لا يخلو عن فائدة أبدا، ولو كان معلولا بعلة نفسانية خفية، فخفي العلل يقدح في واضح القصد، وقد سمح المشايخ للمريد أن يجاوز الحد في شيخه حسب اعتقاده من غير غلو، ما لم يخرج إلى الطعن في المشايخ، ذكره ابن ليون في الإنالة (2) وهذا منه.
ثم بساط كل أحد في ظهور كرامته على حسب حالته، ومن ذلك انتفاع الناس بالسبتي رحمه الله في باب العمل (3) أكثر من غيره، وجرت عادة الناس بالنذر لمقابر الصالحين وقد تكلم على ذلك الأئمة، وظاهر كلام ابن عرفة (4) جوازه (5)، إذ قال: لا نص فيه لمن يكون، ذكره في آخر الأيمان والنذور، من
(1) أبو يعزى المغربي تخرج بصحبته جماعة من أكابر مشايخ المغرب، طبقات الشعراني 1/ 117.
(2)
في خ: الإقالة. والصواب ما أثب، انظر شرح المؤلف على الرسالة 2/ 362.
(3)
في ت 1 وت 2: باب المال، وكتبت في هامش النسخة ت 2 (العمل) بدل (المال)، وعليها علامة (خ) أي: نسخة أخرى، والعبارة في خ:(في باب أكثر من غيره).
(4)
أبو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة الورغمي، شيخ الشيوخ الفقيه المالكي صاحب المختصر المعروف (ت 803) شجرة النور الزكية ص 227.
(5)
تقدم للمؤلف في فصل 87، منع التبرك بكل ما كان له أصل في عبادة الجاهلية، كالشجرة والقبر إلخ، وكلامه في النذر هنا ينبغي أن يحمل على ما هناك إن كان المقصود من النذر لمقابر الصالحين سوق الذبائح إليها، فهو الموافق للسنة، وأقوال الأئمة والعلماء، إذ =
مختصره وقولهم: (شيء لله) إن كان في محل الإخبار، كقولهم: كان من
= المعروف عند العلماء أن الذبح عند القبر من عادات الجاهلية التي أبطلها الإسلام، فلا يجوز للمسلم أن يصحب حيوانا ويسوقه ليذبحه في مكان من الأمكنة يعظم الناس فيه شيئا، كحجر أو قبر أو شجرة تقربا إلى الله تعالى في ذلك المكان، لا بنذر ولا بغيره، إلا في مكة المكرمة في حج أو عمرة، فإن ذلك سنة، وما عدا ذلك من سوق الحيوان إلى أي مكان آخر يعظم؛ كقبر، أو ضريح ولي فلا يجوز، فقد نذر رجل على عهد رسول الله (ص) أن ينحر إبلا في بوانة (اسم مكان)، فقال له النبي (ص):((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) قالوا: لا، قال:((هل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) قالوا: لا، قال رسول الله (ص):((أوف بنذرك))، وقال (ص):((لا عقر في الإسلام))، أبو داود 3/ 216، قال في المجموع شرح المهذب 5/ 286؛ وأما الذبح والعقر عند القبر فمذموم، وكره الإمام أحمد أكل لحم ما يذبح عند القبر وانظر الإنصاف 2/ 596، والكراهة عند الأئمة المتقدمين مثل الإمام مالك، والإمام أحمد كثيرا ما تستعمل في التحريم، وقال الباجي في شرح الموطأ: (من نذر سوق جزور إلى موضع من المواضع، فإن نذر سوقه باطل، وينحره حيث شاء من المواضع التي لا يتكلف سوقها إليها لقربها
…
لأن إراقة الدماء لا تكون إلا بمكة أو منى في الحج أو في العمرة)، ومن نذر الذبح بمكان ليس فيه قبر أو شيء يعظم كالثغور أو البلد الفلاني، فإنه يلزمه الوفاء به وذبحه، وتفريقه على فقراء ذلك المكان، لقول النبي (ص) للرجل:((أوف بنذرك))، عندما علم أن المكان ليس فيه شيء يعظمه الكفار، انظر المغني لابن قدامة 9/ 19.
وإن كان النذر في كلام المؤلف لا يعني الذبج، وإنما الصدقة بالمال على صاحب القبر، فالنذر بالمال ونحوه عند من يقول به هو قربة لا تكون إلا لله، لا تكون لقبر ولا لغيره، والظاهر من قول ابن عرفة:(لا نص فيه لمن يكون)، أن المقصود به أن يقول الرجل لله:
علي أن أتصدق على ضريح فلان، وهو أقرب الوجوه لتصحيح كلامه، ولما كانت القبور ليست محلا لصرف الصدقة، قال ابن عرفة:(لا نص فيه لمن يكون)، كتبت هذا قبل أن يتيسر لي الوقوف على عبارة ابن عرفة، وبعد أن تفضل علي الخال العزيز الشيخ عز الدين الغرياني جزاه الله خيرا بنقل نص ابن عرفة من المخطوطة التونسية وجدته كما فهمت فلله الحمد والمنة، وفيما يلي نص كلام ابن عرفة:
ونذر شيء لميت صالح معظم في نفس الناذر لا أعرف نصا فيه، وأرى إن قصد مجرد كون الثواب للميت تصدق به بموضع الناذر، فإن قصد الفقراء الملازمين لقبره أو زاويته تعين لهم إن أمكن وصوله لهم، مختصر ابن عرفة مخطوط رقم 6531 المكتبة الوطنية بتونس لوحة 261. ومنه يعلم أن كلام ابن عرفة ليس في الذبح على المقابر، وإنما هو في الصدقة على صاحب القبر بطريق النذر، هل توزع في مكان المتصدق، أو تنقل إلى فقراء مكان القبر.
شأنه كذا، وبلغ من حاله كذا، أو ذكرت عنه حكاية، فقال ذاكرها:
(شيء لله)، فهو خير عن تحقق حالة ذلك الشخص في إفراد القلب، والقالب لمولاه، وإن كان في محل التوجه، فهو طلب وسؤال (1)، والله أعلم.
ومن الناس من يجعل أعماله هدية للأولياء، ويجعل وردا لجميعهم، أو للجهة التي يعتقدها، وذلك أمر مختلف فيه، ومنهم من يجعل ذلك لرسول الله (ص)، وهو من باب حسن النية والتقرب لجنابه الكريم، وليس الحق في ذلك إلا باتباع سنته، وإكرام قرابته، وكثرة الصلاة عليه (ص)، لأنه غني عن أعمالنا، وإني لأرى (2) ذلك إساءة أدب معه، لمقابلته بما لا يصلح أن يكون صاحبه مقبولا، فكيف بالاعتداد بثوابه، لا سيما ما جرت به عادة المصريين في ذلك، فإنه يعظم علي كثيرا جدا.
ومن ذلك: تصنيف بعض الناس في الصلاة عليه (ص)، بكيفيات يعتمدها، ويأتي فيها بألفاظ مستغربة، وأنواع مستنخبة، تألفها نفوس العامة، (وهو أمر حسن من حيث صورته، واضح من حيث حقيقته، تألفه نفوس العوام)(3) وتتحرك به نفوس الغافلين للصلاة عليه (ص) في الجملة، والأولى بأهل التوجه الاقتصار على الألفاظ الواردة عنه (ص)، فإن الخير كله في الاتباع، والفتح الكامل في التقيد بألفاظه (ص)، فلا تعدل بها شيئا ولو قلت، فقليلها كثير، ومعناها كبير.
ومنه التزام بعضهم قراءة المرشدة (4)، أو عقيدة ما من العقائد، وكذا
(1) المقصود من عبارة (شيء لله) عند ذكر الشخص، أنه صاحب بركة ومقامات، والاحتمال الثاني الذي ذكره المؤلف، أن المقصود بها الطلب والسؤال بحصول المقام للشخص المذكور صحيح لا شيء فيه، أما الاحتمال الأول، وهو أن المقصود بها إخبار عن تحقق حالة ذلك الشخص في إفراد القلب، ففيه محذور التزكية على الله، وهي منهي عنها، خصوصا أن العوام يسرفون في الاعتقاد في مثل هذه الألفاظ.
(2)
في ت 1: لا أرى.
(3)
لا يوجد في ت 1.
(4)
المرشدة كتاب في العقيدة لمحمد بن عبد الله بن تومرت الملقب بالمهدي ت 524. هجرية، كان زاهدا، شديدا في العبادة، مغاليا في الدعوة إلى نفسه، يصف نفسه بالإمام =
البردة والسقراطسية (1)، وما في معنى ذلك على جهة الورد، وجعله من الأمور المعتمدة، وهو أمر لا بأس به إن لم يعتقد سنيته، أو يؤدي إلى مخالفة السنة، كرفع الصوت في المسجد وقت اجتماع الناس فيه، وإلا فيجري مجرى رفع الصوت بالعلم، وحزب، الإدارة (2) وقد يستأنس بنصب الكرسي لحسان في المسجد ينافح عن رسول الهه (3)(ص)، والأولى بالمريد الاشتغال بما يخصه من العبادات المحققة، ويدع كل ذلك للعوام جملة وتفصيلا.
فأما ما اعتاده أهل الحجاز واليمين ومصر ونحوهم، من قراءة الفاتحة في كل شيء، فلا أصل له، لكن قال الغزالي رحمه الله في الانتصار ما نصه:
فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني التي أمرت بقراءتها في كل صلاة، وأكد عليك أن تعيدها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق:((ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها)) (4) وفي هذا تنبيه بل تصريح أن تكثر منها، لما تضمنته
= المعصوم، ويشبه نفسه بالنبي (ص)، فيقسم أتباعه إلى (أول من آمن به)، وإلى (العشرة)، و (أنصار)، ومهاجرين)، ومن (لم يؤمن) به كفره، انظر الأعلام 7/ 104، وهناك مرشدة أخرى لمحمد بن عمر السنوسي المتوفى 892 هجرية، للمؤلف عليها شرح، وفي الغالب أن هذه هي التي يعنيها، فقد قال فيما بعد: ولا بأس بقراءتها، ولا يظن بزروق أن يقول ذلك في مرشدة ابن تومرت مع ما نسب إليه من الظلم والغلو.
(1)
في ت 2: والشقراطسية. والشقراطسية نسبة إلى محمد بن يحيى بن على الشقراطيسى، من آثاره القصيدة الشقراطيسية في السير نسبته إلى شقراطس، حصن بقرب قفصة في الجنوب التونسي (ت 466 (معجم المؤلفين 12/ 106) وكشف الظنون 2/ 1339.
ولعل الصواب: السرقسطية: نسبة لأبي العباس ابن البنا السرقسطي، (ت 649) لذكر المؤلف منها في شرحه على الرسالة أبياتا 2/ 363.
(2)
انظر فصل 2.
(3)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله (ص)
…
)) الترمذي رقم 2846 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(4)
خرجه الترمذي 5/ 155 من حديث أبي هريرة (ض)، وقال: حديث حسن صحيح.