الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فطرةً خالصةً سائغةً للعارفين، كما يخرج اللّبن من بين فَرْثٍ ودمٍ لبنًا خالصًا سائغًا للشّاربين.
والأمر الثّالث: قوله: (ويُنْسَى به الكون)، أي ينسى الكون بما يغلب على القلب من اشتغاله بهذه الحال المذكورة. والمراد بالكون المخلوقات، أي فيشتغل بالحقِّ عن الخلق.
فصل
قال
(1)
:
(الدّرجة الثّالثة: صفاء اتِّصالٍ
. يُدرِج حظَّ العبوديّة في حقِّ الرُّبوبيّة، ويُغرِق
(2)
نهايات الخبر في بدايات العيان، ويَطوِي خسّةَ التّكاليف في عين
(3)
الأزل).
في هذا اللّفظ قلقٌ وسوء تعبيرٍ، يَجْبُره حسنُ حال صاحبه وصدقه وتعظيمه لله ورسوله، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلّا له سبحانه. ولا ريبَ أنّ بين أرباب الأحوال وأصحاب التّمكُّن تفاوت عظيم
(4)
. وانظر إلى غلبة الحال على الكليم، لمّا شاهد آثار التّجلِّي الإلهيِّ على الجبل كيف خرَّ صَعِقًا؟ وصاحب التّمكُّن ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ لمّا أُسري به ورأى ما رأى لم يصعَقْ ولم يخرَّ، بل ثبت فؤاده وبصره.
ومراد القوم بالاتِّصال والوصول: اتِّصال العبد بربِّه ووصوله إليه، لا
(1)
«المنازل» (ص 84).
(2)
في النسخ: «ويعرف» ، والمثبت من «المنازل» و «شرح التلمساني» .
(3)
في «المنازل» : «عز» .
(4)
كذا في النسخ مرفوعًا.
بمعنى اتِّصال ذات العبد بذات الرّبِّ كما تتّصل الذّاتان إحداهما بالأخرى، ولا بمعنى انضمام إحدى الذّاتين إلى الأخرى والتصاقها بها. وإنّما مرادهم بالاتِّصال والوصول: إزالة النّفس والخلق من طريق المسير إلى الله.
ولا يُتَوهَّم سوى ذلك، فإنّه عين المحال. فإنّ السّالك لا يزال سائرًا إلى الله حتّى يموت، فلا ينقطع سيره إلّا بالموت. فليس في مدة الحياة وصولٌ يفرغ معه المسير وينتهي، وليس ثَمَّ اتِّصالٌ حسِّيٌّ بين ذات العبد وذات الرّبِّ. فالأوّل تعطيلٌ وإلحادٌ، والثّاني حلولٌ واتِّحادٌ. وإنّما حقيقة الأمر: تنحية النّفس والخلق عن الطّريق، فإنّ الوقوف معهما هو الانقطاع، وتنحيتهما هو الاتِّصال.
وإنما الملاحدة القائلون بوحدة الوجود، فإنّهم قالوا: العبد من أفعال الله، وأفعالُه من صفاته، وصفاتُه من ذاته
(1)
. فأنتجَ لهم تركيبُ هذا التّركيب أنّ العبد من ذات الرّبِّ تعالى.
وموضع الغلط: أنّ العبد من مفعولات الرّبِّ تعالى، لا من أفعاله القائمة بذاته. ومفعولاته آثارُ أفعاله، وأفعاله عن صفاته القائمة بذاته، فذاتُه سبحانه مستلزمةٌ لصفاته وأفعاله، ومفعولاتُه منفصلةٌ عنه. تلك مخلوقةٌ محدَثةٌ، والرّبُّ تعالى هو الخالق بذاته وصفاته وأفعاله.
فإيّاك ثمّ إيّاك والألفاظ المجملة المشتبهة التي وقع اصطلاح القوم عليها، فإنّها أصل البلاء، وهي موردٌ للصِّدِّيق والزِّنديق. فإذا سمع الضّعيفُ المعرفةِ والعلم بما لله لفظَ اتِّصالٍ وانفصالٍ، ومسامرةٍ ومكالمةٍ، وأنّه لا
(1)
كما في «شرح التلمساني» (ص 465).
وجودَ في الحقيقة إلّا وجود الله، وأنّ وجود الكائنات خيالٌ ووهمٌ، وهو بمنزلة وجود الظِّلِّ القائم بغيره= فاسمعْ منه ما يملأ الآذانَ من حلولٍ واتِّحادٍ وشطحاتٍ.
والعارفون من القوم أطلقوا هذه الألفاظ ونحوها، وأرادوا بها معاني صحيحةً في أنفسها، فغلِطَ الغالطون في فهم ما أرادوه، فنسبوهم إلى إلحادهم وكفرهم، واتّخذوا كلماتهم المتشابهة تُرْسًا له وجُنّةً، حتّى قال قائلهم
(1)
:
ومنك بَدا حبٌّ بعزٍّ تَمازجَا
…
بنا ووصالٌ
(2)
كنتَ أنتَ وصلتَه
ظهرتَ لمن أبقيتَ بعد فنائه
…
فكان بلا كونٍ لأنّك كُنْتَه
فيسمع الغِرُّ «التّمازج» فيظنُّ أنّه
(3)
سبحانه نفس كون العبد، فلا يشكُّ أنّ هذا هو غاية التّحقيق ونهاية الطّريق.
فنرجع إلى شرح كلامه.
قوله: (يُدرِج حظَّ العبوديّة في حقِّ الرُّبوبيّة).
المعنى الصّحيح الذي يُحمل عليه هذا الكلام: أنّ من تمكَّن في قلبه شهودُ الأسماء والصِّفات، وصفا له علمه وحاله= اندرج عمله جميعُه وأضعافُه وأضعافُ أضعافِه في حقِّ ربِّه تعالى، ورآه في جنب حقِّه أقلَّ من خَردلةٍ بالنِّسبة إلى جبال الدُّنيا، فسقطَ من قلبه اقتضاءُ حظِّه من المجازاة عليه لاحتقاره له، وقلّتِه عنده، وصغرِه في عينه.
(1)
البيتان بلا نسبة في «قوت القلوب» (2/ 59)، والثاني منهما فيه (2/ 72).
(2)
في «القوت» : «بماء وصالٍ» .
(3)
ش، د:«والله» بدل «فيظن أنه» .
قال الإمام أحمد
(1)
: حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا صالحٌ، عن أبي عمران الجَوْنيِّ، عن أبي الجَلْد أنّ الله تعالى أوحى إلى داود: يا داود، أَنذِرْ عبادي الصديقين، فلا يُعْجَبُنَّ بأنفسهم، ولا يتّكلُنَّ على أعمالهم، فإنّه ليس أحدٌ من عبادي أَنصِبُه للحساب وأُقِيمُ عليه عدلي إلّا عذَّبتُه، من غير أن أظلمه. وبَشِّر الخطّائين أنّه لا يتعاظمني ذنبٌ أن أغفره وأتجاوزَ عنه.
قال أحمد
(2)
: وحدّثنا سيّارٌ، حدّثنا جعفرٌ، حدّثنا ثابتٌ البنانيُّ قال: تعبَّدَ رجلٌ سبعين سنةً، وكان يقول في دعائه: ربِّ اجْزِني بعملي. فمات فأُدخِلَ الجنّة، وكان فيها سبعين عامًا. فلمّا فرغ وقته قيل له: اخرُجْ، فقد استوفيتَ عملك. فقلَّب أمرَه: أيُّ شيءٍ كان في الدُّنيا أوثقَ في نفسه؟ فلم يجد شيئًا أوثقَ في نفسه من دعاء الله والرّغبة إليه. فأقبلَ يقول في دعائه: ربِّ سمعتُك ــ وأنا في الدُّنيا ــ وأنت تُقِيل العثرات، فأَقِلِ اليومَ عَثْرتي. فتُرِك في الجنّة.
قال أحمد
(3)
: وحدّثنا هاشمٌ، حدّثنا صالحٌ، عن أبي عِمران الجَوْنيِّ، عن أبي الجَلْد قال: قال موسى: إلهي، كيف أشكرك، وأصغرُ نعمةٍ وضعتَها عندي من نِعَمك لا يُجازِيها عملي كلُّه؟ فأوحى الله إليه: يا موسى، الآنَ شكرتَني.
فهذا المعنى الصّحيح من اندراج حظِّ العبوديّة في حقِّ الرُّبوبيّة.
(1)
في كتاب «الزهد» (376).
(2)
في المصدر السابق (499).
(3)
في المصدر السابق (349).
وله محملٌ آخر صحيحٌ أيضًا، وهو أنّ ذات العبد وصفاته وأفعاله وقواه وحركاته كلّها مفعولةٌ للرّبِّ، مملوكةٌ له، ليس يملك العبد منها شيئًا، بل هي محضُ مِلكِ الله، فهو المالك لها، المُنعِم على عبده بإعطائه إيّاها. فالمال ماله، والعبد عبده، والخدمة مستحقّةٌ عليه بحقِّ الرُّبوبيّة، وهي من فضل الله عليه. فالفضل كلُّه لله، ومن الله، وبالله.
قوله: (ويُغرِق نهاياتِ الخبر في بداياتِ العيان).
الخبر: متعلّق الغيب، والعيان: متعلّق الشّهادة. وهو إدراك عين البصيرة لصحّة الخبر وثبوت مخبره.
ومراده ببدايات العيان: أوائل الكشف الحقيقيِّ الذي يدخل منه إلى مقام الفناء، ومقصوده أن يرى المشاهد ما أخبر به الصّادق بقلبه عيانًا. قال تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]. وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19]. فقابلَ من رأى بعين قلبه أنّ ما أنزل إلى رسوله هو الحقُّ بمن هو أعمى لا يبصر ذلك. وقال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مقام الإحسان: «أن تعبدَ الله كأنّك تراه»
(1)
. ولا ريبَ أنّ تصديق الخبر واليقين به يَقوى حتّى يصيرَ للقلب بمنزلة المُشاهَد بالعين.
فصاحب هذا المقام كأنّه يرى الله سبحانه فوق سماواته على عرشه
(2)
، مطلعٌ على عباده ناظِرٌ إليهم، يسمع كلامهم، ويرى ظواهرهم وبواطنهم.
(1)
كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (50) ومسلم (9).
(2)
«فوق سماواته على عرشه» مشطوب عليها في ش بفعل فاعل.
وكأنّه يسمعه وهو يتكلّم بالوحي، ويُكلِّم به عبدَه جبريل، ويأمره وينهاه بما يريد، ويُدبِّر أمر المملكة، وأملاكه صاعدةٌ إليه بالأمر، نازلةٌ من عنده به.
وكأنّه يشاهده وهو يرضى ويغضب، ويُحبُّ ويُبغض، ويُعطي ويمنع، ويضحك ويفرح، ويُثني على أوليائه بين ملائكته، ويَذُمُّ أعداءه.
وكأنّه يشاهده ويشاهد يديه الكريمتين، وقد قَبضتْ إحداهما السّماوات السّبع، والأخرى الأرضين السّبع، وقد طوى السّماواتِ السّبعَ بيمينه
(1)
، كما يُطوى السِّجلُّ على أسطر الكتاب.
وكأنّه يشاهده وقد جاء لفصل القضاء بين عباده، وأشرقت الأرض بنوره، ونادى ــ وهو قائمٌ على عرشه ــ بصوتٍ يسمعه مَن بعُدَ كما يسمعه مَنْ قَرُبَ «وعزّتي وجَلالي، لا يُجاوِزني
(2)
اليومَ ظلمُ ظالمٍ»
(3)
.
وكأنَّ نداءه لآدم «يا آدمُ، قُمْ فابعَثْ بعْثَ النّار»
(4)
بأُذُنه الآن، وكذلك نداؤه لأهل الموقف:{مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، وماذا كنتم تعبدون؟
وبالجملة، فيشاهد بقلبه ربًّا عرَّفَتْ به الرُّسل كما عرّفت، ودينًا دَعَتْ إليه الرُّسل، وحقائق أخبرت بها الرُّسل. فقام شاهدُ ذلك بقلبه كما قام شاهدُ
(1)
د: «بيده» .
(2)
ش: «لا يجوزني» .
(3)
أخرجه الطبراني في «مسند الشاميين» (156)، وتمام في «فوائده» (928) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وإسناده ضعيف.
(4)
أخرجه البخاري (3348)، ومسلم (222) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ما أخبر به أهل التّواتر ــ وإن لم يَرَه ــ من البلاد والوقائع. فهذا إيمانه يجري مجرى العيان، وإيمان غيره فمحض التقليد.
قوله: (ويَطوِي خِسَّةَ التّكاليف).
ليت الشّيخ عبَّر عن هذه اللّفظة بغيرها، فوالله إنّها لأقبحُ من شَوكةٍ في العين وشَجًى في الحلق، وحاشا التّكاليف أن تُوصَف بخِسّةٍ، أو يَلحقَها خسّةٌ. وإنّما هي قرّةُ عينٍ، وسرورُ قلبٍ، وحياةُ روحٍ، صدرَ التّكليفُ بها عن حكيمٍ حميدٍ، فهي أشرفُ ما وصل إلى العبد من ربِّه، وثوابُه عليها أشرفُ ما أعطاه العبدَ.
نعم لو قال: يَطوِي ثِقَلَ التّكاليف ويُخفِّف أعباءَها ونحو ذلك كان أولى، ولولا مقامه من الإيمان والمعرفة والقيام بالأوامر لكنّا نُسِيء به الظّنّ.
والّذي يحتمل أن يُصرَف كلامه إليه وجهان:
أحدهما: أنّ الصّفاء - المذكور في هذه الدّرجة - لمّا انطوت في حكمه الوسائط والأسباب، واندرجَ فيه حظُّ العبوديّة في حقِّ الرُّبوبيّة= انطوت فيه رؤيةُ كون العبادة تكليفًا، فإنّ رؤيتها تكليفًا خِسّةٌ من الرّائي، لأنّه رآها بعين أنفته
(1)
وقيامه بها، ولم يرها بعين الحقيقة، فإنّه لم يصل إلى مقام «فبِيْ يَسمع، وبي يُبصِر، وبي يَبْطِش، وبي يَمْشي»
(2)
، ولو وصل إلى ذلك لرآها بعين الحقيقة. ولا خِسّةَ فيها هناك البتّةَ، فإنّ نظره قد تعدّى من قيامه بها إلى قيامها بالقيُّوم الذي قام به كلُّ شيءٍ، فكان لها وجهان:
(1)
بياض في ش مكان هذه الكلمة.
(2)
تقدم تخريج الحديث، والكلام على هذا اللفظ (1/ 408).
أحدهما: هي به خسيسةٌ. وهو وجه قيامها بالعبد وصدورها منه.
والثّاني: هي به شريفةٌ. وهو وجه كونها بالرّبِّ تعالى، أمرًا وتكوينًا وإعانةً. فالصّفاء يطويها من ذلك الوجه خاصّةً.
والمعنى الثّاني الذي يحتمله كلامه: أن يكون مراده أنّ الصّفاء يُشْهِدُه عينَ الأزل، وسَبْقَ الرّبِّ تعالى وأوّليّتَه لكلِّ شيءٍ، فينطوي في هذا المشهد أعمالُه التي عمِلَها، ويراها خسيسةً جدًّا بالنِّسبة إلى عين الأزل. فكأنّه قال: تنطوي أعمالُه، وتصير ــ بالنِّسبة إلى هذه العين ــ خسيسةً جدًّا لا تُذْكَر، بل تكون في عين الأزل هباءً منثورًا، لا حاصل له.
فإنّ الوقت الذي هو ظرف التّكليف متلاشٍ جدًّا بالنِّسبة إلى الأزل، وهو وقتٌ خسيسٌ حقيرٌ، حتّى كأنّه لا حاصلَ له، أو لا نسبةَ له إلى الأزل والأبد في مقدار الأعمال الواقعة فيه، وهي يسيرةٌ بالنِّسبة إلى مجموع ذلك الوقت، الذي هو يسيرٌ جدًّا بالنِّسبة إلى مجموع الزّمان، الذي هو يسيرٌ جدًّا بالنِّسبة إلى عينِ الأزل.
فهذا أقرب ما يُحمل عليه كلامه مع قلقه، وقد اعتراه فيه سوءُ تعبيرٍ. وكأنّه أطلق عليها الخسّة لقلّتها وخِفّتها بالنِّسبة إلى عَظمة المكلِّف بها سبحانه وما يستحقُّه. والله سبحانه أعلم.
* * * *