الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظهور أو غيرهما، أو يسترسل مع ما يعرض له دون توقف ولا عمل بمقتضى الشرع والحقيقة فيه، أو تأثر بما ينقص فيه من دنياه، أو لم يبال بما فات من ديانته، ولو في باب المندوبات، أو تحامل على إخوانه في مال أو عرض أو غيره، بعلة طيب نفوسهم، لا بما يتوقعه (1) يكون واقعا بفعله، أو ذكر ذنوبه ولم يحققها بالبرهان على نفسه، أو ذكر نعم الله عليه ولم يقدرها تفصيلا في نفسه، أو نظر إلى الخلق فيما هم فيه، أو لما يجري عليهم من إقبال أو إدبار من حيث هم، أو استهان بمروءة نفسه لغير ضرورة واضحة، أو أشفق على نفسه فيما يتعين عليها، أو دخل فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا يغنيه، أو أراد أن يكون سالما في دينه واليا في الحكم وليا في الحكمة، أو ترك الأولى في أقواله وأفعاله اقتصارا منه على قدر الواجب، أو تعزز بطريق الله وتجاهي (2) بها على من يناصيه أو يناديه، أو افتخر بكثرة الأتباع له أو لشيخه أو لطريقه، إلى غير ذلك مما هو نقص في الحال وعقوبة في المآل، أعاذنا الله من البلايا بمنه وكرمه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
…
64 - فصل
في الأسباب الموجبة لانقلاب المريد ورجوعه على عقبه
وأصولها خمسة:
أولها: حب الرئاسة والاستظهار بالخصائص، فإن أراد أن يطلع الله الناس على عمله فهو مراء، ومن أحب أن يطلع الناس على حاله، فهو كذاب، وعن قريب تزل قدمه في مهواة التلف.
قال في الحكم: استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على
(1) في خ وت 1: يتحققه، وما أثبت هو في هامش ت 2، وعليه علامة صح.
(2)
في خ: وتباهى.
عدم صدقك في عبوديتك، وقال أيضا: متى أهمك عدم إقبال الناس عليك أو توجههم بالذم إليك، فارجع إلى علم الله فيك، فإن كان لا يقنعك علمه فيك، فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد ممن مصيبتك بوجود الأذى منهم، وقال بعض المشايخ: من أشار إلى الحق وتعلق بالخلق، أحوجه الله إليهم، ونزع الرحمة من قلوبهم عليه.
وفيما كتب لنا الشيخ أبو العباس الحضرمي (ض):
عش خامل الذكر بين الناس وارض به
…
فذاك أسلم للدنيا وللدين
من عاشر الناس لم تسلم ديانته
…
ولم يزل بين تحريك وتسكين
فإذا فرض المريد دفن النفس في أرض الخمول، وإيثار الأذى من كل شيء، حتى يأتيه من الحق في ذلك ما يغلبه بأن لا يقدر على دفعه، فليقم بواجب وقته، وحينئذ يقال له: من أراد الظهور فهو عبد الظهور، ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء، وعبد الله، سواء عليه أظهره أو أخفاه، كما قاله الشيخ أبو العباس المرسي (ض).
الثاني: حسن ظنه بنفسه فيما هو به، بحيث يظهر له أنه بلغ مبلغ الرجال أو ما يقرب منها، فيرى أن اختلاف الأحوال لا يؤثر (1) فيه، فيأخذ بالسماع والاجتماع والإكثار من المباحات والاتساع في الخلطة والانبساط في المباسطة، ويؤثر العلوم الدقيقة، فيستأنس بمواجيد ذلك كله، ظنا منه أنه فتح له، حتى يقع في إساءة الأدب، فيرد من حيث لا يعلم، وقد قال أبو حفص الحداد (ض): من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه فهو مغرور، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها، وكيف يصح لعاقل الرضى عن نفسه، والكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول:{وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} (2)، انتهى، وهو عجيب في بابه.
(1) في ت 2: لا تورث.
(2)
يوسف 53.
الثالث: الغفلة عن تفقد أحواله، ومحاسبة نفسه في جميع أموره، وذلك مفتاح سوء أدبه من حيث لا يشعر، بل حتى يظن أنه على شيء، وليس عنده شيء، وقد قال أبو حفص (ض): التصوف كله أدب، (ولكل وقت أدب، ولكل حال أدب)(1)، ولكل مقام أدب، فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال، ومن ضيع الأدب، فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يظن القبول انتهى، وهو تنبيه عظيم لا يقوم به إلا مراقب لكل شيء منه في جميع الأحوال، فافهم.
الرابع: تعليق القلب بالاستفادة من الناس، بأن يشتغل بطلب الشيخ ويتعلق بمن يتوهم هذه المرتبة، فإن ذلك يقضي بوجود الاغترار بمن ظهرت عليه آثار نفسانية وشغل قلبه بالتشوف للجهات، فيتشتت مرة ويضل أخرى، وربما وقع في مهواة باغتراره، وفي فترة بطلبه، أو في وقفة بلقائه من ترضى حاله، (ولكن ليجعل همته في رضى مولاه، عالما أن رضاه في صدق التوجه إليه)(2) ولا توجه إلا ما جاء عنه من أمر ونهي في باب الواجبات والندب وغيره، حتى يفتح له بشيخ من عنده، لأنه منحة منه تعالى كما تقدم، وقد ورد في الخبر:((في كل واد من قلب ابن آدم شعبة، فمن تبع قلبه تلك الشعاب لم يبال الله في أي واد أهلكه)) (3) الحديث، اللهم إلا أن ينزل به ما يحتاج للشيخ فيه، فيتعين طلبه لذلك، والله يعينه بفضله.
الخامس: اتباع التأويل، وبساط الميل إلى الرخص، وتوق النفس، من ضيق التوجه وقلة الصبر على المجاهدة مع مبادئ التنوير، فلا يكاد يقع في شيء إلا رآه كمالا، أو يستدل له بدليل يظنه نورا وهو ظلمة، فيكون تارة من {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} (4) وتارة
(1) لا يوجد في خ.
(2)
لا يوجد في خ.
(3)
تقدم فصل 49.
(4)
الكهف 104.
ممن {زين له سوء عمله فرآه حسنا} (1) وتارة: ممن {اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} (2) وتارة: ممن {اتبع هواه بغير هدى من الله} (3) ولا يزال به الأمر حتى ينتهي إلى حد الابتداع، ثم إلى حد الزندقة والكفر، كل ذلك من انتصاره لنفسه، وظنه الحق في موضع الباطل، وهو باب من الجهل كبير.
قال في الحكم: من جهل المريد أن يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه، فيقول: لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد وأوجب الإبعاد، فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر، ولو لم يكن إلا منع المزيد، وقد تقام مقام البعد من حيث لا تدري، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد.
قال ابن خفيف (4): استدامة الكد، وترك الراحة، وليس شيء أضر على المريد من مسامحة النفس في قبول الرخص والتأويلات، وقال يوسف (5) بن الحسين (ض): إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص، فاعلم أنه لا يجيء منه شيء، وقال أبو إسحاق بن شيبان (6): من أراد أن يتعطل
(1) فاطر 8.
(2)
الجاثية 23.
(3)
القصص 50.
(4)
هو الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف بن اسفكشار الضبي، شيخ الصوفية، جمع بين العلم والعمل وعلو السند، والتمسك بالسنن، قال يوما لبعض أصحابه: اشتغلوا بتعلم شيء، ولا يغرنكم كلام الصوفية، فإني كنت أخفي محبرتي في جيب مرقعتي، والورق في حجزة سراويلي، وأذهب في الخفية إلى أهل العلم، فإذا علموا بي خاصموني، وقالوا: لا يفلح، ثم احتاجوا إلي، روي أنه كان به وجع الخاصرة، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يحمل على ظهر رجل، فقيل له: لو خففت على نفسك؟ قال: إذا سمعتم حي على الصلاة، ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبرة، ذكر ذلك كله الذهبي في سير أعلام البلاء 16/ 342 وما بعدها (ت 371) انظر طبقات الصوفية 462.
(5)
في ت 1 أبو يوسف، والصواب ما أثبت، وهو يوسف بن الحسين الرازي، كان عالما أديبا، صحب ذا النون المصري (ت 304)، انظر طبقات الصوفية 185.
(6)
هو أبو إسحاق إبراهيم بن شيبان القرميسسني، له مقامات في الورع والتقوى (ت 337 هـ) شذرات الذهب 2/ 344 وطبقات الصوفية 402.