الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة الإيثار
. قال الله تعالى في مدح أهله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
ف
الإيثار ضدّ الشُّحِّ
، فإنّ المؤثِرَ على نفسه تاركٌ لما هو محتاجٌ إليه، والشّحيح حريصٌ على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شَحَّ عليه وبَخِلَ بإخراجه. فالبخل ثمرة الشُّحِّ، والشُّحُّ يأمر بالبخل، كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إيّاكم والشُّحَّ، فإنّ الشُّحّ أهلك مَن كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخِلُوا، وأمرهم بالقطيعة فقطَعوا»
(1)
.
فالبخيل: من أجاب داعيَ الشُّحِّ، والمُؤثِر: من أجاب داعيَ الجود.
وكذلك السّخاء عمّا في أيدي النّاس هو السّخاء، وهو أفضلُ من سخاء البذل. قال عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: سخاء النّفس عمّا في أيدي النّاس أفضلُ من سخاء النّفس بالبذل
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (6487) وابن حبان (5176) والحاكم (1/ 11) والبيهقي (10/ 243) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ضمن حديث طويل. وإسناده صحيح، واقتصر ابن أبي شيبة (27139) وأبو داود (1698) على الجزء الذي أورده المؤلف.
(2)
«الرسالة القشيرية» (ص 545). وهو بلا نسبة في «أمالي القالي» (2/ 80) و «قوت القلوب» (1/ 251). ورواه ابن المرزبان في «المروءة» (115)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (32/ 463).
وهذا المنزل هو منزل الجود والسّخاء والإحسان، وسمِّي بمنزل «الإيثار» لأنّه أعلى مراتبه، فإنّ المراتب ثلاثةٌ
(1)
:
إحداها: أن لا ينقصه البذل، ولا يصعب عليه. فهو منزلة «السّخاء» .
الثّانية: أن يُعطي الأكثر، ويُبقي له شيئًا، أو يُبقي مثل ما أعطى. فهو «الجود» .
الثّالثة: أن يُؤثِر غيره بالشّيء مع حاجته إليه، فهي مرتبة «الإيثار» . وعكسها الأَثَرة، وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاجٌ إليه، وهي المرتبة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:«إنّكم ستَلْقَون بعدي أَثَرةً، فاصبروا حتّى تَلْقَوني على الحوض»
(2)
. والأنصار: هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، فوصفهم بأعلى مراتب السّخاء، وكان ذلك فيهم معروفًا.
وكان قيس بن سعد بن عُبادة من الأجواد المعروفين، حتّى إنّه مرِضَ مرّةً، فاستبطأ إخوانَه في العيادة، فسأل عنهم، فقالوا: إنّهم يَستحْيُون ممّا لك عليهم من الدَّين، فقال: أخزى الله مالًا يمنع الإخوان من الزِّيارة! ثمّ أمر مَن ينادي: من كان لقيسٍ عليه مالٌ فهو منه في حلٍّ. فما أمسى حتّى كُسِرتْ عَتبةُ بابه، لكثرة من عاده
(3)
.
(1)
كذا في النسخ بالهاء. وهذه المراتب مذكورة في «الرسالة القشيرية» (ص 536).
(2)
أخرجه البخاري (4330) ومسلم (1061) من حديث عبد الله بن زيد، وأخرجه البخاري (3792، 7057) ومسلم (1845) من حديث أسيد بن حضير، وأخرجه البخاري (3793) ومسلم (1059) من حديث أنس بن مالك.
(3)
الخبر في «الرسالة القشيرية» (ص 540)، و «المستجاد» للتنوخي (ص 135). وانظر:«الاستيعاب» (3/ 1293)، و «تاريخ بغداد» (1/ 190)، و «تاريخ دمشق» (49/ 418)، و «سير أعلام النبلاء» (3/ 107).
وقالوا له يومًا: هل رأيتَ أسخى منك؟ قال: نعم، نزلنا بالبادية على امرأةٍ، فحضر زوجها، فقالت: إنّه نزل بك ضِيفانٌ. فجاء بناقةٍ فنحرها، وقال: شأْنَكم! فلمّا كان من الغد جاء بأخرى فنحرَها، فقلنا: ما أكلنا من التي نحرتَ البارحةَ إلّا اليسير، فقال: إنِّي لا أُطعِم أضيافي البائتَ. فبقينا عنده يومين أو ثلاثةً، والسّماء تُمطِر، وهو يفعل ذلك. فلمّا أردنا الرّحيلَ وضعنا مائة دينارٍ في بيته، وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه. ومضينا، فلمّا مَتَعَ
(1)
النّهارُ إذا نحن برجلٍ يصيح خلفنا: قِفُوا أيُّها الرّكْبُ اللِّئام، أعطيتموني ثمنَ قِرَايَ؟ لحِقَنا، وقال: لتأخذُنَّه أو لأُطاعِننَّكم برمحي، فأخذناه وانصرف
(2)
.
فتأمّلْ سرَّ التّقدير، حيث قدَّر الحكيم الخبير سبحانَه استئثارَ النّاس على الأنصار بالدُّنيا ــ وهم أهل الإيثار ــ ليجازِيَهم على إيثارهم في الدُّنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنّاتِ عدنٍ على النّاس، فيظهر حينئذٍ فضيلةُ إيثارهم ودرجتُه، ويَغْبِطُهم من استأثر عليهم بالدُّنيا أعظمَ غِبْطةٍ. وذلك فضلُ الله يُؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فإذا رأيتَ النّاس يستأثرون عليك ــ مع كونك من أهل الإيثار ــ فاعلَمْ أنّه لخيرٍ يُراد بك.
(1)
أي بلغ غاية ارتفاعه، وهو ما قبل الزوال. وغيِّرت هذه الكلمة في المطبوع إلى «طلع» وهو خلاف النسخ.
(2)
«الرسالة القشيرية» (ص 539). والخبر في «قرى الضيف» لابن أبي الدنيا (17)، و «تاريخ دمشق» (49/ 419).
فصل
والجود عشر مراتبَ:
إحداها: الجود بالنّفس، وهو أعلى مراتبه، كما قال الشّاعر
(1)
:
يجودُ بالنّفس إذ ضَنَّ
(2)
الجوادُ بها
…
والجودُ بالنّفسِ أقصى غايةِ الجُود
الثّانية: الجود بالرِّئاسة، وهو ثاني مراتب الجود، فيَحمِلُ الجوادَ جودُه على امتهانِ رئاسته، والجودِ بها، والإيثارِ في قضاء حاجة الملتمس.
الثّالثة: الجود براحته ورفاهيتِه وإجمامِ نفسه، فيجود بها نَصَبًا وكَدًّا في مصلحة غيره. ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذّته لمُسامِرِه، كما قيل
(3)
:
مُتيَّمٌ بالنّدى لو قال سائلُه
…
هَبْ لي جميعَ كَرَى عينيكَ لم يَنَم
الرّابعة: الجود بالعلم وبذْله، وهو من أعلى مراتب الجود، والجودُ به أفضلُ من الجود بالمال؛ لأنّ العلم أشرف من المال.
والنّاس في الجود به على مراتب متفاوتةٍ، وقد اقتضت حكمةُ الله وتقديره النّافذ أن لا ينفعَ به بخيلًا أبدًا.
ومن الجود به: أن تبذله لمن لم
(4)
يسألك عنه، بل تَطْرحه عليه طَرْحًا
(5)
.
(1)
هو مسلم بن الوليد، والبيت من قصيدة طويلة له في «ديوانه» (ص 164).
(2)
ل، د:«ظن» ، خطأ.
(3)
البيت لأبي إسحاق الغزّي في «ديوانه» (ص 579).
(4)
«لم» ساقطة من المطبوع، فانقلب المعنى.
(5)
ل، ش:«طرحانا» . ولم أجد هذا المصدر في المعاجم، والمثبت من د.
ومن الجود به: أنّ السّائل إذا سألك عن مسألةٍ استقصيتَ له جوابَها شافيًا، لا يكون جوابك له بقدرِ ما تُدفع به الضّرورة، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا «نعم» أو «لا» ، مقتصرًا عليها.
ولقد شاهدتُ من شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك أمرًا عجيبًا: كان إذا سُئل عن مسألةٍ حكميّةٍ، ذكر في جوابها مذاهبَ الأئمّة الأربعة إذا قدَرَ عليه، ومأخذَ الخلاف، وترجيحَ القول الرّاجح، وذكر متعلّقاتِ المسألة التي ربّما تكون أنفعَ للسّائل من مسألته، فيكون فرحُه بتلك المتعلّقات
(1)
واللّوازم أعظمَ من فرحه بمسألته.
وهذه فتاواه بين النّاس، فمن أحبَّ الوقوفَ عليها رأى ذلك.
فمن جود الإنسان بالعلم: أنّه لا يقتصر على مسألة السّائل، بل يذكر له نظيرَها ومتعلَّقها ومأخذَها، بحيث يشفيه ويكفيه.
وقد سأل الصّحابة رضي الله عنهم النّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن التَّوضِّي
(2)
بماء البحر؟ فقال: «هو الطَّهور ماؤه، الحلُّ مَيتتُه»
(3)
. فأجابهم عن سؤالهم، وجاد عليهم
(1)
ل: «التعلقات» .
(2)
كذا في النسخ بالياء مصدر «توضَّيتُ» ، وهي لغة كما في «تاج العروس» (1/ 490)، وشائعة عند الفقهاء في كتبهم. واعتبرها بعضهم لحنًا، انظر:«درة الغواص» (ص 263)، و «تصحيح التصحيف» (ص 196).
(3)
أخرجه أحمد (7233)، وأبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (58)، وابن ماجه (386) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الترمذي وابن خزيمة (111) وابن حبان (4327، 5815) والحاكم (1/ 141) وغيرهم.
بما لعلَّهم في الأحيان
(1)
إليه أحوجُ ممّا سألوه عنه.
وكانوا إذا سألوه عن الحكم نبَّهَهم على علّته وحكمته، كما سألوه عن بيع الرُّطَب بالتّمر؟ فقال:«أيَنقُصُ الرُّطَب إذا جَفَّ؟» ، قالوا: نعم. قال
(2)
: «فلا إذَنْ»
(3)
. ولم يكن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم نقصان الرُّطب بجفافه، ولكن نبَّههم على علّة الحكم. وهذا كثيرٌ جدًّا في أجوبته صلى الله عليه وسلم، مثل قوله:«إن بِعتَ من أخيك ثَمَرًا فأصابتْها جائحةٌ، فلا يحلُّ لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا، بِمَ يأخذُ أحدكم مالَ أخيه بغير حقٍّ؟»
(4)
. وفي لفظٍ: «أرأيتَ إن منعَ الله الثّمرة بِمَ يأخذ أحدكم مالَ أخيه بغير حقٍّ؟»
(5)
، فصرّح بالعلّة التي يَحرُم لأجلها إلزامُه بالثّمن، وهي منعُ اللهِ الثّمرة الذي
(6)
ليس للمشتري فيه صنعٌ.
وكان خصومه
(7)
يعيبونه بذلك، ويقولون: يسأله السّائل عن طريق مصر مثلًا، فيذكر له معها طريق مكّة والمدينة وخراسان والعراق والهند، وأيُّ حاجةٍ بالسّائل إلى ذلك؟
(1)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «في بعض الأحيان» . ولا داعي للزيادة.
(2)
ل: «فقالوا: نعم، فقال» .
(3)
أخرجه أحمد (1515)، وأبو داود (3359)، والترمذي (1225)، والنسائي (4545)، وابن ماجه (2264) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وصححه الترمذي وابن حبان (1907، 5616) والحاكم (2/ 38، 39).
(4)
أخرجه مسلم (1554) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البخاري (2198)، ومسلم (1555) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(6)
ل: «التي» . والمثبت من النسخ الأخرى، و «الذي» صلة للمنع.
(7)
يعني شيخ الإسلام ابن تيمية.
ولَعَمرُ الله ليس ذلك بعيبٍ، وإنّما العيب: الجهل والكبر، وهذا موضع المثل المشهور
(1)
:
لَقَّبوه بحامضٍ وهو حُلْوٌ
…
مثلَ من لم يَصِلْ إلى العُنْقود
الخامسة: الجود بالنّفع بالجاه، كالشّفاعة والمشي مع الرّجل إلى ذي سلطانٍ ونحوه. وذلك زكاة الجاه المُطالَبُ بها العبد، كما أنّ التّعليم وبذْلَ العلم زكاته.
السّادسة: الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يصبح على كلِّ سُلَامى من أحدكم صدقةٌ كلَّ يومٍ تَطلُع فيه الشّمس، يَعدِلُ بين الاثنين: صدقةٌ، ويعين الرّجل في دابّته فيحمِله
(2)
عليها أو يرفع له عليها متاعَه: صدقةٌ، والكلمة الطّيِّبة: صدقةٌ، وبكلِّ خطوةٍ يمشيها الرّجل إلى الصّلاة: صدقةٌ، ويُمِيط الأذى عن الطّريق: صدقةٌ». متّفقٌ عليه
(3)
.
السّابعة: الجود بالعِرض، كجود أبي ضَمْضمٍ من الصّحابة
(4)
(1)
البيت لصدر الدين ابن الوكيل (ت 716) في «فوات الوفيات» (4/ 19) و «الوافي بالوفيات» (4/ 272)، ولعلاء الدين الوداعي (ت 716) في «الوافي بالوفيات» (22/ 202).
(2)
ل: «ليحمله» .
(3)
أخرجه البخاري (2989) ومسلم (1009) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
ذكره في الصحابة ابن عبد البر في «الاستيعاب» (4/ 1694) وتبعه غيره، وتعقَّبه ابن فتحون فقال: إن الرجل لم يكن من هذه الأمة، وإنما كان قبلها، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحاله تحريضًا على أن يعملوا بعمله. وذكره الحافظ ابن حجر في القسم الرابع من «الإصابة» (12/ 379)، وفصَّل الكلام عليه، وسيأتي في تخريج الحديث ما يؤيِّد أنه ليس صحابيًّا.
- رضي الله عنهم، كان إذا أصبح قال: اللهمَّ إنّه لا مالَ لي فأتصدَّقَ به على النّاس، وقد تصدّقتُ عليهم بعِرضي، فمن شَتَمني أو قَذَفني فهو في حِلٍّ. فقال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَن يستطيع منكم أن يكون كأبي ضَمْضَمٍ؟»
(1)
.
وفي هذا الجود من سلامة الصّدر، وراحة القلب، والتّخلُّص من معاداة الخلق= ما فيه.
الثّامنة: الجود بالصّبر والاحتمالِ والإغضاءِ. وهذه مرتبةٌ شريفةٌ من مراتبه، وهي أنفعُ لصاحبها من الجود بالمال، وأعزُّ له وأنصرُ، وأملكُ لنفسه، وأشرفُ لها. ولا يقدِر عليها إلّا النُّفوس الكبار.
(1)
أخرج أبو داود (4887) من طريق حماد عن ثابت عن عبد الرحمن بن عجلان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم؟» قالوا: ومَن أبو ضمضم؟ قال: «رجل فيمن كان من قبلكم
…
» الحديث، وهو مرسل. قال أبو داود: رواه هاشم بن القاسم قال عن محمد بن عبد الله العمي عن ثابت قال: حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه. قال أبو داود: وحديث حماد أصحّ. وأخرجه أبو داود (4886) نحوه من طريق محمد بن ثور عن معمر عن قتادة موقوفًا. وحديث أنس الذي أشار إليه أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 137) والبزّار (6892) وفيه أيضًا: «كان رجلًا قبلنا» . ومحمد بن عبد الله العمّي ليّن الحديث. ووهم ابن عبد البر فذكر أبا ضمضم في الصحابة وقال: روى عنه الحسن وقتادة أنه قال: «اللهم إني قد تصدَّقتُ بعرضي على عبادك» . قال: وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: إنَّ رجلًا من المسلمين قال. فذكر مثله. قال ابن عبد البر: أظنُّه أبا ضمضم المذكور. («الاستيعاب» 4/ 1694) .. وردّ عليه ابن فتحون وابن حجر في «الإصابة» (12/ 379 - 381) وبيَّنا خطأه فيما توهَّمه من أن الصحابي في حديث أبي هريرة هو أبو ضمضم، بل هو عُلبة بن زيد الأنصاري الذي رُوي عنه نحو هذه القصة. انظر:«الإصابة» (7/ 246 - 248).
فمن صعُبَ عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود، فإنّه يَجتني ثمرةَ عواقبه الحميدة في الدُّنيا قبل الآخرة. وهذا جود الفُتُوَّة، قال تعالى:{وَاَلْجُرُوحُ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهْوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]. وفي هذا الجود قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]، فذكر المقاماتِ الثّلاثةَ في هذه الآية: مقام العدل، وأذِن فيه. ومقام الفضل، وندَبَ إليه. ومقام الظُّلم، وحرّمه.
التّاسعة: الجود بالخُلُق والبِشْر والبَسْطة، وهو فوق الجود بالصّبر والاحتمالِ والعفوِ، وهو الذي بلغ بصاحبه درجةَ الصّائم القائم، وهو أثقلُ ما يوضع في الميزان. قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لا تَحْقِرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تَلقى أخاك ووجهُك منبسطٌ إليه»
(1)
. وفي هذا الجود من المنافع والمسارِّ وأنواعِ المصالح ما فيه، والعبد لا يُمكِنه أن يسعَ الناسَ بماله، ويُمكِنُه أن يَسَعَهم بخُلقه
(2)
واحتماله.
العاشرة: الجود بتَرْفيهِ
(3)
ما في أيدي النّاس عليهم، فلا يلتفت إليه، ولا يَستشرِف له بقلبه، ولا يتعرّض له بحاله ولا لسانه. وهذا هو الذي قال
(1)
أخرجه مسلم (2626) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وفيه: «ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» . وأخرجه بلفظ المؤلف: البخاري في «الأدب المفرد» (1182)، والنسائي في «الكبرى» (9611)، والطبراني في «الكبير» (6383) من حديث جابر بن سليم أو سليم بن جابر، وإسناده صحيح.
(2)
في طبعة الفقي: «والعبد لا يمكنه أن يسعهم بخلقه» . وفيه سقط أفسد المعنى.
(3)
كذا في النسخ، وغيَّره في المطبوع إلى «بتركه» . والترفيه هنا بمعنى جَعْل الناس في رفاهية بما عندهم، والإبقاء عليهم، وعدم التعرُّض لهم، كما يشرحه المؤلف.
عبد الله بن المبارك
(1)
: إنّه أفضلُ من جُود البذل.
فلسان حال القدر يقول للفقير الجواد: إن لم أُعطِك مالًا تَجود به على النّاس، فجُدْ عليهم بأموالهم؛ تُزاحِمْهم
(2)
في الجود، وتنفرِدْ عنهم بالرّاحة.
ولكلِّ مرتبةٍ من مراتب الجود مَزيَّةٌ وتأثيرٌ خاصٌّ في القلب والحال، والله سبحانه قد ضَمِنَ المزيدَ للجواد، والإتلافَ على الممسِك
(3)
. والله المستعان.
فصل
قال صاحب «المنازل» رحمه الله
(4)
: (الإيثار تخصيصٌ واختيارٌ. والأَثَرة تَحسُن طَوعًا، وتصحُّ كرهًا).
فرّق الشّيخ بين الإيثار والأثرة، وجعل الإيثار اختيارًا، والأثرة منقسمةً إلى اختياريّةٍ واضطراريّةٍ، وبالفرق بينهما يُعلَم معنى كلامه، فإنّ الإيثار هو البذلُ، وتخصيصُ مَن تُؤثِره على نفسك، وهذا لا يكون إلّا اختيارًا. وأمّا الأَثَرة فهي استئثار صاحب الشّيء به عليك، وحَوْزُه لنفسه دونك. فهذه لا يُحمَد عليها المستأثر عليه إلّا إذا كانت طوعًا، مثل أن يقدر على منازعته
(1)
تقدم عند المؤلف (ص 3).
(2)
كذا في الأصول، والمعنى مستقيم. وزيدت قبلها في المطبوع من النسخ المتأخرة:«بزهدك في أموالهم وما في أيديهم، تفضل عليهم» ولا حاجة إليها.
(3)
إشارة إلى حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (1442) ومسلم (1010) مرفوعًا بلفظ: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللّهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللّهم أعطِ ممسكًا تلَفًا» .
(4)
(ص 44).
ومجاذبته، فلا يفعل، ويَدَعُه وأثرتَه طوعًا، فهذا حسنٌ. وإن لم يقدر على ذلك كانت أثرةَ كَرْهٍ.
ويعني بالصِّحّة: الوجود، أي تُوجد كَرْهًا. ولكن إنّما تَحسُن إذا كانت طَوعًا من المستأثر عليه.
فحقيقة الإيثار بذلُ صاحبِه وإعطاؤه. والأثرة استبداده هو بالمُؤْثَر به، فيتركه وما استبدَّ به: إمّا طوعًا وإمّا كَرهًا. فكأنّك آثرتَه باستئثاره، حيث خلَّيتَ بينه وبينه ولم تُنازِعه.
قال عُبادة بن الصّامت رضي الله عنه: بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السّمع والطّاعة، في عُسرنا ويُسرنا، ومَنْشَطِنا ومَكْرهِنا، وأَثَرةٍ علينا، وأن لا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه
(1)
. فالسّمع والطّاعة في العسر واليسر والمَنْشط والمَكْره لهم معه ومع الأئمّة بعده، والأَثَرة وعدمُ منازعة الأمر مع الأئمّة بعده خاصّةً، فإنّه لم يستأثر عليهم صلى الله عليه وسلم.
فصل
قال
(2)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ، الدّرجة الأولى: أن تُؤثِرَ الخلقَ على نفسك فيما لا يَخْرِم
(3)
عليك دينًا، ولا يقطع عليك طريقًا، ولا يُفسِد عليك وقتًا).
يعني: أن تُقدِّمهم على نفسك في مصالحهم، مثل أن تُطعِمهم وتجوع،
(1)
أخرجه البخاري (7056) ومسلم (1709).
(2)
«المنازل» (ص 44).
(3)
في «المنازل» : «لا يحرم» .
وتكسوهم وتَعْرى، وتَسقيهم وتَظْمأ، بحيث لا يؤدِّي ذلك إلى ارتكاب ثلاث
(1)
لا يجوز في الدِّين، مثل
(2)
أن تُؤثِرهم بمالك وتقعد كَلًّا مضطرًّا، مستشرفًا للنّاس أو سائلًا، وكذلك إيثارهم بكلِّ ما يَخْرِم على المؤثر دينَه، فإنّه سَفَهٌ وعَجْزٌ يُذَمُّ المؤثِرُ به عند الله وعند النّاس.
وأمّا قوله: (ولا يقطع عليك طريقًا)، أي لا يقطع عليك طريق الطّلب والمسيرِ إلى الله تعالى، مثل أن تُؤثِر جليسَك على ذكرِك بتوجُّهِك وجمعيّتك على الله، فتكون قد آثرتَه على الله، وآثرتَ بنصيبك من الله مَن لا يستحقُّ الإيثار، فيكون مَثَلُك كمَثَلِ مسافرٍ سائرٍ على الطّريق لقيه رجلٌ فاستوقفه، وأخذ يُحدِّثه ويُلهِيه حتّى فاتَه الرِّفاق. وهذا حال أكثر الخلق مع الصّادق السّائر إلى الله تعالى، فإيثارهم عليه عَيْنُ الغَبْن. وما أكثرَ المؤثرين على الله تعالى غيرَه، وما أقلَّ المؤثرين الله على غيره
(3)
!
وكذلك الإيثار بما يُفْسِد على المؤثِرِ وقتَه قبيحٌ أيضًا، مثل
(4)
أن يُؤثِر بقُوتِه ويتفرَّق قلبه في طلب خلفه، أو يؤثر بأمرٍ قد جمع قلبَه وهمَّه
(5)
على الله، فيتفرَّق قلبه عليه بعد جمعيّته ويتشتَّت خاطرُه. فهذا أيضًا إيثارٌ غير محمودٍ.
(1)
كذا في النسخ وهو صواب، والمراد: خرم الدين وقطع الطريق وإفساد الوقت، الأمور الثلاثة التي ذكرها صاحب «المنازل» . وغيَّرها في المطبوع إلى «إتلاف» .
(2)
ل: «ومثل» .
(3)
ش، د:«المؤثرين على الله غيره» . وكذا كان في ل، ثم أصلحه إلى ما أثبتناه، وبه يستقيم المعنى.
(4)
«مثل» ساقطة من د.
(5)
ل: «وهمته» .
وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهمّاتهم ومصالحهم التي لا تتعيّن عليك، على الفكرِ في العلم النّافع واشتغالِ القلب بالله. ونظائر ذلك لا تخفى، بل ذلك حالُ الخلق الغالبُ عليهم.
وكلُّ سببٍ يعود
(1)
بصلاح قلبك
(2)
وحالك مع الله: فلا تُؤثِرْ به أبدًا، فإنّما تُؤثِر الشّيطانَ على الله وأنت لا تعلم.
وتأمّلْ أحوالَ أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرُّهم إيثارهم له ولا ينفعهم، وأيُّ جهالةٍ وسَفَهٍ فوق هذا؟
ومن هذا تكلّم الفقهاء في الإيثار بالقُرَب، وقالوا: إنّه مكروهٌ أو محرَّم
(3)
. كمن يُؤثِر بالصّفِّ الأوّل غيرَه ويتأخّر هو، أو يُؤثِر بقربه من الإمام يومَ الجمعة، أو يُؤثِر غيرَه بالأذان والإمامة، أو يُؤثره بعلمٍ يَحرِمُه نفسَه، ويُرفِّهُه
(4)
عليه، فيفوز به دونه.
وتكلّموا في إيثار عائشة لعمر بن الخطّاب رضي الله عنهما بمدفنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها
(5)
.
(1)
ل: «يعود عليك» . والمثبت من ش، د.
(2)
بعدها في ل: «ووقتك» . وليست في ش، د.
(3)
انظر كلام المؤلف في هذا الموضوع في «طريق الهجرتين» (2/ 649 - 653)، و «الروح» (2/ 386 - 388)، و «زاد المعاد» (3/ 632 - 633).
(4)
كذا في النسخ، والمعنى: يجعله في رفاهية فيفيده ويحرم نفسه. انظر ما سبق قريبًا (ص 11). وفي المطبوع: «ويرفعه» .
(5)
كما رواه البخاري (1392، 7328).