الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمّا قوله: (وخرق الشُّهود حجاب العلم).
فيريد به: أنّ المعارف التي تحصل لصاحب هذه الدّرجة هي من الشُّهود الخارق لحجاب العلم، فإنّ العلم حجابٌ عن الشُّهود
(1)
، ففي هذه الدّرجة يرتفع الحجاب، ويفضي إلى المعلوم
(2)
، بحيث يكافح قلبه وبصيرته مكافحةً.
فصل
قال
(3)
:
(الدّرجة الثّالثة: حقُّ اليقين
. وهو إسفار صبح الكشف، ثمّ الخلاص من كُلْفة اليقين، ثمّ الفناء في حقِّ اليقين).
الحق أنّ هذه الدّرجة لا تُنال في هذا العالم إلّا للرُّسل صلوات الله وسلامه عليهم. فإنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم رأى بعينيه الجنّة والنّار، وموسى سمع كلام الله منه إليه بلا واسطةٍ فكلَّمه تكليمًا، وتجلّى للجبل وموسى ينظر، فجعله دكًّا هشيمًا.
نعم يحصل لنا حقُّ اليقين في مرتبةٍ، وهي ذوقُ ما أخبر به الرّسول من حقائق الإيمان المتعلِّقة بالقلوب وأعمالها، فإنّ القلب إذا باشرَها وذاقها صارت في حقِّه حقَّ يقينٍ.
وأمّا في أمور
(4)
الآخرة والمعاد، ورؤية الله جهرةً عيانًا، وسماع كلامه
(1)
ش، د:«المشهود» .
(2)
ل: «العلوم» .
(3)
«المنازل» (ص 54).
(4)
ل: «أمر» .
حقيقةً بلا واسطةٍ= فحظُّ المؤمن منه في هذه الدّار الإيمانُ وعلم اليقين. وحقُّ اليقين يتأخّر إلى وقت اللِّقاء.
ولكن لمّا كان السّالك عنده ينتهي إلى الفناء، ويتحقَّق شهودَ الحقيقة، ويصل إلى عين الجمع، قال:«حقُّ اليقين هو إسفار صبح الكشف» .
يعني: تحقُّقه وثبوته، وغلبة نوره على ظلمة ليل الحجاب، فينتقل من طور العلم إلى الاستغراق في الشُّهود بالفناء عن الرّسم بالكلِّيّة.
وقوله: «ثمّ الخلاص من كُلفة اليقين» .
يعني: أنّ اليقين له حقوقٌ يجب على صاحبه أن يؤدِّيها ويقوم بها، ويتحمّل كُلَفَها ومشاقَّها. فإذا فني في التّوحيد حصلَ له أمورٌ أخرى رفيعةٌ عاليةٌ جدًّا، يصير فيها محمولًا بعدَ أن كان حاملًا، وطائرًا بعد أن كان سائرًا، فيزول عنه كلفةُ حملِ تلك الحقوق. بل يبقى له كالنّفس، وكالماء للسّمك. وهذا أمرٌ التّحاكمُ
(1)
فيه إلى الذّوق والإحساس، فلا تُسرِعْ إلى إنكاره.
وتأمّلْ حالَ ذلك الصّحابيِّ الذي أخذ تمراتِه، وقعد يأكلها على حاجةٍ وجوعٍ وفاقةٍ إليها، فلمّا عاينَ سوقَ الشّهادة قد قامت ألقى قُوتَه من يده، وقال: إنّها لحياةٌ طويلةٌ، إن بقيتُ حتّى آكلَ هذه التّمرات! وألقاها من يده، وقاتل حتّى قُتِل
(2)
. وكذلك أحوال الصّحابة رضي الله عنهم كانت مطابقةً لما أشار إليه.
(1)
ش، د:«من التحاكم» .
(2)
أخرجه مسلم (1901) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والصحابي هو عمير بن الحمام الذي استشهد في بدر، فكان أول قتيل قُتل في سبيل الله في الحرب.
لكن بقيت نكتةٌ عظيمةٌ، وهي موضع
(1)
السّجدة، وهي أنّ فناءهم لم يكن في توحيدِ الرُّبوبيّة وشهودِ الحقيقة التي يشير إليها أرباب الفناء، بل في توحيد الإلهيّة. ففَنُوا بحبِّه تعالى عن حبِّ ما سواه، وبمراده منهم عن مرادهم وحظوظهم، فلم يكونوا عاملين على فناءٍ ولا استغراقٍ في الشُّهود، بحيث يَفْنَوا
(2)
به عن مراد محبوبهم منهم، بل قد فَنُوا بمراده عن مرادهم، فهم أهل بقاءٍ، وفرقٍ في جمعٍ، وكثرةٍ في وحدةٍ، وحقيقةٍ كونيّةٍ في حقيقةٍ دينيّةٍ.
هم القومُ لا قومَ إلّا هُمُ
…
ولولاهُمُ ما اهتدينا السَّبيلا
(3)
فنسبة أحوالهم إلى أحوالِ من بعدهم الصّحيحة الكاملة: كنسبة ما يَرشَح من الظّرف والقِرْبة إلى ما في داخلها.
وأمّا المنحرفة الفاسدة فسبيلٌ غير سبيلهم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
* * * *
(1)
د: «مواضع» .
(2)
كذا في الأصول بحذف النون.
(3)
لم أجد البيت في المصادر، ولعله للمؤلف.