الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأجابوا عنه بأنّ الميِّت ينقطع عملُه بموته وتقرُّبه. فلا يُتصوّر في حقِّه الإيثار بالقرب بعد الموت، إذ لا تقرُّبَ في حقِّ الميِّت. وإنّما هذا إيثارٌ بمسكنٍ شريفٍ فاضلٍ لمن هو أولى به منه، فالإيثار به قربةٌ إلى الله للمؤثر.
فصل
قال
(1)
: (ولا يُستطاع إلّا بثلاثة أشياء: بتعظيم الحقوق، ومَقْتِ الشُّحِّ، والرّغبةِ في مكارم الأخلاق).
ذَكر
ما يُعِين على الإيثار
ويبعث عليه، وهو ثلاثة أشياء:
تعظيم الحقوق، فإنّ من عظُمت الحقوق عنده قام بواجبها، ورعاها حقَّ رعايتها، واستعظمَ إضاعتَها، وعلمَ أنّه إن لم يبلغ درجةَ الإيثار لم يُؤدِّها كما ينبغي، فيجعل إيثاره احتياطًا لأدائها.
الثّاني: مَقْتُ الشُّحِّ، فإنّه إذا مَقتَه وأبغضَه التزم الإيثار، فإنّه يرى أنّه لا خلاصَ له من هذا المَقِيت البغيض إلّا بالإيثار.
الثّالث: الرّغبة في مكارم الأخلاق، وبحسبِ رغبته فيها يكون إيثاره، لأنّ الإيثار أفضلُ درجاتِ مكارم الأخلاق.
فصل
قال
(2)
: (الدّرجة الثّانية: إيثار رضا الله على رضا غيره، وإن عظُمتْ فيه المِحَن، وثَقُلَتْ فيه المُؤَن، وضعُفَ عنه الطَّوْلُ والبدن).
إيثار رضا الله عز وجل على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاتُه،
ولو أغضب الخلق. وهذه هي درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبيِّنا محمد
(1)
صلى الله عليه وسلم، فإنّه قاومَ العالمَ كلّه، وتجرَّد للدّعوة إلى الله، واحتملَ عداوةَ القريب والبعيد في الله تعالى، وآثرَ رضا الله على الخلقِ من كلِّ وجهٍ، ولم يأخذْه في إيثار رضاه لومةُ لائمٍ. بل كان همُّه وعزمُه وسعْيُه كلُّه مقصورًا على إيثار مرضاة الله، وتبليغِ رسالاته، وإعلاءِ كلماته، وجهادِ أعدائه، حتّى ظهر دينُ الله على كلِّ دينٍ، وقامت حُجَّتُه على العالمين، وتمَّتْ نعمتُه على المؤمنين. فبلَّغ الرِّسالة، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأمّة، وجاهد في الله حقَّ الجهاد، وعبَدَ الله حتّى أتاه اليقينُ، فلم ينَلْ أحدٌ من درجة هذا الإيثار ما نالَه صلوات الله وسلامه عليه.
وأمّا قوله: (وإن عظُمتْ فيه المِحَن، وثَقُلَتْ فيه المُؤَن)، فإنّ المحنة تعظُم فيه أولًا ليتأخَّر من ليس من أهله، فإذا احتملَها وتقدَّم انقلبتْ تلك المِحَنُ مِنَحًا، وصارت تلك المُؤَنُ عونًا. وهذا معروفٌ بالتّجربة الخاصّة والعامّة، فإنّه ما آثرَ عبدٌ
(2)
مرضاةَ الله على مرضاة الخلق، وتحمّلَ ثِقَلَ ذلك ومُؤْنَتَه، وصبرَ على محنتِه= إلّا أنشأَ الله من تلك المحنة والمُؤْنةِ نعمةً ومسرّةً ومعونةً بقدر ما تحمَّلَه من مرضاته. فانقلبتْ مخاوِفُه أمانًا، ومظانُّ عَطَبِه نجاةً، وتعبه راحةً، ومُؤْنته معونةً، وبليّته نعمةً، ومحنته مِنْحةً، وسَخَطه رضًا. فيا خيبةَ المتخلِّفين، ويا ذِلّةَ المتهيِّبين!
هذا، وقد جرت سنّة الله ــ التي لا تبديلَ لها ــ أنّ من آثرَ مرضاةَ الخلق
(1)
«محمد» من ل فقط.
(2)
ل: «عبده» .
على مرضاته: أن يَسخَطَ عليه مَن آثرَ رضاه، ويَخْذُلَه مِن جهته، ويجعلَ محنتَه على يديه، فيعودَ حامدُه ذامًّا. ومن آثرَ مرضاتَه ساخطًا، فلا على مقصوده منهم حصلَ، ولا إلى ثوابِ مرضاةِ
(1)
ربِّه وصلَ. وهذا أعجزُ الخلق وأحمقُهم.
هذا مع أنّ رضا الخلق لا مقدورٌ ولا مأمورٌ، فهو مستحيلٌ، بل لا بدَّ من سَخَطِهم عليك، فلَأَنْ يَسخَطُوا عليك وتفوزَ برضا الله عنك أحبُّ إليك وأنفعُ لك من أن يَسخطوا عليك والله عنك غيرُ راضٍ. فإذا كان سَخَطُهم لا بدَّ منه على التّقديرين، فآثِرْ سَخَطَهم الذي تَنال به رضا الله، فإن هم رَضُوا عنك بعد هذا، وإلّا فأهونُ شيءٍ رضا من لا ينفعك رضاه
(2)
، ولا يضرُّك سخطُه في دينك ولا في إيمانك ولا في آخرتك، وإن ضَرَّك في أمرٍ يسيرٍ في الدُّنيا فمضرّةُ سَخَطِ الله أعظمُ وأعظمُ.
وخاصَّةُ العقلِ: احتمالُ أدنى المفسدتينِ لدفع أعلاهما، وتفويتُ أدنى المصلحتينِ لتحصيل أعلاهما. فوازِنْ بعقلك، ثمّ انظُرْ أيُّ الأمرينِ خيرٌ فآثِرْه، وأيُّهما شرٌّ فابعدْ عنه. فهذا برهانٌ قطعيٌّ ضروريٌّ في إيثار رضا الله على رضا الخلق.
هذا مع أنّه إذا آثرَ رضا الله كفاه الله مُؤْنةَ غضبِ الخلق، وإذا آثرَ رضاهم
(3)
لم يَكْفُوه مُؤنةَ غضبِ الله عليه.
(1)
د: «ثوابه ومرضاة» .
(2)
«رضاه» من ل فقط.
(3)
ل: «رضا الخلق» .
قال بعض السّلف
(1)
: لمصانعةُ وجهٍ واحدٍ أيسرُ عليك من مصانعة وجوهٍ كثيرةٍ، إنّك إذا صانعتَ ذلك الوجهَ الواحدَ كفاك الوجوهَ كلَّها.
وقال الشّافعيُّ رضي الله عنه
(2)
: رِضا النّاس غايةٌ لا تُدْرَك، فعليك بما فيه صلاحُ نفسك فالزَمْه.
ومعلومٌ أنّه لا صلاحَ للنّفس إلّا بإيثار رضا بارِئها ومولاها على غيره. ولقد أحسن أبو فراسٍ رحمه الله في قوله، إلّا أنّه أساء كلَّ الإساءة إذ يقوله لمخلوقٍ لا يملك له ولا لنفسِه ضَرًّا ولا نفعًا:
فليتك تَحْلُو والحياةُ مَرِيرةٌ
…
وليتك تَرضى والأنامُ غِضابُ
وليتَ الذي بيني وبينك عامرٌ
…
وبيني وبين العالمين خَرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هيِّنٌ
…
وكلُّ الذي فوقَ التُّراب ترابُ
(3)
(1)
هو أبو حازم سلمة بن دينار، انظر:«حلية الأولياء» (3/ 239)، و «سير السلف» لقوام السنة (ص 802)، و «صفة الصفوة» (1/ 286)، و «تاريخ الإسلام» (3/ 665)، و «سير أعلام النبلاء» (6/ 100)، و «تذكرة الحفاظ» (1/ 133).
(2)
انظر: «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 278، 279)، و «حلية الأولياء» (9/ 122)، و «صفة الصفوة» (1/ 436)، و «معجم الأدباء» (6/ 2405)، و «وفيات الأعيان» (7/ 252)، و «سير أعلام النبلاء» (10/ 89) وغيرها. ورُوي القسم الأول منه في كلام أكثم بن صيفي، كما في «مجمع الأمثال» (1/ 301) و «المستقصى» (2/ 100)، وروي أيضًا عن سفيان الثوري كما في «الزهد الكبير» للبيهقي (168) و «حلية الأولياء» (6/ 386).
(3)
أورد المؤلف الأبيات الثلاثة في «الرسالة التبوكية» (ص 91، 92) بلا نسبة. والأولان من قصيدة طويلة لأبي فراس الحمداني في «ديوانه» (1/ 24). والبيت الثالث ضمن قصيدة للمتنبي (ص 687 بشرح الواحدي).