الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصُّدور. وهذا يدلُّ على أنّ
حسن الخلق هو الدِّين كلُّه
، وهو حقائق الإيمان، وشرائع الإسلام، ولهذا قابلَه بالإثم.
وفي حديثٍ آخر: «البرُّ ما اطمأنَّتْ إليه النّفسُ، والإثم ما حاك في الصَّدر»
(1)
، وقد فسِّر حسنُ الخلق بأنّه البرُّ، فدلَّ على أنّ حسنَ الخلق طمأنينةُ النّفس والقلب. والإثم حَوَازُّ
(2)
الصُّدور، وما حاكَ فيها، واسترابتْ به. وهذا غيرُ حسنِ الخلق وسوئِه في عُرف كثيرٍ من النّاس، كما سيأتي.
وفي «الصّحيحين»
(3)
عنه: «خِيارُكم أحاسِنُكم أخلاقًا» .
وفي التِّرمذيِّ
(4)
عنه صلى الله عليه وسلم: «ما من شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة
(1)
أخرجه أحمد (18001، 18006)، والدارمي (2533)، وأبو يعلى (1586، 1587)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (2139)، والطبراني في «المعجم الكبير» (22/ 148) من حديث وابصة بن معبد الأسدي. وإسناده ضعيف من أجل الزبير أبي عبد السلام، والانقطاع بينه وبين أيوب بن عبد الله بن مكرز. انظر حواشي المحققين على «المسند» .
(2)
ش: «حزاز» . د: «حزازة» .
(3)
البخاري (3559، 6035) ومسلم (2321) من حديث عبد الله بن عمرو.
(4)
رقم (2002) من حديث أبي الدرداء. وأخرجه أيضًا أحمد (27517)، والبخاري في «الأدب المفرد» (270)، وأبو داود (4799) من طريق آخر عن أبي الدرداء، واقتصروا على الجزء الأول من الحديث.
من حسن الخلق، وإنّ الله تعالى يُبغِضُ الفاحشَ
(1)
البذيء». قال التِّرمذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وفيه أيضًا وصحّحه
(2)
: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن أكثر ما يُدخِل النّاسَ الجنَّة؟ فقال: «تقوى الله وحسنُ الخلق» . وسئل عن أكثر ما يُدخِلُ النّاسَ النّار؟ فقال: «الفم والفرج» .
وفيه أيضًا وصحّحه
(3)
: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا وخيارُكم خيارُكم لنسائهم» .
وفي «الصّحيح»
(4)
عنه صلى الله عليه وسلم: «إنّ المؤمن لَيُدْرِك بحسنِ خُلقِه درجةَ الصّائم القائم» .
وفيه
(5)
عنه صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَضِ الجنّة لمن ترك المِراءَ وإن
(1)
ل: «الفاجر» . والمثبت من ش، د موافق للترمذي.
(2)
رقم (2004) من حديث أبي هريرة. وأخرجه أيضًا ابن ماجه (4246) وابن حبان (476) والحاكم (4/ 324).
(3)
رقم (1162) من حديث أبي هريرة. وأخرجه أيضًا أحمد (7402) وأبو داود (4682) وابن حبان (479، 4176) والحاكم (1/ 3) وغيرهم. وفي الباب عن غيره من الصحابة.
(4)
لم يروه البخاري ومسلم، بل رواه أحمد (25013، 25537) وأبو داود (4798) وابن حبان (480) والحاكم (1/ 60) من طرقٍ عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن عائشة مرفوعًا. وهو حديث صحيح.
(5)
ليس في «الصحيحين» . وأخرجه أبو داود (4800) ومن طريقه البيهقي (10/ 249) من حديث أبي أمامة. وإسناده ضعيف، لكن له شواهد يرتقي بها إلى الحسن. انظر:«السلسلة الصحيحة» (273). ولذا صححه المؤلف كما سيأتي.
كان مُحِقًّا، وببيتٍ في وسط الجنّة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنّة لمن حسُن خلقُه». وإسناده صحيحٌ. فجعل البيت العُلْويّ جزاءً لأعلى المقامات الثّلاثة، وهي حسن الخلق؛ والأوسط لأوسطها، وهو ترك الكذب؛ والأدنى لأدناها، وهو ترك المماراة وإن كان معه حقٌّ. ولا ريبَ أنّ حسن الخلق مشتملٌ على هذا كلِّه.
وفي التِّرمذيّ
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكم منِّي مجلسًا يوم القيامة: أحاسِنَكم أخلاقًا. وإنّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم منِّي يومَ القيامة: الثَّرثارون والمتشدِّقون والمتفيهقون» . قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثّرثارون والمتشدِّقون، فما المتفيهقون؟ قال:«المتكبِّرون» .
الثّرثار: هو كثير الكلام بغير فائدةٍ دينيّةٍ. والمتشدِّق: المتكلِّم بمِلْء
(2)
فيه تفاصحًا وتعاظمًا وتطاولًا، وإظهارًا لفضله على غيره، وأصله من الفَهْق وهو الامتلاء.
فصل
الدِّين كلُّه خُلقٌ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدِّين. وكذلك التّصوُّف، قال الكَتَّانيُّ
(3)
: هو الخُلق، فمن زاد عليك في الخُلق فقد زاد عليك
(1)
برقم (2018) من حديث جابر، وقال: حسن غريب. وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (8822) والبخاري في «الأدب المفرد» (1308)، وفي إسناده لين. وأخرجه أحمد (17732) وابن حبان (482) من حديث مكحول عن أبي ثعلبة الخشني. ومكحول لم يسمع منه.
(2)
ل: «بما» .
(3)
هو أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتّاني المتوفى سنة 322. انظر: «حلية الأولياء» (10/ 357)، و «تاريخ بغداد» (3/ 74) وغيرهما.
في التّصوُّف
(1)
.
وقد قيل: إنّ أحسنَ الخُلُق بذلُ النّدى، وكفُّ الأذى، واحتمال الأذى
(2)
.
وقيل: حسنُ الخُلق: بذلُ الجميل، وكفُّ القبيح.
وقيل: التّخلِّي من الرّذائل، والتّحلِّي بالفضائل.
وحسنُ الخُلق يقوم على أربعة أركانٍ لا يُتصوَّر قيامُ ساقِه إلّا عليها: الصّبر، والعفّة، والشّجاعة، والعدل.
فالصّبر: يحمله على الاحتمال، وكَظْمِ
(3)
الغيظ، وكفِّ الأذى، والحِلْمِ والأناة والرِّفق، وعدمِ الطَّيش والعَجَلة.
والعفّة: تحمله على اجتناب الرّذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على الحياء، وهو رأس كلِّ خيرٍ. وتمنعه من الفُحش، والبخل
(4)
والكذب والغيبة والنّميمة.
والشّجاعة: تحمله على عزّة النّفس، وإيثارِ معالي الأخلاق والشِّيَم، وعلى البذل والنّدى الذي هو شجاعة النّفس وقوّتها على إخراج المحبوب
(1)
«الرسالة القشيرية» (ص 578). وانظر: «تاريخ بغداد» (3/ 75)، و «إحياء علوم الدين» (3/ 52)، و «سير أعلام النبلاء» (14/ 534).
(2)
انظر: «حلية الأولياء» (3/ 37)، و «إحياء علوم الدين» (3/ 53).
(3)
ل: «كضم» ، خطأ.
(4)
«من القول
…
والبخل» من ل فقط، وليست في بقية النسخ.
ومفارقتِه، وتحمله على كظْم الغيظ
(1)
والحِلم، فإنّه بقوّة نفسه وشجاعتها أمسكَ عِنانَها، وكبَحَها بلجامها عن التسرُّع والبَطْش، كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ليس الشّديدُ بالصُّرَعة، إنّما الشّديد الذي يملك نفسَه عند الغضب»
(2)
. وهذه حقيقة الشّجاعة، وهي ملكةٌ يقتدر بها على قَهْر
(3)
خصمه.
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسُّطِه فيها بين طرفَي الإفراط والتّفريط، فيحمله على خُلُق الجود والسّخاء الذي هو توسُّطٌ بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خُلق الحياء الذي هو توسُّطٌ بين الذُّلِّ والقِحَة، وعلى خُلق الشّجاعة الذي هو توسُّطٌ بين الجُبْن والتّهوُّر، وعلى خُلق الحِلم الذي هو توسُّطٌ بين الغضب والمَهانة وسقوط النّفس.
ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة
(4)
.
ومنشأ جميع الأخلاق السّافلة وبناؤها على أربعة أركانٍ: الجهل، والظُّلم، والشّهوة، والغضب.
فالجهل: يُرِيه الحَسنَ في صورة القبيح، والقبيحَ في صورة الحسن، والكمالَ نقصًا والنّقصَ كمالًا.
والظُّلم: يحمله على وضع الشّيء في غير موضعه، فيغضب في موضع
(1)
ل: «كضم الغيض» .
(2)
أخرجه البخاري (6114) ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
ش، د:«قصر» .
(4)
تكلم بعض العلماء في أصول الأخلاق الفاضلة والسافلة، انظر:«تهذيب الأخلاق» لمسكويه (ص 25 وما بعدها)، و «إحياء علوم الدين» (3/ 54).
الرِّضا، ويعجل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويُحجِم في موضع الإقدام، أو يُقدِم في موضع الإحجام، ويَلِين في موضع الشِّدّة، ويشتدُّ في موضع اللِّين، ويتواضع في موضع العزّة، ويتكبّر في موضع التّواضع.
والشّهوة: تحمله على الحرص، والشُّحِّ والبخل، وعدمِ العفّة، والنَّهْمة
(1)
والجَشَع، والذُّلِّ، والدَّناءاتِ
(2)
كلِّها.
والغضب: يحمله على الكِبر والحِقد والحسد والعدوان والسَّفَه.
ويتركّب من بين كلِّ خُلقينِ من هذه أخلاقٌ مذمومةٌ.
ومِلَاك هذه الأربعة أصلان: إفراط النّفس في الضّعف، وإفراطها في القوّة. فيتولّد من إفراطها في الضّعف: المَهانةُ والبخل، والخِسَّة واللُّؤم، والذُّلُّ والحرص، والشُّحُّ وسَفْسَاف الأمور والأخلاق.
ويتولّد من إفراطها في القوّة: الظُّلم والغضب والحدّة والفُحش والطَّيش.
ويتولّد من تزوُّج أحدِ الخُلقين بالآخر أولادُ غِيَّةٍ
(3)
كثيرون، فإنّ النّفس قد تجمع قوّةً وضعفًا، فيكون صاحبها أجبرَ
(4)
النّاس إذا قَدر، وأذلَّهم إذا قُهِر، ظالم عَسُوفٌ جَبَّار، فإذا قُهِر صار أذلَّ من امرأةٍ، جَبانٌ عن القويِّ، جريء على الضّعيف.
(1)
النهمة: الشهوة في الشيء.
(2)
د: «الدناءة» .
(3)
د: «عنه» . يقال: هو ولدُ غيَّة أي ولدُ زنية، كما يقال في نقيضه: ولدُ رِشْدَة.
(4)
ش، د:«أجبن» . والمثبت من ل يناسب السياق.
فالأخلاق الذّميمة تُولِّد بعضها بعضًا، كما أنّ الأخلاق الحميدة تُولِّد بعضها بعضًا.
وكلُّ خُلقٍ محمودٍ مكتنَفٌ بخُلُقين ذميمين، وهو وسطٌ بينهما، وطرفاه خُلقان ذميمان، كالجود: الذي يكتنفه خُلُقا البخل والتّبذير، والتّواضع: الذي يكتنفه خُلُقا الذُّلِّ والمَهانة والكِبر والعلوِّ. فإنّ النّفس متى انحرفت عن الوسط انحرفت إلى أحد الخُلقين الذّميمين ولا بدَّ، فإذا انحرفت عن خُلق «التّواضع» انحرفت: إمّا إلى كبرٍ وعلوٍّ، وإمّا إلى ذلٍّ ومَهانةٍ وحقارةٍ. وإذا انحرفت عن خُلق «الحياء» انحرفت: إمّا إلى قِحَةٍ وجرأةٍ، وإمّا إلى عَجْزٍ وخَوَرٍ ومهانةٍ، بحيث يُطمِع في نفسه عدوّه، ويفوته كثيرٌ من مصالحه، ويزعم أنّ الحامل له على ذلك الحياء. وإنّما هو المهانة والعجز وموتُ النّفس.
وكذلك إذا انحرفتْ عن خُلق «الصّبر» المحمود انحرفتْ: إمّا إلى جَزَعٍ وهَلَعٍ وجَشَعٍ وتسخُّطٍ، وإمّا إلى غِلظةِ كبدٍ وقسوةِ قلبٍ وحَجريَّةِ طبعٍ، كما قال بعضهم
(1)
:
يُبكَى علينا ولا نَبكِي على أحدٍ
…
أنحنُ أغلظُ أكبادًا أم الإبلُ
(2)
(1)
هو مهلهل، كما في «ديوان المعاني» (1/ 173)، و «شرح الحماسة» للمرزوقي (2/ 591)، و «خزانة الأدب» (2/ 512) وغيرها. والبيت منسوب في «عيون الأخبار» (2/ 192) إلى المخبل، وفي «اللامع العزيزي» (1/ 343) لقتادة بن مسلمة الحنفي، وفي «ثمار القلوب» (ص 348) و «المستقصى» (1/ 69) لبلعاء بن قيس الكناني.
(2)
البيت بهذه الرواية في «بهجة المجالس» (1/ 250). ورواية الشطر الثاني في عامة المصادر: لنحنُ أغلظُ أكبادًا من الإبلِ.
وإذا انحرفت عن خلق «الحِلْم» انحرفت: إمّا إلى الطَّيش والنَّزَق
(1)
والحدّة والخفّة، وإمّا إلى الذُّلِّ والمَهانة والحَقارة. ففرقٌ بين من حِلْمه حِلْمُ ذلٍّ ومهانةٍ وحقارةٍ وعجزٍ، وبين مَن حِلمه حلمُ اقتدارٍ وعزّةٍ وشرفٍ، كما قيل
(2)
:
كلُّ حِلْمٍ أتى بغيرِ اقتدارٍ
…
حجّةٌ لاجئٌ إليها اللِّئامُ
وإذا انحرفت عن خلق «الأَناة والرِّفق» انحرفت: إمّا إلى عَجَلةٍ وطَيْشٍ وعُنْفٍ
(3)
، وإمّا إلى تفريطٍ وإضاعةٍ، والرِّفق والأناة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق «العِزّة» التي وهبَها الله للمؤمنين، انحرفت: إمّا إلى كِبْرٍ، وإمّا إلى ذُلٍّ، والعزّة المحمودة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق «الشّجاعة» انحرفت: إمّا إلى تهوُّرٍ وإقدامٍ غيرِ محمودٍ، وإمّا إلى جُبْنٍ وتأخُّرٍ مذمومٍ.
وإذا انحرفت عن خلق «المنافسة في المراتب العالية والغِبطة» انحرفت: إمّا إلى حسدٍ، وإمّا إلى مَهانةٍ وعَجزٍ وذُلٍّ ورضًا بالدُّون.
وإذا انحرفت عن «القناعة»
(4)
انحرفت: إمّا إلى حِرصٍ وكَلَبٍ
(5)
، وإمّا إلى خِسّةٍ ومَهانةٍ وإضاعةٍ.
(1)
النَّزَق: الطيش والخفّة.
(2)
البيت للمتنبي في «ديوانه» (4/ 217) بشرح البرقوقي.
(3)
«وعنف» ليست في ش، د.
(4)
د: «خلق القناعة» .
(5)
الكَلَب: شدة الحرص.
وإذا انحرفت عن خلق «الرّحمة» انحرفت: إمّا إلى قسوةٍ، وإمّا إلى ضعف قلبٍ وجُبْن نفسٍ، كمن لا يُقدِم على ذبح شاةٍ ولا إقامةِ حدٍّ ولا تأديبِ ولدٍ، ويزعم أنّ الرّحمة تحمله على ذلك. وقد ذبحَ أرحمُ الخلق بيده في موقفٍ واحدٍ ثلاثًا وستِّين بدنةً، وقطعَ الأيديَ من الرِّجال والنِّساء، وضربَ الأعناق، وأقام الحدودَ، ورجمَ بالحجارة حتّى مات المرجوم. وكان أرحمَ خلقِ الله على الإطلاق وأرأفَهم.
وكذلك «طلاقةُ الوجه والبِشْرُ المحمود» ، فإنّه وسطٌ بين التّعبيس والتّقطيبِ وتصعيرِ الخدِّ وطَيِّ البِشْر عن البَشَر، وبين الاسترسال بذلك مع كلِّ أحدٍ، بحيث يُذهِب الهيبة ويُزِيل الوقار ويُطمِع في الجانب، كما أنّ الانحراف الأوّل يُوقِع الوحشةَ والبِغْضةَ والنُّفرةَ في قلوب الخلق. وصاحب الخلق الوسط: مَهِيبٌ محبوبٌ، عزيزٌ جانبه، حبيبٌ لقاؤه. وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم:«من رآه بديهةً هَابَه، ومن خالطَه عِشْرةً أحبَّه»
(1)
.
فصلٌ نافعٌ جدًّا
عظيمُ النّفع للسّالك، يُوصِله عن قُربٍ، ويُسيِّره بأخلاقه التي لا يمكنه إزالتها، فإنّ أصعبَ ما على الطّبيعة الإنسانيّة تغيُّر الأخلاق التي طُبِعتْ عليها. وأصحابُ الرِّياضات الصّعبة والمجاهدات الشّاقّة إنّما عملوا عليها، ولم يَظْفَر أكثرهم بتبديلها، لكنّ النّفس اشتغلتْ بتلك الرِّياضات عن ظهور
(1)
أخرجه الترمذي في «السنن» (3638) وفي «الشمائل» (7) من حديث علي بن أبي طالب، وقال: حسن غريب، ليس إسناده بمتصل. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (32465) والبيهقي في «دلائل النبوة» (1/ 269). وفي إسناده عمر بن عبد الله مولى غفرة ضعيف، ثم إنه منقطع بين إبراهيم بن محمد وعلي.
سلطانها، فإذا جاء سلطانُ تلك الأخلاق وبرزَ كسرَ جيوشَ الرِّياضة وشتَّتَها، واستولى على مملكة الطَّبع.
وهذا فصلٌ يَصِل به السّالك مع تلك الأخلاق، ولا يحتاج إلى علاجها وإزالتها، ويكون سَيره أقوى وأجلَّ
(1)
وأسرعَ من سَيْرِ العامل على إزالتها.
ونُقدِّم قبلَ هذا مثلًا نضربه، مطابقًا لما نريده، وهو: نهرٌ جارٍ في صَبَبِه ومنحدَرِه، مُنتهٍ إلى تغريقِ أرضٍ وعُمرانٍ ودُورٍ، وأصحابها يعلمون أنّه لا ينتهي حتّى يُخرِّب دورَهم، ويُتلِف أراضيَهم وأموالَهم. فانقسموا ثلاثَ فِرقٍ:
ففرقةٌ صرفتْ قواها وقوى أعمالها إلى سَكْره
(2)
وحَبْسِه وإيقافِه، فلم تصنع هذه الفرقة كبيرَ أمرٍ، فإنّه يوشك أن يجتمع ويَحمِل
(3)
على السَّكْر، فيكون إفسادُه وتخريبُه أعظمَ.
وفرقةٌ رأتْ هذه الحالَ، وعلمتْ أنّه لا يُغني عنها شيئًا، فقالت: لا خلاصَ من محذوره إلّا بقطعه من أصلِ المنبوع
(4)
، فرامتْ قطْعه من أصله، فتعذَّر عليها ذلك غايةَ التّعذُّر، وأَبتِ الطّبيعة النَّهريّة ذلك أشدَّ الإباء، فهم دائمًا في قطع المنبوع، وكلّما سدُّوه من موضعٍ نَبعَ من موضعٍ، فاشتغل هؤلاء
(1)
ل: «وأعجل» .
(2)
أي سَدّه.
(3)
ل: «ثم يحمل» .
(4)
كذا في الأصول، واستعمله المؤلف في «النونية» (3/ 920). والمقصود به: المنبع، وهو مخرج الماء.
بشأن هذا النّهر عن الزِّراعات والعمارة وغِراس
(1)
الأشجار.
فجاءت فرقةٌ ثالثةٌ خالفتْ رأي الفرقتين
(2)
، وعلموا أنّهم قد ضاعتْ عليهم كثيرٌ من مصالحهم، فأخذوا في صرف ذلك النّهر عن مجراه المنتهي إلى خراب العمران، وصرفوه إلى موضعٍ ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضرَّرون، فصَرَفوه إلى أرضٍ قابلةٍ للنّبات، وسَقَوها به، فأنبتتْ لهم أنواعَ العُشْب والكَلَأ والثِّمارِ المختلفة الأصناف، فكانت هذه الفرقة هم
(3)
أصوب الفرق في شأن هذا النّهر.
فإذا تبيّن هذا المثل، فالله سبحانه قد اقتضت حكمته: أن ركَّب الإنسان ــ بل سائر الحيوان ــ على طبيعةٍ محمولةٍ على قوّتين: غضبيّةٍ، وشهوانيّةٍ وهي الإراديّة. وهاتان القوّتان هما الحاملتان لأخلاق النّفس وصفاتها، وهما مركوزتان في جبلّة كلِّ حيوانٍ. فبقوّة الشّهوة والإرادة: يَجذِب المنافعَ إلى نفسه، وبقوّةِ الغضب: يدفع المضارَّ عنها. فإذا استعمل الشّهوة في طلب ما يحتاج إليه تولَّدَ منها الحرص، وإذا استعمل الغضب في دفع المضرّة عن نفسه تولَّدَ منه القوّة والعزَّة. فإذا أعجزَه ذلك المضادُّ
(4)
أورثه قوّة الحقد، وإن أعجزه وصولُ ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبدًّا به أورثه الحسد. وإن ظَفِرَ به أورثتْه شهوتُه وإرادته خُلقَ البخل والشُّحِّ، وإن
(5)
اشتدّ حرصه
(1)
ل: «وغرس» .
(2)
ل: «الفريقين» .
(3)
ل: «هي» .
(4)
ل: «الصاد» .
(5)
«إن» ليست في ش، د.
وشهوته على الشّيء ولم
(1)
يُمكِنه تحصيلُه إلّا بالقوّة الغضبيّة، فاستعملَها فيه= أورثه ذلك العدوانَ والبغيَ والظُّلم، ومنه يتولَّدُ الكِبر والفخر والخُيَلاء، فإنّها أخلاقٌ متولّدةٌ من بين قوّتي الشّهوة والغضب، وتزوُّجِ أحدهما بصاحبه.
فإذا تبيّن هذا فالنّهر مثال هاتين القوّتين، وهو مُنْصَبٌّ في حَدُورِ
(2)
الطّبيعة ومجراها إلى دور القلب وعمرانه وحواصله، يُذْهِبُها ويُتلِفها ولا بدّ. فالنُّفوس الجاهلة الظّالمة تركتْه ومَجراه، فخرَّبَ ديار الإيمان، وقلعَ آثارَه، وَهدَم عُمرانَه، وأنبتَ موضعَها كلَّ شجرةٍ خبيثةٍ، من حَنْظلٍ وضَريعٍ وشَوْكٍ وزَقُّومٍ، وهو الذي يأكله أهل النّار يومَ المعاد.
وأمّا النُّفوس الزّكيّة الفاضلة: فإنّها رأتْ ما يؤولُ إليه أمرُ هذا النّهر، فافترقوا ثلاثَ فِرقٍ:
فأصحاب الرِّياضات والمجاهدات والخَلَوات والتمزُّقات
(3)
راموا قطْعه من ينبوعه
(4)
، فأبتْ ذلك حكمة الله تعالى وما طبع عليه الجبلّة البشريّة، ولم تَنْقَد له الطّبيعة، فاشتدّ القتال، ودام الحرب، وحَمِي الوطيس، وصارت الحرب دُوَلًا وسِجالًا. وهؤلاء صرفوا قواهم إلى مجاهدة النّفس على إزالة تلك الصِّفات.
(1)
الواو ليست في ش، ل.
(2)
الحدور: الموضع المنحدر.
(3)
أي تمزُّقات القلب، ويمكن أن يكون المراد منها تمزيق الثياب عند السماع كما هو معروف عند الصوفية.
(4)
ل: «منبوعه» .
وفرقةٌ أعرضوا عنها، وشَغَلوا نفوسَهم بالأعمال، ولم يجيبوا داعيَ تلك الصِّفات، مع تخليتهم إيّاها على مجراها، لكن لم يُمكِّنوا نهرَها من إفساد عُمرانهم، بل اشتغلوا بتحصين العُمران، وإحكامِ بنائه وأساسه، ورأوا أنّ ذلك النّهر لا بدَّ أن يصل إليه، فإذا وصل إلى بناءٍ محكمٍ لم يَهدِمْه، بل يأخذ عنه يمينًا وشمالًا. فهؤلاء صرفوا قوّة عزيمتهم وإرادتهم في العمارة وإحكامِ البناء، وأولئك صرفوها في قطع المادّة الفاسدة من أصلها، خوفًا على هدم البناء.
وسألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة، وقطعِ الآفات والاشتغالِ بتنقية الطّريق وتنظيفها؟
فقال لي في
(1)
جملة كلامه: النّفس مثل الباطوس ــ وهو جُبُّ القَذَر ــ كلّما نَبشْتَه ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تَسْقُفَ عليه وتَعْبُره وتَجُوزَه فافعل، ولا تشتغلْ بنبشِه، فإنّك لن تصل إلى قراره، وكلّما نبشتَ شيئًا ظهر غيره.
فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشُّيوخ، فقال لي: مثال آفات النّفس مثال الحيّات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبلَ على تفتيش الطّريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع، ولم يُمكِنه السّفرُ قطُّ. ولكن لِتكنْ
(2)
همّتك المسير، والإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها، فإذا عرضَ لك
(3)
فيها ما يَعُوقُك عن السير فاقتلْه، ثمّ امضِ على سيرك.
(1)
د: «يومًا في» .
(2)
ل: «تكن» .
(3)
د: «ذلك» .
فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدًّا، وأثنى على قائله.
إذا تبيّن هذا، فهذه الفرقة الثّالثة رأتْ أنّ هذه الصِّفات ما خُلِقت سدًى ولا عبثًا، وأنّها بمنزلة ماءٍ يُسقى به الورد
(1)
والشَّوك والثِّمار والحطب، وأنّها صِوَانٌ
(2)
وأصدافٌ لجواهرَ منطويةٍ
(3)
عليها، وأنّ ما
(4)
خاف منه أولئك هو نفس سبب الفلاح والظَّفَر، فرأوا أنّ الكِبْر نهرٌ يُسقى به العلوُّ والفخر والبَطَر والظُّلم والعدوان، ويُسقى به علوُّ الهمّة والأنفة والحميّة، والمراغمةُ لأعداء الله، وقهرُهم والعلوُّ عليهم. وهذه درّةٌ في صَدَفتِه، فصرفوا
(5)
مجراه إلى هذا الغِراس، واستخرجوا هذه الدُّرّة من صَدفته، وأبقَوه على حاله في نفوسهم، لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع.
وقد رأى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا دُجانة يتبختر بين الصّفّين، فقال:«إنّها لَمِشيةٌ يُبغِضها الله إلّا في مثلِ هذا الموضع»
(6)
. فانظر كيف خَلّى مجرى هذه الصِّفة وهذا الخلقِ يجري في أحسن مواضعه.
(1)
ل: «العدد» .
(2)
الصوان (بضم الصاد وكسرها): ما يصان به وفيه الأشياء.
(3)
ل: «منظومة» ، تحريف.
(4)
«ما» سقطت من ل.
(5)
«فصرفوا» ليست في ش، د.
(6)
أخرجه الطبراني (6508) من حديث خالد بن سليمان بن عبد الله بن خالد بن سماك بن خرشة عن أبيه عن جده. وفي إسناده ضعف، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 109): فيه من لم أعرفه. وله طرق أخرى يتقوى بها، وأصل القصة في «صحيح مسلم» (2470) وغيره بدون هذه الزيادة.
وفي الحديث الآخر ــ وأظنُّه في «المسند»
(1)
ــ: «إنّ من الخُيلاءِ ما يُحِبُّها الله، ومنها ما يُبغِضها، فالخيلاء التي يحبُّها الله: اختيال الرّجل في الحرب، وعند الصّدقة» . فانظر كيف صارت الصِّفة المذمومة عبوديّةً؟ وكيف استحال القاطعُ مُوصِلًا؟
فصاحبُ الرِّياضات والعاملُ
(2)
على قطعِ أصول هذه الصفات مجتهدٌ على قطع مادة الخُيلاء والكِبر، وهذا قد أقرَّها في موضعها وأعدَّها لأقرانها، وهو مصرِّفٌ لها في مصرفٍ يُعينه
(3)
على مطلبه يُوصِله إليه.
وكذلك خُلق الحسد فإنه لا يُذَمّ، وهو كالصَّدفَة لدُرَّة الغِبطة والمنافسة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
(4)
الصحيح
(5)
: «لا حسدَ إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا فسلَّطه على هَلكَته في الحق، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف
(6)
النهار». فالحسد يُوصِل إلى المنافسة التي يحبُّها الله ويأمر بها في قوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، فلا
(1)
رقم (23747، 23750، 23753) من حديث جابر بن عتيك. وأخرجه أيضًا أبو داود (2659) والنسائي (2558) وغيرهما. وفي إسناده ابن جابر، وهو مجهول. وله شاهد من حديث عقبة بن عامر الجهني في «المسند» (17398)، وفي إسناده ضعف، لكن بمجموع الحديثين ينجبر الضعف ويتحسن الحديث.
(2)
بعدها سقط كبير في طبعة الفقي قرابة أربع صفحات.
(3)
ل: «بعينه» .
(4)
«الحديث» ليست في د.
(5)
أخرجه البخاري (5025، 5026، 7529) ومسلم (815) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(6)
«أطراف» ليست في ش، د.
تَعملْ على إعدام هذا الخُلقِ من نفسك، بل اصرِفْه إلى الحسد المحمود، الحامل على المنافسة في الرتب العالية وتزاحُم أهلها بالركَب. نعم، لا تَتمنَّ زوالَ نعمة الله عن عبد فتزولَ عنك ويُبقِيها عليه.
وكذلك خُلق الحِرص، فإنه من أنفع الأخلاق وأَوصلِها إلى كل خير، وشدةُ الطلب بحسب قوة الحرص، فلا تعملْ على قطعها، ولكن علِّقْها بما ينفع النفسَ في معادها ويُكمِلها ويزكّيها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«احرِصْ على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تَعجِزْ»
(1)
. فقوة الحرص لا تُذَمُّ، وإنما يُذَمُّ صرفُها إلى ما يضرُّ الحرص عليه، أو لا ينفع وغيرُه
(2)
أنفعُ للعبد منه.
وكذلك قوة الشهوة من أنفع القوى للعبد، وأَوصلِها إلى كماله وسعادته، فإنها تُثمِر المحبة. وبحسب شهوة العبد للكمال يكون طلبه له، وبحسب قوة شهوته للذة العيش ووصال الأحبَّة وقرة العين يكون طلبه لذلك في الجنة إن كان مؤمنًا بها موقنًا مصدقًا. فصِدْقُ الشهوة وقوتُها تَحمله على بيع مُشتهًى دنيٍّ خسيسٍ بمشتهًى أعلى منه وأجلَّ وأرفعَ.
وكذلك قوة الشُّحِّ والبخل محمودة جدًّا نافعةٌ للعبد، فإنها تحمله على بخله وشُحِّه بزمانه ووقته وأنفاسه أن يُضيِّعها ويَسمَح بها لمن لا يُساوي، ويَشِحُّ أيضًا غايةَ الشحِّ على حظّه ونصيبه من الله أن يبيعَه أو يهبَه لأحدٍ من الخلق، ويشحُّ أيضًا بماله ويبخل به كلَّ البخل أن لا يكون في ميزانه، وأن يتركه لغيره يتنعَّم به، ويفوتَه هو أجره وثوابه. فالشحيح بماله المحبُّ له هو
الذي لا يَسمح به لغيره، بل يأخذه بين يديه زادًا لمعاده. ومَن لا يحبُّه ولا له قدرٌ عنده يرى أن يُضيعَه ويَدَعَه للوارث أو الجائحةِ والتَّلفِ، ولا يستصحبه أمامَه. فهذا هو الزاهد في المال، والأول هو الراغب فيه المحبُّ له. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيءٌ من ماله قدَّمَه بين يديه
(1)
.
وهذه قاعدة مطّردة في جميع الصفات والأخلاق، فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم جاؤوا بصرفها عن مجاريها المذمومة إلى مجارٍ
(2)
محمودة، وجاؤوا بصرف قوة الشهوة إلى النكاح والتسرِّيْ، حتى كان لسليمان عليه السلام مائة امرأة، ولداود عليه السلام تسع وتسعون، وجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين تسع، وأباح للأمة أربعًا مما طاب لهم من النساء ومن السراري بلا حصرٍ، صرفًا لقوة
(3)
هذه الشهوة عن مجرى الحرام إلى مجرى الحلال الذي يحبُّه الله، وهو أحبُّ إليه من نفْلِ العبادة عند أكثر الفقهاء.
وكذلك جاؤوا بصرف القوة الغضبية إلى جهاد أعداء الله والغِلظة عليهم والانتقام منهم.
وكذلك جاؤوا بصرف قوة اللهو والركوب ونحوه إلى اللهو بالرمي
(4)
والمسابقةِ على الخيل وركوبِها في سبيل الله، واللهو في العُرس.
وكذلك شهوة استماع الأصوات المطربة اللذيذة لا تُذمُّ بل تُحمد. وقد
(1)
انظر: «طبقات ابن سعد» (4/ 166)، و «حلية الأولياء» (1/ 295).
(2)
ل: «مجاري» .
(3)
ل: «بلا خصوص فالقوة» ، تحريف.
(4)
ل: «والرمي» .
وقف النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه واستمع قراءته، وقال:«لقد اُوتي هذا مِزمارًا من مزامير آل داود»
(1)
. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره إذا حضر عنده مع الصحابة أن يُسمِعهم قراءتَه، فيقرأ وهم يسمعون
(2)
، هذا كان سماع القوم، فمَن حرَّم هذا السماع أو مَن كرهه؟ وهل هذا إلّا سماع خواصّ الأولياء؟ فأين هذا من سماع المكاء والتصدية، وقرآنِ الشيطان، وآلاتِ المعازف بنغمات الشاهد؟ فلابد للروح من سَماع طيِّب تتغذَّى به، ولكن لا يستوي مَن غذاؤه العسلُ والحلوى والطيبات، ومَن غذاؤه الرجيعُ والميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ به لغير الله. ويا عجبًا إن كان أهل هذا الغذاء لا يرون آثاره على شِفاههم ووجوههم! أفلا يستحيون من معاينة أرباب البصائر ذلك عليهم؟
والمقصود أن رسوم الطبيعة وقواها لا يمكن تعطيلُها في دار الابتلاء والامتحان، فالبصير العارف يستعملها في مواضعها النافعة له، التي لا تُحرِّم عليه دينًا، ولا تَقطع عليه طريقًا، ولا تُفسِد عليه حالَه مع الله، ولا تُسْقِطه من عينه.
وهذا الفصل من أنفع فصول الكتاب لمن هو معتن
(3)
بهذا الشأن، وعاملٌ على صلاح قلبه وتزكية نفسه. وإنما دخل الداخل حيث ظنَّ أن تزكية
(1)
أخرجه البخاري (5048) ومسلم (793) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الدارمي (2/ 472) وابن سعد في «الطبقات» (4/ 109) وابن حبان (7196) من طرق عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن به. وهو مرسل، أبو سلمة لم يسمع من عمر.
(3)
ل: «معتني» .