المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ كل حقيقة لا تتبعها شريعة فهي كفر - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ منزلة الإيثار

- ‌الإيثار ضدّ الشُّحِّ

- ‌ ما يُعِين على الإيثار

- ‌ المُؤثِر لرضا الله متصدٍّ لمعاداة الخلق

- ‌ منزلة الخُلُق

- ‌ للمُطَاع مع النّاس ثلاثةَ أحوالٍ:

- ‌«البرُّ حسنُ الخلق

- ‌ حسن الخلق هو الدِّين كلُّه

- ‌ تزكية النُّفوس مسلَّمٌ إلى الرُّسل

- ‌تزكية النُّفوس أصعبُ من علاج الأبدان

- ‌ هل يمكن أن يكون(4)الخُلق كسبيًّا

- ‌ التّصوُّف هو الخلق

- ‌ مشهد القَدَر

- ‌ مشهد الصّبر

- ‌ مشهد الرِّضا

- ‌ مشهد الإحسان

- ‌ مشهد السّلامة وبِرِّ القلب

- ‌ مشهد الأمن

- ‌ مشهد الجهاد

- ‌ مشهد النِّعمة

- ‌ مشهد الأسوة

- ‌ مشهد التوحيد

- ‌ الثّانية: استعظام كلِّ ما يصدر منه سبحانه إليك، والاعتراف بأنّه يوجب الشُّكر عليك

- ‌مدار حسن الخلق مع الخلق ومع الحق:

- ‌ المتكبِّر غير راضٍ بعبوديّة سيِّده

- ‌علامة الكرم والتّواضع:

- ‌ منزلة الفُتوّة

- ‌ ترك الخصومة

- ‌التّغافل عن الزَّلّة

- ‌ الإحسانَ إلى من أساء إليك

- ‌ الاعتذار إلى من يجني عليك

- ‌ منزلة المروءة

- ‌حقيقة المروءة:

- ‌ حدِّ المروءة:

- ‌ الانبساط مع الخلق

- ‌ قيام العلم:

- ‌ دوام شهود المعنى:

- ‌ الانبساط مع الحقِّ

- ‌ منزلة العَزْم

- ‌ معرفة علّة العزم

- ‌مدار علل العزائم على ثلاثة أشياء:

- ‌ منزلة الإرادة

- ‌ من صفات المريدين

- ‌ منزلة الأدب

- ‌الأدب ثلاثة أنواعٍ:

- ‌ النّاس في الأدب على ثلاث طبقاتٍ:

- ‌الأدب هو الدِّين كلُّه

- ‌من الأدب معه: أن لا يُجعَل دعاؤه كدعاء غيره

- ‌لكلِّ حالٍ أدبٌ:

- ‌أدبُ المرء: عنوانُ سعادته وفلاحه

- ‌ الفناء عن التّأدُّب بتأديب الحقِّ

- ‌ منزلة اليقين

- ‌اليقين روح أعمال القلوب

- ‌اليقين قرين التّوكُّل

- ‌ الدّرجة الأولى: علم اليقين

- ‌(الدّرجة الثّانية: عين اليقين

- ‌(الدّرجة الثّالثة: حقُّ اليقين

- ‌ منزلة الأنس بالله

- ‌الأنسُ ثمرة الطّاعة والمحبّة

- ‌أكملُ السّماع:

- ‌ الأنسُ بنور الكشف

- ‌ منزلة الذِّكر

- ‌الذِّكر عبوديّة القلب واللِّسان

- ‌ الذِّكر ثلاثة أنواعٍ

- ‌ الذِّكر الخفيُّ

- ‌ الذِّكر الحقيقيُّ

- ‌ منزلة الفقر

- ‌حقيقة الفقر

- ‌ أوّلُ قَدَمِ الفقر الخروجَ عن النّفس

- ‌ حقيقة الفقر:

- ‌ فقر الصُّوفيّة)

- ‌ منزلة الغنى العالي

- ‌ غنى القلب

- ‌ غنى النّفس

- ‌ الغنى بالحقِّ

- ‌ منزلة المراد

- ‌ منزلة الإحسان

- ‌ الإحسان في الوقت

- ‌ منزلة العلم

- ‌ طرق العلم وأبوابه

- ‌ الاستغناء عن الوحي بالعلم اللّدنِّيِّ إلحادٌ وكفرٌ

- ‌ منزلة الحكمة

- ‌الحكمة في كتاب الله نوعان:

- ‌ الحكمة المقرونة بالكتاب

- ‌الحكمة حكمتان: علميّةٌ وعمليّةٌ

- ‌أكمل الخلق في هذا

- ‌ منزلة الفراسة

- ‌للفراسة سببان:

- ‌ منزلة التّعظيم

- ‌هذه المنزلة تابعةٌ للمعرفة

- ‌روحُ العبادة هو الإجلال والمحبّة

- ‌دينُ الله بين الجافي عنه والغالي فيه

- ‌ تعظيم الحقِّ سبحانه

- ‌ منزلة الإلهام

- ‌ منزلة السّكينة

- ‌ سكينة بني إسرائيل

- ‌كرامات الأولياء

- ‌(الدّرجة الأولى: سكينة الخشوع

- ‌(الدّرجة الثّانية: السّكينة عند المعاملة

- ‌محاسبة النفس

- ‌ ملاطفة الخلق

- ‌ مراقبة الحقِّ

- ‌السّكينة لا تنزِل إلّا على قلب نبيٍّ أو وليٍّ)

- ‌ منزلة الطُّمأنينة

- ‌الطُّمأنينة مُوجَبُ(3)السّكينة

- ‌ طمأنينة القلب بذكر الله

- ‌ طمأنينة الرُّوح

- ‌ طمأنينة شهود الحضرة

- ‌ طمأنينة الجمع إلى البقاء

- ‌ طمأنينة المقام إلى نور الأزل

- ‌ منزلة الهمّة

- ‌ منزلة المحبّة

- ‌ الدّرجة الأولى: محبّةٌ تقطع الوساوسَ

- ‌(الدّرجة الثّانية: محبّةٌ تبعثُ على إيثار الحقِّ على غيره

- ‌(الدّرجة الثّالثة: محبّةٌ خاطفةٌ

- ‌ منزلة الغيرة

- ‌غيرة العبد لربِّه

- ‌ غيرة الرّبِّ على عبده:

- ‌ الأولى: غيرةُ العابد

- ‌ الثّانية: غيرة المريد

- ‌ الثّالثة: غيرة العارف

- ‌ منزلة «الشّوق»

- ‌الشّوق أثرٌ من آثار المحبّة

- ‌فصلُ النِّزاع في هذه المسألة:

- ‌ لا مشاهدةَ أكملُ من مشاهدة أهل الجنّة

- ‌ الأولى: قلقٌ يُضَيِّق الخُلقَ

- ‌ الثّانية: قلقٌ يُغالِبُ العقل

- ‌ الثّالثة: قلقٌ لا يرحم أبدًا

- ‌ الأولى: عطشُ المريدِ

- ‌ الثّانية: عطشُ السّالك

- ‌ الثّالثة: عطش المحبِّ

- ‌ لا يصحُّ لأحدٍ في الدُّنيا مقامُ المشاهدة أبدًا

- ‌ منزلة «الوجد»

- ‌الرّبط على القلب

- ‌ الأولى: وجدٌ عارضٌ

- ‌ الثّانية: وجدٌ تستفيق له الرُّوح

- ‌ الثّالثة: وجدٌ يَخطَفُ العبدَ من يد الكونين

- ‌ الأولى: دهشةُ المريد

- ‌ الثّانية: دهشةُ السّالك

- ‌ الثّالثة: دهشةُ المحبِّ

- ‌أكثر آفات النّاس من الألفاظ

- ‌ليس ذلك من مقامات السَّير، ولا منازل الطّريق

- ‌منزلة الهيمان

- ‌ الأولى: برقٌ يلمع من جانب العِدَة في عين الرّجاء

- ‌ الثّانية: برقٌ يَلمعُ من جانب الوعيد في عين الحَذَر

- ‌ الثّالثة: برقٌ يلمع من جانب اللُّطف في عين الافتقار

- ‌ منزلة الذّوق

- ‌الذّوق والوجد أمرٌ باطنٌ، والعمل دليلٌ عليه

- ‌ منزلة اللّحظ

- ‌ الدّرجة الأولى: ملاحظة الفضل سبقًا

- ‌ الفرح من أسباب المكر ما لم يقارِنْه خوفٌ:

- ‌(الدّرجة الثّانية: ملاحظة نور الكشف

- ‌(الدّرجة الثّالثة: ملاحظةُ عين الجمع

- ‌ كلّ حقيقةٍ لا تتبعها شريعةٌ فهي كفرٌ

- ‌ أحوال الرُّسل مع أممهم

- ‌الطّالب الجادُّ لا بدّ أن تَعرِض له فترةٌ

- ‌ الوقت سَيفٌ، فإن قطعتَه وإلّا قطَعَك

- ‌ الصُّوفيّة أربعة أقسامٍ: أصحاب السّوابق، وأصحاب العواقب، وأصحاب الوقت، وأصحاب الحقِّ

- ‌صاحب التّمكين يتصرَّفُ علمُه في حاله

- ‌ منزلة الصّفاء

- ‌ الدّرجة الأولى: صفاء علمٍ يُهذِّب

- ‌(الدرجة الثانية: صفاء حالٍ

- ‌ ذوق حلاوة المناجاة

- ‌(الدّرجة الثّالثة: صفاء اتِّصالٍ

الفصل: ‌ كل حقيقة لا تتبعها شريعة فهي كفر

الأعمال الباطنة، ويُرِيح الجسدَ والجوارح من كَدِّ العمل.

وهؤلاء أعظم كفرًا وإلحادًا، حيث عَطَّلوا العبوديّة، وظنُّوا أنّهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة، التي هي من أمانيِّ النّفس وخُدَع الشّيطان. وكأنّ قائلهم إنّما عنى نفسَه وذوي مذهبه بقوله

(1)

:

رَضُوا بالأمانِيْ وابتُلُوا بحظوظِهم

وخَاضُوا بحارَ الحبِّ دعوى فما ابْتَلُّوا

فهم في السُّرى لم يَبْرَحوا من مكانهم

وما ظَعَنوا في السَّيْر عنه فقد

(2)

كَلُّوا

وقد صرَّحَ أهل الاستقامة وأئمّة الطّريق بكفر هؤلاء وأخرجوهم من الإسلام، وقالوا: لو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقامٍ يناله العبد لما سقط عنه من التّكليف مثقالُ ذرّةٍ، أي ما دام قادرًا عليه.

وهؤلاء يظنُّون أنّهم يستغنون بهذه الحقيقة عن ظاهر الشّريعة.

واجتمعت علماء الطّائفة على أنّ هذا كفرٌ وإلحادٌ، وصرّحوا بأنّ‌

‌ كلّ حقيقةٍ لا تتبعها شريعةٌ فهي كفرٌ

.

وقال سريٌّ: من ادّعى باطنَ حقيقةٍ ينقضُها ظاهرُ حكمٍ فهو غالطٌ

(3)

.

وقال سيِّد الطّائفة الجنيد بن محمّدٍ: علمنا هذا متشبِّكٌ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(1)

البيتان لابن الفارض في «ديوانه» (2/ 160).

(2)

ر، ت وفي (ص 570):«وقد» .

(3)

رواه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 121). وأورده ابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (ص 151)، والمؤلف في «إغاثة اللهفان» (1/ 216).

(4)

رواه الخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 251). وأورده الذهبي في «تاريخ الإسلام» (6/ 924)، وتقدم عند المؤلف (ص 127) بنحوه.

ص: 530

وقال إبراهيم بن محمّدٍ النَّصراباذيُّ: أصلُ هذا المذهب: ملازمة الكتاب والسُّنّة، وترك الأهواء والبدع، والتّمسُّك بالأئمّة، والاقتداء بالسّلف، وتركُ ما أحدثه الآخرون، والمُقامُ على ما سلكه الأوّلون

(1)

.

وسئل إسماعيل بن نُجيدٍ: ما الذي لا بدَّ للعبد منه؟ فقال: ملازمة العبوديّة على السُّنّة، ودوام المراقبة

(2)

.

وسئل: ما التّصوُّف؟ فقال: الصّبر تحت الأمر والنّهي

(3)

.

وقال أحمد بن أبي الحَواريِّ: من عمِلَ بلا اتِّباع سنّةٍ فباطلٌ عملُه

(4)

.

وقال الشِّبليُّ يومًا ــ ومدّ يده إلى ثوبه ــ: لولا أنّه عاريةٌ لمزّقته. فقيل له: رؤيتك في تلك الغلبة ثيابك، وأنّها عاريةٌ؟ فقال: نعم أرباب الحقائق محفوظٌ عليهم في كلِّ الأوقات الشّريعة

(5)

.

وقال أبو يزيد البِسطاميُّ: لو نظرتم إلى رجلٍ أُعطي من الكرامات حتّى

(1)

رواه السلمي في «طبقات الصوفية» (ص 488). وذكره التيمي في «سير السلف» (ص 1348)، والقشيري في «الرسالة القشيرية» (ص 226)، والذهبي في «تاريخ الإسلام» (8/ 263) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 265).

(2)

رواه السلمي في «طبقات الصوفية» (ص 455)، ومن طريقه البيهقي في «الزهد الكبير» (749).

(3)

رواه السلمي (ص 454)، والقشيري (ص 217)، والتيمي في «سير السلف» (ص 1346).

(4)

رواه السلمي (ص 101)، والقشيري (ص 143).

(5)

لم أجد هذا الخبر فيما رجعت إليه من مصادر.

ص: 531

يرتفع في الهواء فلا تَغترُّوا به، حتّى تنظروا: كيف تجدونه عند الأمر والنّهي وحفظِ الحدود والشّريعة

(1)

.

وقال أبو عبد الله الخيّاط: النّاس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مع

(2)

ما يقع في قلوبهم. فجاء النّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فردّهم من القلب إلى الدِّين والشّريعة

(3)

.

ولمّا حضرتْ أبا عثمان الحِيريّ الوفاةُ مزَّق ابنُه أبو بكرٍ قميصَه، ففتح أبو عثمان عينيه، وقال: يا بُنيَّ، خلاف السُّنّة في الظّاهر من رياء باطنٍ في القلب

(4)

.

ومن كلام أبي عثمان هذا: أسلم الطُّرق من الاغترار: طريق السّلف ولزوم الشّريعة.

وقال عبد الله بن مبارك

(5)

: لا يظهر على أحدٍ شيءٌ من نور الإيمان إلّا باتِّباع السُّنّة ومجانبة البدعة. وكلُّ موضعٍ ترى فيه اجتهادًا ظاهرًا بلا نورٍ

(1)

رواه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 40)، والقشيري في «الرسالة القشيرية» (ص 129). وتقدم (ص 272).

(2)

«مع» ليست في ش، د.

(3)

لم أجد هذا الخبر في مصدر آخر.

(4)

رواه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 245)، والبيهقي في «الشعب» (9715). وانظر:«الرسالة القشيرية» (ص 158، 634)، و «تلبيس إبليس» (ص 183)، و «صفة الصفوة» (4/ 106).

(5)

كذا في النسخ، والفقرة الثانية مروية عن ابن فورك في «طبقات الفقهاء الشافعية» لابن الصلاح (1/ 138)، و «تاريخ الإسلام» (9/ 109)، و «طبقات الشافعية» للسبكي (4/ 134).

ص: 532

فاعلَمْ أنّ ثَمَّ بدعةً خفيّةً.

وقال سهل بن عبد الله: الزم السّواد على البياض ــ حدّثنا وأخبرنا ــ إن أردت أن

(1)

تفلح

(2)

.

ولقد كان سادات الطّائفة أشدَّ ما كانوا اجتهادًا في آخر أعمارهم.

قال القشيريُّ

(3)

: سمعت أبا عليٍّ الدّقّاق يقول: رُئي في يد الجنيد سُبحةٌ، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحةً؟ فقال: طريقٌ به وصلتُ إلى ربِّي تبارك وتعالى لا أفارقه أبدًا.

وقال إسماعيل

(4)

بن نُجيدٍ: كان الجنيد يجيء كلّ يومٍ إلى السُّوق، فيفتح بابَ حانوته، فيدخله ويُسبِل السِّتر، ويصلِّي أربعمائة ركعةٍ، ثمّ يرجع إلى بيته.

ودخل عليه ابنُ عطاءٍ وهو في النَّزع، فسلّم عليه، فلم يردّ عليه. ثمّ ردّ عليه بعد ساعةٍ، فقال: اعذرني، فإنِّي كنتُ في وِرْدي. ثمّ حَوَّل وجهَه إلى القبلة، وكبّر، ومات

(5)

.

(1)

«أن» ليست في ش، د.

(2)

«تاريخ دمشق» (48/ 253)، و «تلبيس إبليس» (ص 287)، و «بغية الطلب» لابن العديم (10/ 4379) بنحوه. وتقدم عند المؤلف (ص 277) بلفظ:«يا معشر الصوفية، لا تفارقوا السواد في البياض تهلكوا» .

(3)

«الرسالة القشيرية» (ص 156). وانظر: «الزهد الكبير» للبيهقي (770).

(4)

«إسماعيل» ليست في ش، د. والخبر من طريقه في «تاريخ بغداد» (7/ 245). وانظر:«الرسالة القشيرية» (ص 156)، و «صفة الصفوة» (2/ 422).

(5)

الخبر في «تاريخ بغداد» (7/ 245).

ص: 533

وقال أبو سعيد بن الأعرابيِّ: سمعت أبا بكرٍ العطّار يقول: حضرتُ أبا القاسم الجُنيد أنا وجماعةٌ من أصحابنا، وكان قاعدًا يصلِّي، ويَثْنِي رجلَه إذا أراد أن يسجد. فلم يزل كذلك حتّى خرجت الرُّوح من رجليه، فثقلَتْ عليه حركتها، وكانتا قد تورَّمتا. فقال له بعض أصحابه: ما هذا يا أبا القاسم؟ فقال: هذه نِعَمُ الله. الله أكبر. فلمّا فرغ من صلاته قال له أبو محمّدٍ الجريريُّ: يا أبا القاسم، لو اضطجعتَ. فقال: يا أبا محمّدٍ، هذا وقتٌ يؤخذ فيه الله أكبر. فلم يزل ذلك حاله حتّى مات

(1)

.

ودخل عليه شابٌّ وهو في مرضه الذي مات فيه، وقد تورَّم وجهُه، وبين يديه مخدَّةٌ يصلِّي إليها، فقال: وفي هذه السّاعة لا تترك الصّلاة؟ فلمّا سلّم دعاه وقال: هذا شيءٌ وصلتُ به إلى الله، فلا أدَعُه. ومات بعد ساعةٍ

(2)

.

وقال أبو محمّدٍ الجريريُّ: كنتُ واقفًا على رأس الجنيد في وقت وفاته، وكان يومَ جمعةٍ ويومَ نَيروزٍ، وهو يقرأ القرآن. فقلت له: يا أبا القاسم، ارفُقْ بنفسك، فقال: يا أبا محمّدٍ، أرأيتَ أحدًا أحوجَ إليه منِّي في مثل هذا الوقت، وهو ذا تُطوى صحيفتي؟

(3)

.

وقال أبو بكرٍ العَطويُّ: كنت عند الجنيد حين مات، فختم القرآن، ثمّ ابتدأ في ختمةٍ أخرى، فقرأ من البقرة سبعين آيةً، ثمّ مات

(4)

.

(1)

الخبر في «صفة الصفوة» (2/ 422، 423)، و «طبقات الشافعية» للسبكي (2/ 262).

(2)

رواه الخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 247، 248).

(3)

رواه الخطيب (7/ 248). وانظر: «طبقات الحنابلة» (1/ 129)، و «صفة الصفوة» (2/ 422)، و «طبقات الشافعية» (2/ 266).

(4)

رواه الخطيب (7/ 248)، وأبو نعيم في «الحلية» (10/ 264). وانظر:«تاريخ الإسلام» (6/ 924)، و «وفيات الأعيان» (1/ 374).

ص: 534

وقال محمّد بن إبراهيم: رأيت الجنيد في النّوم، فقلت: ما فعلَ الله بك؟ فقال: طاحتْ تلك الإشارات، وغابتْ تلك العبارات، وفنِيتْ تلك العلوم، ونفدت تلك الرُّسوم، وما نفعَنا إلّا ركعاتٌ كنّا نركعها في الأسحار

(1)

.

وتذاكروا بين يديه أهل المعرفة، وما استهانوا به من الأوراد والعبادات بعدما وصلوا إليه، فقال الجنيد: العبادة على العارفين أحسن من التِّيجان على رؤوس الملوك

(2)

.

وقال: الطُّرق كلُّها مسدودةٌ على الخلق، إلّا من اقتفى أثر الرّسول، واتّبعَ سنّته، ولزِمَ طريقته، فإنّ طُرق الخيرات كلّها مفتوحةٌ عليه

(3)

.

وقال: من ظنّ أنّه يصل ببذل المجهود فمُتعَنٍّ، ومن ظنّ أنّه يصل بغير بذل

(4)

المجهود فمتمنٍّ

(5)

.

وقال أبو نعيمٍ

(6)

: سمعت أبي يقول: سمعت أحمد بن جعفر بن هانئٍ يقول: سألت الجنيد، ما علامة الإيمان؟ فقال: علامته طاعةُ من آمنت به،

(1)

رواه الخطيب (7/ 248)، وأبو نعيم في «الحلية» (10/ 257). وانظر:«طبقات الحنابلة» (1/ 129)، و «صفة الصفوة» (2/ 424)، و «تاريخ الإسلام» (6/ 924).

(2)

رواه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 257).

(3)

رواه السلمي في «طبقات الصوفية» (ص 159)، وأبو نعيم في «الحلية» (10/ 257).

(4)

ش، د:«لا يصل ببذل» . والمثبت موافق لما في «حلية الأولياء» .

(5)

رواه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 267). ورُوي نحوه عن أبي سعيد الخراز في «تاريخ بغداد» (4/ 277)، و «الرسالة القشيرية» (ص 90)، و «الزهد الكبير» للبيهقي (729).

(6)

في «الحلية» (10/ 266).

ص: 535

والعمل بما يُحِبُّه ويرضاه، وتركُ التّشاغل عنه بما ينقضي ويزول.

فرحمةُ الله على أبي القاسم الجنيد ورضي الله عنه، ما أَتبعَه لسنّة الرّسول صلى الله عليه وسلم! وما أقفاه لطريقته وطريقة أصحابه

(1)

!

وهذا بابٌ يطول تتبُّعه جدًّا، يدلُّك على أنّ أهل الاستقامة في نهاياتهم أشدُّ اجتهادًا منهم في بداياتهم، بل كان اجتهادهم في البداية في عملٍ مخصوصٍ، فصار اجتهادهم في النِّهاية في الطّاعة المطلقة، وصارت إرادتهم دائرةً معها. فيضعُف الاجتهاد في العين، لأنّه قد صار مقسومًا بينه وبين غيره.

ولا تُصْغ إلى

(2)

قول ملحدٍ قاطعٍ للطّريق في قالب عارفٍ، يقول: إنّ منزلة القرب تنقُلُ العبد من الأعمال الظّاهرة إلى الأعمال الباطنة، وتحملُه

(3)

على الاستهانة بالطّاعات الظّاهرة، وتُرِيحه من القيام بها.

فصل

قوله: (وتُخلِّص من رُعونة المعارضات)، يريد أنّ هذه الملاحظة تُخلِّص العبدَ من رعونة معارضة حكم الله الدِّينيِّ والكونيِّ الذي لم يأمر بمعارضته، فيستسلم للحكمين. فإنّ ملاحظة عينِ الجمع يُشهِده أنّ الحكمين صدرا عن عزيزٍ حكيمٍ، فلا يُعارِض حكمَه برأيٍ ولا عقلٍ ولا ذوقٍ ولا خاطرٍ.

وأيضًا فيُخلِّص قلبَه من معارضات السُّوء للأمر والخبر، فإنّ الأمر

(1)

هذه الفقرة ليست في ش، د، ت.

(2)

د: «الا» ، خطأ.

(3)

ر: «وتحمل» .

ص: 536

يُعارَض بالشّهوة، والخبر يُعارَض بالشّكِّ والشُّبهة. فملاحظة عينِ الجمع تُخلِّص قلبه من هاتين المعارضتين. وهذا هو القلب السّليم الذي لا يُفلِح إلّا من لقي الله به. هذا تفسير أهل الاستقامة

(1)

.

وأمّا أهل الإلحاد فقالوا

(2)

: المراد بالمعارضات هاهنا الإنكارُ على الخلق بما يبدو منهم من أحكام البشريّة، لأنّ المُشاهِد لعين الجمع يعلم أنّ مراد الله من الخلائق ما هم عليه، وإذا علم ذلك بحقيقة الشُّهود كانت المعارضات والإنكار من رُعونات الأنفس المحجوبة.

وقال قدوتهم في ذلك

(3)

: العارف لا ينكر منكرًا، لاستبصاره بسِرِّ الله في القدر.

وهذا عينُ الإلحاد والانسلاخ من الدِّين بالكلِّيّة، وقد أعاذ الله شيخَ الإسلام من ذلك. وإذا كان الملحد يُحمِّل كلام الله ورسوله ما لا يحتمله، فما الظّنُّ بكلام مخلوقٍ مثله؟

فيقال: إنّما بعث الله رسلَه وأنزل كُتبَه بالإنكار على الخلق ما هم عليه من أحكام البشريّة وغيرها. فبهذا أُرسِلت الرُّسل، وأُنزِلت الكتب، وانقسمت الدّار إلى دار سعادةٍ للمنكرين، ودار شقوةٍ

(4)

للمنكر عليهم. فالطّعنُ في ذلك طعنٌ في الرُّسل والكتب، والتّخلُّص من ذلك تخلُّصٌ من رِبقة الدِّين.

(1)

ر: «أهل الحق والاستقامة» .

(2)

انظر: «شرح القاساني» (ص 450)، و «شرح التلمساني» (ص 453).

(3)

هو ابن سينا، قاله في «الإشارات» (ص 365) طبعة قم 1423. وقد عزاه إليه المؤلف في «شفاء العليل» (ص 39).

(4)

ر: «شقاوة» .

ص: 537