الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أبي عثمان المغربيِّ ورجلٌ يستقي لنا من البئر على بَكرةٍ، فقال: يا أبا عبد الرّحمن، أتدري أيشٍ تقول هذه البكرةُ؟ فقلت: لا، فقال: تقول: الله الله.
ومثل ذلك كثيرٌ. كما سمع أبو سليمان
(1)
الدِّمشقيُّ من المنادي: يا سَعْتَر برِّي: اسْعَ تَرَى بِرِّي
(2)
.
وهذا السّماع الرّوحانيُّ تبعٌ لحقيقة القلب ومادّته منه، فلاتحادِه به يظنُّ السّامع: أنّه أدرك ذلك المعنى لا محالةَ من الصّوت الخارجيِّ، وسبب ذلك اتِّحاد السّمع بالقلب.
و
أكملُ السّماع:
سماع من يسمع بالله ما هو مسموعٌ من الله، وهو كلامه. وهو سماع المحبِّين المحبوبين، كما في الحديث الذي في «صحيح البخاريِّ»
(3)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يَروي عن ربِّه تبارك وتعالى أنّه قال: «ما تقرَّبَ إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ
(4)
عليه. ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمْعَه الذي يسمع به، وبصَرَه الذي
(1)
كذا في الأصول. وفي «اللمع» و «الرسالة القشيرية» و «لسان الميزان» (9/ 53): «أبو حُلمان» ، وفي «تاريخ دمشق» (66/ 154):«أبو حلخان» . وفي «الاستقامة» (1/ 390): «ابن حلوان» .
(2)
الخبر في «اللمع» (ص 289)، و «الرسالة القشيرية» (ص 692)، و «إحياء علوم الدين» (2/ 282)، و «تاريخ دمشق» (66/ 154). وسعتر (أو صعتر أو زعتر): نبات طيب الرائحة، يجفّف وتُخلط معه بعض التوابل والسمسم، ويؤكل مع الزيت، وزهره أبيض يميل إلى الغبرة.
(3)
رقم (6502) وقد تقدَّم.
(4)
ش: «فرضت» .
يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورِجْلَه التي يمشي بها. فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش
(1)
، وبي يمشي».
والقلب يتأثّر بالسّماع بحسب ما فيه من المحبّة، فإذا امتلأ من محبّة الله وسمع كلام محبوبه به ــ أي بمصاحبته وحضوره في قلبه ــ فله من سماعه هذا شأنٌ، ولغيره شأنٌ آخر.
فصل
والثّاني
(2)
على ثلاثة أقسامٍ:
أحدهم: من اتّصف قلبه بصفات نفسه، بحيث صار قلبه نفسًا محضةً، فغلبتْ عليه آفاتُ الشّهوات ودَواعي الهوى. فهذا حظُّه من السّماع كحظِّ البهائم لا تَسمع إلّا دعاءً ونداءً، والفرق الذي بينها وبينه غير طائلٍ.
القسم الثّاني: من اتّصفت
(3)
نفسُه بصفات قلبه، فصارت نفسه قلبًا محضًا
(4)
، فغلبت
(5)
عليه المعرفة والمحبّة والعقل واللُّبُّ، وعشِقَ صفاتِ الكمالِ، فاستنارت نفسُه بنور القلب، واطمأنّت إلى ربِّها، وقرّتْ عينُها بعبوديّته، وصار نعيمها في حبِّه وقربه. فهذا حظُّه من السّماع مثل أو قريبٌ من حظِّ الملائكة، وسماعه غذاء قلبه وروحه، وقرّة عينه ونعيمه من الدُّنيا،
(1)
«وبي يبطش» ليست في ل.
(2)
يقصد به الغير الذي أشار إليه.
(3)
ش، د:«اتصف» .
(4)
ل: «محظا» ، خطأ.
(5)
ل: «فقلبت» .
ورياضه التي سَرَحَ فيها، وحياته التي بها قِوامُه. وإلى هذا المعنى قصد أرباب سماع القصائد والأبيات، ولكن أخطؤوا الطّريقَ، وأخذوا عن الدَّرْب شمالًا ووراءً.
القسم الثّالث: من له منزلةٌ بين المنزلتين، وقلبه باقٍ على فطرته الأولى، ولكن ما تصرّف في نفسه تصرُّفًا أحالها إليه، وأزالَ به رسومها، وجَلَّى عنه ظلمتها، ولا قَوِيت النّفسُ على القلب بإحالته إليها، وتصرّفت فيه تصرُّفًا أزالت عنه نورَه وصحّته وفطرته.
فبين القلب والنّفس مُنازَلاتٌ ووقائع، والحرب بينهما دُولٌ وسِجالٌ، تُدال النّفس عليه تارةً، ويُدال عليها تارةً.
فهذا حظُّه من السّماع حظٌّ بين الحظَّين، ونصيبه منه بين النّصيبين، فإن صادفه وقت دولة القلب كان حظُّه منه قويًّا، وإن صادفه وقت دولة النّفس كان ضعيفًا. ومن هاهنا يقع التّفاوت بين الناس في الفقه عن الله، والفهمِ عنه، والابتهاجِ والنّعيم بسماع كلامه.
وصاحب هذه الحال ــ في حال سماعه ــ يشتغل القلب بالحرب بينه وبين النّفس، فيفوتُه من روح المسموع ونعيمه ولذّته بحسب اشتغاله عنه بالمحاربة، ولا سبيلَ له إلى حصول ذلك بتمامه حتّى تضَعَ الحرب أوزارها. وربّما صادفه في حال السّماع واردُ حقٍّ، أو الظَّفرُ بمعنًى بديعٍ لا يقدر فكره على صيده كلَّ وقتٍ، فغابَ به واستغرق فيه عمّا يأتي بعده، فيَعْجِز عن صيد تلك المعاني، ويُدْهِشه ازدحامُها، فيبقى قلبه باهتًا. كما يُحكى أنّ بعض العرب أرسل صائدًا له على صيدٍ، فخرج الصّيدُ عليه من أمامه وخلفه وعن يمينه وعن يساره، فوقفَ باهتًا ينظر يمينًا وشمالًا، ولم يصطد شيئًا. فقال:
تفرَّقت
(1)
الظِّباءُ على خِراشٍ
…
فما يدري خِراشٌ ما يصيدُ
فوظيفته في مثل هذا الحال: أن يَفنى عن واردِه، ويُعلِّق قلبَه بالمتكلِّم وكأنّه يسمع كلامه منه، ويجعل قلبه نهرًا لجريان
(2)
معانيه، ويُفرغه من سوى فهم المراد، ويَنصبّ إليه انصبابًا، يتلقّى فيه معانِيَه كتلقِّي المحبِّ للأحباب القادمين عليه، لا يَشْغَلُه حبيبٌ منهم عن حبيبٍ، بل يُعطي كلَّ قادمٍ حقَّه. وكتلقِّي الضُّيوف والزُّوّار. وهذا إنّما يكون مع سعة القلب، وقوّة الاستعداد، وكمال الحضور.
فإذا سمع خطاب التّرغيب والتّشويق واللُّطف والإحسان: لا يفنى به عمّا يجيء بعده من خطاب التّخويف والتّرهيب والعدل، بل يتلقَّى الخطاب الثّاني مستصحبًا لحكم الخطاب الأوّل، ويَمزِج هذا بهذا، ويسيرُ
(3)
بهما جميعًا، عاكفًا بقلبه على المتكلِّم وصفاته.
وهذا سيرٌ في الله، وهو نوعٌ آخر أرفع وأعلى من مجرّد المسير إليه، ولا ينقطع بذلك سيره إليه، بل يُدَرِّج سيرَه
(4)
، فإنّ سير القلب في معاني أسمائه وصفاته وتوحيده ومعرفته.
(1)
كذا في النسخ. وفي هامش ش، د:«تكاثرت» . والبيت بالروايتين في المصادر. وفي بعضها «خداش» بدل «خراش» . والبيت لعبد الله بن معاوية في «تاريخ الطبري» (7/ 303)، و «الأغاني» (12/ 229). وبلا نسبة في «تاريخ الطبري» (8/ 92)، و «التمثيل والمحاضرة» (ص 361)، و «المثل السائر» (1/ 117).
(2)
ش، د:«لجريات» .
(3)
ل: «ويشير» .
(4)
أي يجعله في درجات.
ومتى بقيت للقلب في ذلك ملكةٌ، واشتدّ تعلُّقه به= لم تَحْجُبه معاني المسموع وصفات المتكلِّم بعضها عن بعضٍ، ولكن في الابتداء يعسُر عليه ذلك، وفي التّوسُّط يَهُون عليه، ولا انتهاءَ هاهنا البتّة. والله المستعان.
فهذه كلماتٌ تشير إلى معاني سماع أهل المعرفة والإيمان والأحوال المستقيمة.
وأمّا السّماع الشّيطانيُّ: فبالضِّدِّ من ذلك، وهو مشتملٌ على أكثر من مائة مفسدةٍ ولولا الإطالة لسُقْناها مفصّلةً. وسنفرد لها مصنّفًا مستقلًّا
(1)
إن شاء الله.
فهذا ما يتعلّق بقوله: (إنّ من الأنس بالشّواهد: التّغذِّي بالسّماع).
وقوله: (والوقوف على الإشارات).
الإشارات هي المعاني التي تشير إلى الحقيقة من بُعدٍ، ومن
(2)
وراء حجابٍ. وهي تارةً تكون من مسموعٍ، وتارةً تكون من مرئيٍّ
(3)
، وتارةً تكون من معقولٍ
(4)
، وقد تكون من الحواسِّ كلِّها.
فالإشارات: من جنس الأدلّة والأعلام. وسببها: صفاءٌ يحصل بالجمعيّة. فيلطف به الحسُّ والذِّهن. فيستيقظ لإدراك أمورٍ لطيفةٍ لا يكشف حسُّ غيره وفهمه عن إدراكها.
(1)
للمؤلف «الكلام على مسألة السماع» ، وبحث مطول في «إغاثة اللهفان» (1/ 400 - 473).
(2)
«ومن» ليست في ش، د.
(3)
ل: «معقول» .
(4)
ل: «مرئي» .
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة ــ قدّس الله روحه
(1)
ــ يقول: الصّحيح منها ما يدلُّ عليه اللّفظ بإشارته من باب قياس الأولى.
قلت: مثاله قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].
قال: والصّحيح
(2)
في الآية أنّ المراد به: الصُّحف التي بأيدي الملائكة، لوجوهٍ عديدةٍ.
منها: أنّه وصفه بأنّه مكنونٌ، والمكنون: المستور عن العيون
(3)
. وهذا إنّما هو في الصُّحف التي بأيدي الملائكة.
ومنها: أنّه قال: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وهم الملائكة، ولو أراد المتوضِّئين لقال:«لا يمسُّه إلّا المتطهِّرون» . كما قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ} [البقرة: 222]. فالملائكة مطهَّرون، والمؤمنون متطهِّرون.
ومنها: أنّ هذا إخبارٌ. ولو كان نهيًا لقال: لا يمسَسْه بالجزم، والأصل في الخبر أن يكون خبرًا صورةً ومعنًى.
ومنها: أنّ هذا
(4)
ردٌّ على من قال: إنّ الشّيطان جاء بهذا القرآن. فأخبر تعالى أنّه في كتابٍ مكنونٍ لا تنالُه الشّياطين، ولا وصولَ لها إليه، كما قال في
(1)
د: «سرّه» .
(2)
غيَّرها في ل، فجعلها «فإن» بدل «قال و» . والصواب ما في ش، د، وضمير «قال» لشيخ الإسلام، وانظر كلامه في «شرح العمدة» (1/ 418 - 420). وذكر المؤلف عشرة وجوه في «التبيان في أيمان القرآن» (ص 331 - 338).
(3)
ل: «العيوب» ، تصحيف.
(4)
«إخبار
…
أن هذا» ساقطة من ش، د بسبب انتقال النظر.
آية الشُّعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210 - 211]، وإنّما تناله الأرواح المطهّرة، وهم الملائكة.
ومنها: أنّ هذه نظير الآية التي في سورة عبس: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 12 - 16].
قال مالكٌ رضي الله عنه في «موطّئه»
(1)
: أحسنُ ما سمعتُ في تفسير قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنّها مثل هذه الآية التي في سورة عبس.
ومنها: أنّ الآية مكِّيّةٌ في سورةٍ مكِّيّةٍ، تتضمّن تقرير التّوحيد والنُّبوّة والمعاد وإثبات الصّانع والرّدّ على الكفّار. وهذا المعنى أليقُ بالمقصود من فرعٍ عمليٍّ، وهو حكم مسِّ المحدِث المصحفَ.
ومنها: أنّه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي النّاس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير
(2)
فائدةٍ، إذ من المعلوم أنّ كلّ كلامٍ فهو قابلٌ لأن يكون في كتابٍ حقًّا أو باطلًا، بخلاف ما إذا وقع القسم على أنّه في كتابٍ مصونٍ، مستورٍ عن العيون عند الله، لا يصل إليه شيطانٌ ولا ينال منه، ولا يمسُّه إلّا الأرواح الطّاهرة الزّكيّة. فهذا المعنى أليقُ وأجلُّ وأخلَقُ بالآية وأولى بلا شكٍّ.
فسمعتُ شيخ الإسلام يقول: لكن تدلُّ الآية بإشارتها على أنّه لا يمسُّ المصحفَ إلّا طاهرٌ، لأنّه إذا كانت تلك الصُّحف لا يمسُّها إلّا المطهَّرون،
(1)
(1/ 199).
(2)
ش، د:«كبير» .
لكرامتها
(1)
على الله، فهذه الصُّحف ينبغي أن لا يمسَّها إلّا طاهرٌ
(2)
.
وسمعته يقول في قول النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلُ الملائكة بيتًا فيه كلبٌ ولا صورةٌ»
(3)
: إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصُّورة عن دخول البيت، فكيف تلِجُ معرفةُ الله ومحبّته وحلاوةُ ذكره والأنسُ بقربه، في بيتٍ ممتلئٍ بكلاب الشّهوات وصورها؟
(4)
فهذا من إشارة اللّفظ الصّحيحة.
ومن هذا: أنّ طهارة الثّوب الظّاهر
(5)
والبدن إذا كانت شرطًا في صحّة الصّلاة والاعتداد بها، فإذا أخلَّ بها كانت فاسدةً، فكيف إذا كان القلب نجسًا ولم يُطهِّره صاحبه؟ فكيف يُعتَدُّ له بصلاته وإن أسقطت القضاء؟ وهل طهارة الظّاهر إلّا تكميلٌ لطهارة الباطن؟
ومن هذا: أنّ استقبال القبلة في الصّلاة شرطٌ لصحّتها، وهي بيت الرّبِّ، فتوجُّه المصلِّي إليها ببدنه وقالَبه شرطٌ، فكيف تصحُّ صلاة من لم يتوجّه بقلبه إلى ربِّ القبلة والبدن؟ بل وجَّه بدنَه إلى البيت، ووجَّه قلبَه إلى غير ربِّ البيت.
وأمثال ذلك من الإشارات الصّحيحة التي لا تُنال إلّا بصفاء الباطن، وصحّةِ البصيرة، وحسن التّأمُّل.
(1)
ش، د:«ولكرامتها» .
(2)
ذكره المؤلف عن شيخه في «التبيان» (ص 338). وانظر: «مجموع الفتاوى» (13/ 242).
(3)
أخرجه البخاري (3225، 3322) ومسلم (2106) من حديث أبي طلحة رضي الله عنه.
(4)
انظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 552، 13/ 242).
(5)
ل: «الطاهر» .