الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدها: نظره إلى جلالة مُعطيه وعظمته.
الثّاني: احتقاره لنفسه وازدراؤه لها، يُوجِب استكثارَ ما يناله من سيِّده.
الثّالث: محبّته له، فإنّ المحبّة إذا تمكَّنتْ من العبد استكثر قليلَ ما يناله من محبوبه.
الرّابع: أنّ هذا قبلَ العطاء لم يكن له إلْفٌ به، ولا اتِّصالٌ بالعطيّة، فلمّا فاجأتْه استكثرَها.
وأمّا استقلالُه الكثير
(1)
من الإعياء ــ وهو التَّعب والنَّصَب ــ فلأنّه لمّا بدا له برقُ الوعود من أفق الرّجاء حملَه ذلك على الجدِّ والطّلب، وحملَ عنه مشقّة السّير. فلم يجد لذلك من مَسِّ الإعياء والنَّصَب ما يجده مَن لم يَشمَّ ذلك.
وكذلك استحلاؤه في هذا البرق مرارةَ القضاء، وهو البلاء الذي يختبر به الله عز وجل عباده، ليبلوهم أيُّهم أصبرُ وأصدقُ، وأعظمُ إيمانًا ومحبّةً وتوكُّلًا وإنابةً؟ وإذا لاح للسّالك هذا البرقُ استحلى فيه مرارةَ القضاء.
فصل
قال
(2)
: (الدّرجة
الثّانية: برقٌ يَلمعُ من جانب الوعيد في عين الحَذَر
، فيستقصر فيه العبدُ الطّويلَ من الأمل، ويُزَهَّدُ في الخَلْق على القرب، ويَرغَب في تطهير السِّرِّ).
(1)
ت: «للكثير» .
(2)
«المنازل» (ص 79).
هذا البرق أُفقُه وعينُه غيرُ أفقِ البرق الأوّل وعينِه
(1)
، فإنّ هذا يلمع من أُفق الحذر، وذلك من أُفق الرّجاء. فإذا شامَ هذا البرقَ استقصرَ فيه الطّويلَ من الأمل، وتخيّلَ في كلِّ وقتٍ أنّ المنيّةَ تُغافِصُه
(2)
وتُفاجِئه. فاشتدَّ حذرُه من هجومها، مخافةَ أن تحلَّ به عقوبة الله، ويُحالَ بينه وبين الاستعتاب والتّأهُّب للِّقاء، فيلقى ربَّه قبل الطُّهر التّامِّ، فلا يُؤذَن له بالدُّخول عليه بغير طهارةٍ، كما أنّه لم يأذن له في دار التّكليف بالدُّخول عليه للصّلاة بغير طهارةٍ.
وهذا يُذكِّر العباد بالتّطهُّر للموافاة والقدوم عليه والدُّخولِ وقت اللِّقاء، لمن عقلَ عن الله وفهِمَ أسرار العبادات. فإذا كان لا يدخل عليه حتّى يستقبل بيته بوجهه، ويستر عورته، ويطهِّر بدنه وثيابه وموضعَ مقامه بين يديه، ثمّ يُخلِص له النِّيّة، فهكذا الدُّخول عليه وقتَ اللِّقاء لا يحصل إلّا بأن يستقبل ربَّه بقلبه كلِّه، ويستر عوراتِه الباطنة بلباس التّقوى، ويطهِّر قلبه وروحه وجوارحه من أدناسها الظّاهرة والباطنة، ويتطهَّر لله طهرًا كاملًا، ويتأهَّب للدُّخول أكملَ تأهُّبٍ.
وأوقات الصّلاة نظير وقت الموافاة، فإذا تأهَّب العبد قبلَ الوقت جاءه الوقت وهو متأهِّبٌ، فدخلَ على الله. وإذا فرَّط في التّأهُّب خِيفَ عليه من خروج الوقت قبل التّأهُّب، إذ هجومُ وقتِ الموافاة مضيَّقٌ لا يقبلُ التّوسعة، فلا يُمَكَّن العبدُ من التّطهُّر والتّأهُّب عند هجوم الوقت، بل يقال له: هيهات، فات ما فات، وقد بَعُدتْ بينك وبين الطهور المسافاتُ. فمَن شام بَرْقَ الوعيد بقِصَرِ الأمل لم يزل على طهارةٍ.
(1)
«وعينه» ليست في ش.
(2)
أي تأخذه على غِرَّة.