الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمتى كان شهود هذا المعنى قائمًا في قلبك لم يضرَّك مخالطةُ من لا يسلُبك إيّاه مخالطتُه ولا الانبساطُ إليه.
فصل
قال
(1)
: (الدّرجة الثّانية:
الانبساط مع الحقِّ
. وهو أن لا يَحبِسك
(2)
خوفٌ، ولا يَحجُبك رجاءٌ، ولا يحول بينك وبينه آدم وحوّاء).
يريد: أن لا يمنعك عن الانبساط إليه خوفٌ، فإنّ مقام الخوف لا يُجامِع مقامَ الانبساط. والخوف من أحكام اسم «القابض» ، والانبساط من أحكام اسم «الباسط» .
والبسط عندهم: من مشاهدة أوصاف الجمال والإحسان والتّودُّد والرّحمة.
والقبض من مشاهدة أوصاف
(3)
الجلال والعظمة والكبرياء والعدل والانتقام.
وبعضهم يجعل الخوف من منازل العامّة، والانبساط من منازل الخاصّة، إذ الانبساط لا يكون إلّا للعارفين أرباب التّجلِّيات، وليس في حقِّ هؤلاء
(4)
خوفٌ.
(1)
«المنازل» (ص 49).
(2)
في «المنازل» : «لا يجنبك» . والمثبت موافق لما في شرح التلمساني.
(3)
«الجمال
…
أوصاف» ساقطة من ش، د بسبب انتقال النظر.
(4)
د: «وليس لهؤلاء» .
وأمّا قوله: (ولا يحجبك رجاءٌ)؛ فلأنّ الرّاجي لطلبِه حاجتَه يحتاج إلى التّملُّق والتّذلُّل، فيحجُبه رجاؤه وطمعه فيما يناله من المعظَّم عن انبساطه معه، كالسّائل للغنيِّ، فإنّ سؤاله وطمعه يمنعه من انبساطه إليه. فإذا غاب عن ذلك انبسط.
وقوله: (ولا يحولُ بينك وبينه آدم ولا حوّاء) استعارةٌ.
والمعنى: أنّك تراه أقربَ إليك من أبيك وأمِّك، وأرحمَ بك منهما، وأشفقَ عليك. فلا تُوسِّطْ بينك وبينه أبًا خرجتَ من صلبه، ولا أمًّا ركَضْتَ في رحمها.
وفيه معنًى آخر، وهو الإشارة إلى أنّك تُشاهد خَلْقه لك بلا واسطةٍ، كما خلق آدم وحوّاء. فتشاهد خَلْقَه لك بيده، ونَفْخَه فيك من روحه، وإسجادَ ملائكته لك، ومعاداةَ إبليس حيث لم يسجد لك، وأنت في صلب أبيك آدم.
وهذا يوجب لك شهودُه من (الانبساط في الانطواء عن الانبساط، وهو رحب الهمّة لانطواء انبساط العبد في بسط الحقِّ جل جلاله
(1)
.
ومعنى هذا: أن لا يرى العبد لنفسه انبساطًا ولا انقباضًا، بل ينطوي انبساطُه ويضمحلُّ في صفة البسط التي للحقِّ جل جلاله. وهذا شهود معنى اسمه «الباسط» عز وجل.
فهذا تقرير كلامه، على أنّ فيه مقبول ومردود
(2)
، ولا معنى لتعلُّق
(1)
ما بين القوسين الدرجة الثالثة كما في «المنازل» (ص 49).
(2)
كذا في الأصول مرفوعين، والوجه النصب.
هذه الصِّفة بالرّبِّ تعالى البتّة، وأمّا تعلُّقها بالخَلق فصحيحٌ.
نعم، هاهنا مقام اشتباهٍ وفرقٍ، وهو أنّ المحبّ الصّادق لا بدَّ أن يقارِنَه أحيانًا فرحٌ بمحبوبه، ويشتدّ فرحُه به، ويرى مواقعَ لطفِه به، وبرِّه به، وإحسانِه إليه، وحُسن دفاعه عنه، والتّلطُّف في إيصال المنافع والمَسَارّ والمَبَارّ إليه بكلِّ طريقٍ، ودَفْع المضارِّ والمكاره عنه بكلِّ طريقٍ. وكلّما فتّش على ذلك اطّلع منه على أمورٍ عجيبةٍ، لا يقفُ وهمه وتفتيشُه
(1)
لها على غايةٍ، بل ما خفي عنه منها أعظم. فيداخلُه من شهود هذه الحالة نوعُ إدلالٍ وانبساطٍ، وشهود نفسه في منزلة المراد المحبوب. ولا يَسلَم من آفة ذلك إلّا خواصُّ العارفين.
وصاحب هذا المقام نهايتُه أن يكون معذورًا، وما يبدو منه من أحكامه بالشَّطحات أليقُ منه بأحكام العبوديّة.
ولم يكن لأحدٍ من البشر في منزلة القرب والكرامة والحظوة والجاه ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ربِّه، فكان أشدَّ الخلق لله خشيةً وتعظيمًا وإجلالًا، وحالُه كلُّها مع الله تشهد بتكميل العبوديّة. وأين درجة الانبساط من المخلوق من التُّراب، إلى الانبساط مع ربِّ الأرباب؟
نعم لا يُنكِر فرحةَ القلب بالرّبِّ تعالى وسرورَه به، وابتهاجَه به، وقرّةَ عينه ونعيمه بحبِّه، والشّوقَ إليه: إلّا كثيفُ الحجاب، حَجَريُّ الطِّباع. فلا بهذا المَيَعان
(2)
، ولا بذاك الجمود والقسوة.
(1)
ل: «ومقتبسه» .
(2)
لم أجد هذا المصدر في المعاجم، والفعل ماعَ، أي ذاب وسال.
وبهذا ومثلِه طرَّقَ المتأخِّرون من القوم السّبيلَ إليهم، وفتحوا للقَالةِ
(1)
فيهم بابًا، فالعبد الخائف الوجِل
(2)
المشفق الذّليل بين يدي ربه، المنكِّس الرّأسِ بين يديه، الذي لا يرضى لربِّه بشيء من عمله: هو أحوجُ شيءٍ إلى عفوه ورحمته، ولا يرى نفسَه في نعمته إلّا طُفيليًّا، ولا يرى نفسه محسنًا قطُّ، وإن صدرَ منه إحسانٌ علم أنّه ليس من نفسه، ولا بها ولا فيها، وإنّما هو محضُ منّةِ الله عليه، وصدقتِه عليه. فما لهذا والانبساط؟
نعم، انبساطُه فرحٌ وسرورٌ ورضًا وابتهاجٌ. فإن كان المراد بالانبساط هذا فلا نُنكِره، لكنّه غيرُ الاسترسالِ المذكور، والاستشهادُ عليه بالآية يُبيِّن مراده. والله أعلم.
* * * *
(1)
جمع قائل. والقالة أيضًا: اسم للقول الفاشي في الناس، خيرًا كان أو شرًّا. وفي ش:«للمقالة» .
(2)
«الوجل» ليست في ل.