المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وكذلك نقد أهل الحديث، فإنّه يمرُّ بهم إسنادٌ ظاهرٌ كالشّمس - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ منزلة الإيثار

- ‌الإيثار ضدّ الشُّحِّ

- ‌ ما يُعِين على الإيثار

- ‌ المُؤثِر لرضا الله متصدٍّ لمعاداة الخلق

- ‌ منزلة الخُلُق

- ‌ للمُطَاع مع النّاس ثلاثةَ أحوالٍ:

- ‌«البرُّ حسنُ الخلق

- ‌ حسن الخلق هو الدِّين كلُّه

- ‌ تزكية النُّفوس مسلَّمٌ إلى الرُّسل

- ‌تزكية النُّفوس أصعبُ من علاج الأبدان

- ‌ هل يمكن أن يكون(4)الخُلق كسبيًّا

- ‌ التّصوُّف هو الخلق

- ‌ مشهد القَدَر

- ‌ مشهد الصّبر

- ‌ مشهد الرِّضا

- ‌ مشهد الإحسان

- ‌ مشهد السّلامة وبِرِّ القلب

- ‌ مشهد الأمن

- ‌ مشهد الجهاد

- ‌ مشهد النِّعمة

- ‌ مشهد الأسوة

- ‌ مشهد التوحيد

- ‌ الثّانية: استعظام كلِّ ما يصدر منه سبحانه إليك، والاعتراف بأنّه يوجب الشُّكر عليك

- ‌مدار حسن الخلق مع الخلق ومع الحق:

- ‌ المتكبِّر غير راضٍ بعبوديّة سيِّده

- ‌علامة الكرم والتّواضع:

- ‌ منزلة الفُتوّة

- ‌ ترك الخصومة

- ‌التّغافل عن الزَّلّة

- ‌ الإحسانَ إلى من أساء إليك

- ‌ الاعتذار إلى من يجني عليك

- ‌ منزلة المروءة

- ‌حقيقة المروءة:

- ‌ حدِّ المروءة:

- ‌ الانبساط مع الخلق

- ‌ قيام العلم:

- ‌ دوام شهود المعنى:

- ‌ الانبساط مع الحقِّ

- ‌ منزلة العَزْم

- ‌ معرفة علّة العزم

- ‌مدار علل العزائم على ثلاثة أشياء:

- ‌ منزلة الإرادة

- ‌ من صفات المريدين

- ‌ منزلة الأدب

- ‌الأدب ثلاثة أنواعٍ:

- ‌ النّاس في الأدب على ثلاث طبقاتٍ:

- ‌الأدب هو الدِّين كلُّه

- ‌من الأدب معه: أن لا يُجعَل دعاؤه كدعاء غيره

- ‌لكلِّ حالٍ أدبٌ:

- ‌أدبُ المرء: عنوانُ سعادته وفلاحه

- ‌ الفناء عن التّأدُّب بتأديب الحقِّ

- ‌ منزلة اليقين

- ‌اليقين روح أعمال القلوب

- ‌اليقين قرين التّوكُّل

- ‌ الدّرجة الأولى: علم اليقين

- ‌(الدّرجة الثّانية: عين اليقين

- ‌(الدّرجة الثّالثة: حقُّ اليقين

- ‌ منزلة الأنس بالله

- ‌الأنسُ ثمرة الطّاعة والمحبّة

- ‌أكملُ السّماع:

- ‌ الأنسُ بنور الكشف

- ‌ منزلة الذِّكر

- ‌الذِّكر عبوديّة القلب واللِّسان

- ‌ الذِّكر ثلاثة أنواعٍ

- ‌ الذِّكر الخفيُّ

- ‌ الذِّكر الحقيقيُّ

- ‌ منزلة الفقر

- ‌حقيقة الفقر

- ‌ أوّلُ قَدَمِ الفقر الخروجَ عن النّفس

- ‌ حقيقة الفقر:

- ‌ فقر الصُّوفيّة)

- ‌ منزلة الغنى العالي

- ‌ غنى القلب

- ‌ غنى النّفس

- ‌ الغنى بالحقِّ

- ‌ منزلة المراد

- ‌ منزلة الإحسان

- ‌ الإحسان في الوقت

- ‌ منزلة العلم

- ‌ طرق العلم وأبوابه

- ‌ الاستغناء عن الوحي بالعلم اللّدنِّيِّ إلحادٌ وكفرٌ

- ‌ منزلة الحكمة

- ‌الحكمة في كتاب الله نوعان:

- ‌ الحكمة المقرونة بالكتاب

- ‌الحكمة حكمتان: علميّةٌ وعمليّةٌ

- ‌أكمل الخلق في هذا

- ‌ منزلة الفراسة

- ‌للفراسة سببان:

- ‌ منزلة التّعظيم

- ‌هذه المنزلة تابعةٌ للمعرفة

- ‌روحُ العبادة هو الإجلال والمحبّة

- ‌دينُ الله بين الجافي عنه والغالي فيه

- ‌ تعظيم الحقِّ سبحانه

- ‌ منزلة الإلهام

- ‌ منزلة السّكينة

- ‌ سكينة بني إسرائيل

- ‌كرامات الأولياء

- ‌(الدّرجة الأولى: سكينة الخشوع

- ‌(الدّرجة الثّانية: السّكينة عند المعاملة

- ‌محاسبة النفس

- ‌ ملاطفة الخلق

- ‌ مراقبة الحقِّ

- ‌السّكينة لا تنزِل إلّا على قلب نبيٍّ أو وليٍّ)

- ‌ منزلة الطُّمأنينة

- ‌الطُّمأنينة مُوجَبُ(3)السّكينة

- ‌ طمأنينة القلب بذكر الله

- ‌ طمأنينة الرُّوح

- ‌ طمأنينة شهود الحضرة

- ‌ طمأنينة الجمع إلى البقاء

- ‌ طمأنينة المقام إلى نور الأزل

- ‌ منزلة الهمّة

- ‌ منزلة المحبّة

- ‌ الدّرجة الأولى: محبّةٌ تقطع الوساوسَ

- ‌(الدّرجة الثّانية: محبّةٌ تبعثُ على إيثار الحقِّ على غيره

- ‌(الدّرجة الثّالثة: محبّةٌ خاطفةٌ

- ‌ منزلة الغيرة

- ‌غيرة العبد لربِّه

- ‌ غيرة الرّبِّ على عبده:

- ‌ الأولى: غيرةُ العابد

- ‌ الثّانية: غيرة المريد

- ‌ الثّالثة: غيرة العارف

- ‌ منزلة «الشّوق»

- ‌الشّوق أثرٌ من آثار المحبّة

- ‌فصلُ النِّزاع في هذه المسألة:

- ‌ لا مشاهدةَ أكملُ من مشاهدة أهل الجنّة

- ‌ الأولى: قلقٌ يُضَيِّق الخُلقَ

- ‌ الثّانية: قلقٌ يُغالِبُ العقل

- ‌ الثّالثة: قلقٌ لا يرحم أبدًا

- ‌ الأولى: عطشُ المريدِ

- ‌ الثّانية: عطشُ السّالك

- ‌ الثّالثة: عطش المحبِّ

- ‌ لا يصحُّ لأحدٍ في الدُّنيا مقامُ المشاهدة أبدًا

- ‌ منزلة «الوجد»

- ‌الرّبط على القلب

- ‌ الأولى: وجدٌ عارضٌ

- ‌ الثّانية: وجدٌ تستفيق له الرُّوح

- ‌ الثّالثة: وجدٌ يَخطَفُ العبدَ من يد الكونين

- ‌ الأولى: دهشةُ المريد

- ‌ الثّانية: دهشةُ السّالك

- ‌ الثّالثة: دهشةُ المحبِّ

- ‌أكثر آفات النّاس من الألفاظ

- ‌ليس ذلك من مقامات السَّير، ولا منازل الطّريق

- ‌منزلة الهيمان

- ‌ الأولى: برقٌ يلمع من جانب العِدَة في عين الرّجاء

- ‌ الثّانية: برقٌ يَلمعُ من جانب الوعيد في عين الحَذَر

- ‌ الثّالثة: برقٌ يلمع من جانب اللُّطف في عين الافتقار

- ‌ منزلة الذّوق

- ‌الذّوق والوجد أمرٌ باطنٌ، والعمل دليلٌ عليه

- ‌ منزلة اللّحظ

- ‌ الدّرجة الأولى: ملاحظة الفضل سبقًا

- ‌ الفرح من أسباب المكر ما لم يقارِنْه خوفٌ:

- ‌(الدّرجة الثّانية: ملاحظة نور الكشف

- ‌(الدّرجة الثّالثة: ملاحظةُ عين الجمع

- ‌ كلّ حقيقةٍ لا تتبعها شريعةٌ فهي كفرٌ

- ‌ أحوال الرُّسل مع أممهم

- ‌الطّالب الجادُّ لا بدّ أن تَعرِض له فترةٌ

- ‌ الوقت سَيفٌ، فإن قطعتَه وإلّا قطَعَك

- ‌ الصُّوفيّة أربعة أقسامٍ: أصحاب السّوابق، وأصحاب العواقب، وأصحاب الوقت، وأصحاب الحقِّ

- ‌صاحب التّمكين يتصرَّفُ علمُه في حاله

- ‌ منزلة الصّفاء

- ‌ الدّرجة الأولى: صفاء علمٍ يُهذِّب

- ‌(الدرجة الثانية: صفاء حالٍ

- ‌ ذوق حلاوة المناجاة

- ‌(الدّرجة الثّالثة: صفاء اتِّصالٍ

الفصل: وكذلك نقد أهل الحديث، فإنّه يمرُّ بهم إسنادٌ ظاهرٌ كالشّمس

وكذلك نقد أهل الحديث، فإنّه يمرُّ بهم إسنادٌ ظاهرٌ كالشّمس على متنٍ مكذوبٍ، فيُخرِجه نقدهم كما يُخرِج الصّيرفيُّ الزّغلَ تحت الظّاهر من الفضّة.

وكذلك فراسة التّمييز بين الصّادق والكاذب في أقواله وأفعاله وأحواله.

و‌

‌للفراسة سببان:

أحدهما: جودة ذهن المتفرِّس، وحِدّة قلبه، وحسن فِطنته.

والثّاني: ظهور العلامات والأدلّة على المتفرَّس فيه.

فإذا اجتمع السّببان لم تكد تُخطئ للعبد فراسةٌ، وإذا انتفيا لم تكد تصحُّ له فراسةٌ، وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر كانت فراستُه بينَ بينَ.

وكان إياس بن معاوية من أعظم النّاس فراسةً، وله الوقائع المشهورة

(1)

. وكذلك الشّافعيُّ رحمه الله

(2)

. وقيل: إنّ له فيها تواليف

(3)

.

ولقد شاهدتُ من فراسة شيخ الإسلام ابن تيميّة أمورًا عجيبةً

(4)

، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم. ووقائُع فراسته تستدعي سِفرًا ضخمًا.

وأخبر أصحابَه بدخول التّتار الشّام سنة تسعٍ وتسعين وستِّمائةٍ، وأنّ

(1)

انظرها في «أخبار القضاة» لوكيع (1/ 343 - 374).

(2)

انظر «مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 130 - 137).

(3)

قال الشافعي: خرجتُ إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتُها وجمعتُها. انظر: «آداب الشافعي ومناقبه» لابن أبي حاتم (ص 129)، و «حلية الأولياء» (9/ 144)، و «مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 134).

(4)

«عجيبة» ليست في ش، د.

ص: 309

جيوش المسلمين تُكْسَر، وأنّ دمشق لا يكون بها قتلٌ عامٌّ ولا سبيٌ عامٌّ، وأنّ كَلَب الجيش وحدّته في الأموال. هذا قبل أن يَهُمَّ التّتار بالحركة.

ثمّ أخبر النّاسَ والأمراءَ سنة اثنتين وسبعمائةٍ لمّا تحرّك التّتار وقصدوا الشّام: أنّ الدّائرة عليهم والهزيمة، والظّفر والنّصر للمسلمين. وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينًا. فيقال له: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا

(1)

. سمعته يقول ذلك. قال: فلمّا أكثروا عليَّ قلت: لا تُكثروا، كتب الله تعالى في اللّوح المحفوظ أنّهم مهزومون في هذه الكرّة، وأنّ النّصر لجيوش الإسلام. قال: وأطعمتُ بعضَ الأمراء والعسكر حلاوةَ النّصر قبل خروجهم إلى لقاء العدوِّ.

وكانت فراساته الجزئيّة في خلال هاتين الوقعتين مثل المطر.

ولمّا طُلِب إلى الدِّيار المصريّة وأُريد قتله ــ بعد أن أُنضِجت له القدور، وقُلِّبت له الأمور ــ اجتمع

(2)

أصحابه لوداعه، وقالوا: قد تواترت الكتب بأنّ القوم عاملون على قتلك. فقال: والله لا يَصِلُون إلى ذلك أبدًا. قالوا: فتُحْبَس؟ قال: نعم، ويطول حبسي، ثمّ أَخرُج وأتكلَّمُ بالسُّنّة على رؤوس المنابر. سمعته يقول ذلك.

ولمّا تولّى عدوُّه الملقّب بالمظفَّر الجاشَنْكير الملك أخبروه بذلك، وقالوا: الآن بلغ مراده منك. فسجد لله شكرًا وأطال. فقيل له: ما سببُ هذه

(1)

انظر: «البداية والنهاية» (18/ 23، 27)، و «الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (ص 323، 335، 416).

(2)

ل: «اجمع» .

ص: 310

السّجدة؟ فقال: هذا بداية ذُلِّه، وفارقَه عزُّه من الآن، وقرُبَ زوالُ أمره. فقيل له: متى هذا؟ فقال: لا تُربَطُ خيولُ الجند على القُرْط

(1)

حتّى تُقلَب دولته. فوقع الأمر مثلَ ما أخبر به

(2)

. سمعت ذلك منه وعنه.

وقال مرّةً: يدخل عليَّ أصحابي وغيرهم، فأرى في وجوههم وأعينهم أمورًا لا أذكرها لهم. فقلتُ له أو غيري: لو أخبرتَهم؟ فقال: أتريدون أن أكون معرِّفًا كمعرّف الولاة؟

وقلت له يومًا: لو عاملْتَنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصّلاح، فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعةً، أو قال: شهرًا.

وأخبرني غير مرّةٍ بأمورٍ باطنةٍ تختصُّ بي، ممّا عزمتُ عليه ولم ينطِقْ به لساني.

وأخبرني ببعض حوادثَ كبارٍ تجري في المستقبل، ولم يُعيِّن أوقاتَها. وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيّتها.

وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعافُ أضعافِ ما شاهدتُه.

(1)

يقال: قرَّط الفرسَ: وضع اللجام وراء أُذنِه عند الركض. والمقصود هنا تجهيز خيول الجند وخروجها لقتال الملك الناصر من قِبل الجاشنكير الذي لم يتم له ما أراد بسبب تخلِّي أنصاره عنه ونصرتهم للملك الناصر.

(2)

انظر: «النجوم الزاهرة» (8/ 232 - 276)، و «السلوك» للمقريزي (2/ 45 - 71، 80)، ففيهما تفصيل ما جرى للجاشنكير الذي عادى الملكَ الناصر، وانتهى أمره بأن استسلم للناصر، فلما مثل بين يديه عاتبه الناصر على أمور بدرت منه، وكان في يد الناصر وَتَرٌ فطوَّقَ به عُنقَ الجاشنكير إلى أن خنقَه. وكانت مدة سلطنته عشرة أشهر وأربعة وعشرين يومًا. وكان يعادي شيخ الإسلام.

ص: 311

فصل

قال صاحب «المنازل» رحمه الله

(1)

: (الفراسة: استئناسُ حكمِ غيبٍ).

والاستئناس: استفعالٌ من آنستُ كذا، إذا رأيتَه. فإن أدركتَ بهذا الاستئناس حكمَ غيبٍ كان فراسةً. وإن كان بالعين كان رؤيةً، وإن كان بغيرها من المدارك فبحسَبِها.

قوله

(2)

: (من غيرِ استدلالٍ بشاهدٍ).

الاستدلال بالشّاهد على الغائب أمرٌ مشتركٌ بين البرِّ والفاجر، والمؤمن والكافر، كالاستدلال بالبروق والرُّعود على الأمطار، وكاستدلال رؤساء البحر بالكَدَر الذي يبدو لهم في جانب الأفق على ريحٍ عاصفٍ ونحو ذلك، وكاستدلال الطّبيب بالسَّحْنَة

(3)

والتَّفْسِرة

(4)

على حال المريض، ويَدِقُّ ذلك حتّى يبلغ إلى حدٍّ يَعجِز عنه أكثرُ الأذهان. وكما يُستدلُّ بسيرة الرّجل وسيره على عاقبة أمره في الدُّنيا من خيرٍ أو شرٍّ، فيطابق أو يكاد.

فهذا خارجٌ عن الفراسة التي تتكلّم فيها هذه الطّائفة. وهو نوعُ فراسةٍ لكنّها غير فراستهم، وكذلك ما عُلِم بالتّجربة من مسائل الطِّبِّ والصِّناعات والفلاحة وغيرها.

(1)

(ص 64).

(2)

المصدر نفسه (ص 64).

(3)

السحنة: الهيئة والحال.

(4)

التفسرة: مقدار من بول المريض يستدلُّ الطبيب بالنظر فيه على المرض.

ص: 312

فصل

قال

(1)

: (وهي على ثلاث درجاتٍ. الأولى: فراسةٌ طارئةٌ نادرةٌ، تسقط على لسانٍ وحشيٍّ في العمر مرّةً، لحاجة سمْعِ مريدٍ صادقٍ إليها، لا يُوقَف على

(2)

مَخْرجِها، ولا يُؤبَه لصاحبها. وهذا شيءٌ لا يَخلُص

(3)

من الكهانة وما ضَاهاها، لأنّها لم تَسر

(4)

عن عينٍ، ولم تَصدُرْ عن علمٍ، ولم تُسْبَقْ بوجودٍ).

يريد بهذا النّوع: فراسةً تجري على ألسنة الغافلين، الذين ليست لهم يقظة أرباب القلوب، فلذلك قال:(طارئةٌ نادرةٌ تسقط على لسانٍ وحشيٍّ). واللسان الوحشي: الذي لم يأنَسْ بذكر الله، ولا اطمأنّ إليه قلبُ صاحبه، فيسقطُ على لسانه مكاشفةٌ في العمر مرّةً. وذلك نادرٌ، ورميةٌ من غيرِ رامٍ.

وقوله: (لحاجة مريدٍ صادقٍ).

يشير إلى حكمة إجرائها على لسانه، وهي حاجة المريد الصّادق إليها. فإذا سمعها على لسان غيره كان أشدَّ تنبيهًا له، وكانت عنده أعظمَ موقعًا.

وقوله: (لا يُوقَف على مَخرَجِها).

يعني: لا يَعلَم الشّخصُ الذي وصلتْ إليه واتّصلتْ به ما سبب مخرج ذلك الكلام؟ وإنّما سمِعَه مقتطعًا ممّا قبله وممّا هيَّجَه

(5)

.

(1)

«المنازل» (ص 64).

(2)

ش، د:«عن» .

(3)

ش: «لا يخدمن» .

(4)

كذا في النسخ بالسين المهملة. وفي «المنازل» : «لم تشر» .

(5)

كذا في النسخ. وفي هامش ل: «لعله: ومما بعده» .

ص: 313

(ولا يُؤبَه لصاحبها).

لأنّه ليس هنالك

(1)

قلبٌ. وهذا من جنس الفأل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الفأل ويُعجِبه

(2)

. والطِّيرة من هذا، ولكنّ المؤمن لا يَتطيَّر، فإنّ الطِّيَرة شركٌ، ولا يَصُدّه ما سمع عن مقصده وحاجته، وليتوكَّل على الله ويثق به، ويدفع شرّ التّطيُّر عنه بالتّوكُّل.

وفي «الصحيح»

(3)

عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الطِّيرة شركٌ، وما منّا إلّا، ولكنَّ الله يُذهِبه بالتّوكُّل» .

وهذه الزِّيادة ــ وهي قوله: «وما منّا إلّا» ــ يعني من يَعترِيه، ولكن يدفعها بالتّوكُّل ــ مدرجةٌ في الحديث من قول ابن مسعودٍ. جاء ذلك مبيّنًا

(4)

.

ومن له يَقَظةٌ يرى ويسمع من ذلك عجائبَ، وهي من إلقاء الملَك تارةً على لسان النّاطق، وتارةً من إلقاء الشّيطان. فالإلقاء الملَكيُّ تبشيرٌ وتحذيرٌ

(1)

ش، د:«هناك» .

(2)

كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (5755) ومسلم (2223)، وفي حديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري (5756) ومسلم (2224).

(3)

لم يروِه البخاري ومسلم. وقد أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (909)، وأبو داود (3910)، والترمذي (1614)، وابن ماجه (3538)، وأحمد (3687، 4171). وإسناده صحيح، وصححه الترمذي وابن حبان (6122).

(4)

قال الحافظ في «الفتح» (10/ 213): قوله: «وما منا إلَّا» من كلام ابن مسعود أُدرج في الخبر، وقد بيَّنه سليمان بن حرب شيخ البخاري فيما حكاه الترمذي عن البخاري عنه. أما الألباني فقال في «الصحيحة» (429): لا حجة هنا في الإدراج، فالحديث صحيح بكامله.

ص: 314

وإنذارٌ، والإلقاء الشّيطانيُّ تحزينٌ وتخويفٌ وشركٌ وصَدٌّ عن المطالب.

وصاحب الهمّة والعزيمة لا يتقيّد بذلك، ولا يَصرِف إليها همّتَه، وإذا سمع ما يَسُرُّه استبشر، وقوِيَ رجاؤه، وحسُنَ ظنُّه، وحمِد الله، وسأله إتمامَه، واستعان به على حصوله. وإذا سمع ما يسوؤه استعاذ بالله، ووثِقَ به، وتوكَّلَ عليه، والتجأ إلى التّوحيد، وقال:«اللهمّ لا طَيْرَ إلّا طيرُك، ولا خيرَ إلّا خيرُك، ولا إلَه غيرُك»

(1)

. «اللهمَّ لا يأتي بالحسنات إلّا أنت، ولا يَذهب بالسّيِّئات إلّا أنت، ولا حولَ ولا قوّة إلّا بك»

(2)

.

ومن جعل هذا نُصْبَ قلبه، وعلَّق به همَّته، كان ضرره به أكثر من نفعه.

قوله: (وهذا شيءٌ لا يَخلُص من الكهانة).

يعني: أنّه من جنس الكهانة. وأحوال الكهّان معلومةٌ قديمًا وحديثًا في إخبارهم عن نوعٍ من المغيَّبات بواسطة إخوانهم من الشّياطين الذين يُلْقون إليهم السّمعَ، ولم يزل هؤلاء في الوجود، ويكثُرون في الأزمنة والأمكنة التي

(1)

كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (7045)، وابن وهب في «جامعه» (1/ 110)، وابن السنّي في «عمل اليوم والليلة» (293)، والطبراني في «الكبير» (14622) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا. وإسناده حسن، وفيه عبد الله بن لهيعة وإن كان ضعيفًا قد رواه عنه عبد الله بن وهب، وهو صحيح السماع منه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (1065).

(2)

كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (3919) من حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن عامر مرفوعًا. وحبيب كثير التدليس، ولم يصرِّح بالتحديث. وعروة بن عامر ذكره ابن حبان في «الثقات» (5/ 195) ضمن التابعين، فالحديث مرسل. وقيل: له صحبة. انظر: «الإصابة» (7/ 154).

ص: 315

يخفى فيها نور النُّبوّة. ولذلك كانوا أكثرَ ما كانوا في زمن الجاهليّة، وكلُّ زمانِ جاهليّةٍ

(1)

وبلد جاهليّةٍ وطائفة جاهليّةٍ فلهم نصيبٌ منها، بحسب اقتران الشّياطين بهم

(2)

، وطاعتهم لهم، وعبادتهم إيّاهم.

وقوله: (وما ضاهاها).

أي وما شابهها من جنس الخطِّ بالرَّمْل، وضربِ الحصا، وزجْرِ الطّير الذي يسمُّونه السّانح والبارح، والقرعة الشِّركيّة لا الشّرعيّة، والاستقسام بالأزلام، وغير ذلك ممّا تتعلّق به النُّفوس الجاهليّة المشركة التي عاقبةُ أمرِها خُسْرٌ وبَوارٌ.

قوله: (لأنّها لم تسر عن عينٍ).

أي عن عين الحقيقة التي لا يصدُر عنها إلّا حقٌّ. يعني: هي غير متّصلةٍ بالله.

قوله: (ولم تَصدُر عن علمٍ).

يعني أنّها عن ظنٍّ وحسبانٍ، لا عن علمٍ ويقينٍ. وصاحبها دائمًا في شكٍّ، ليس على بصيرةٍ من أمره.

وقوله: (ولم تُسْبَقْ بوجودٍ).

أي لم يَسبِقْها وجود الحقيقة لصاحبها، بل هو فارغٌ من غيرِ

(3)

واجدٍ، بل فاقدٌ من غير أهل الشهود.

(1)

«وكل زمان جاهلية» ساقطة من ش، د.

(2)

ل: «لهم» .

(3)

ل: «نوعين» . وكتب فوقها «كذا» . والكلمة غير محررة في ش. وفي المطبوع: «بوٌّ غير» ولا معنى لها هنا. وأثبتُّ ما استظهرت من الرسم، ويؤيِّده السياق.

ص: 316

فصل

قال

(1)

: (الدّرجة الثّانية: فراسةٌ تُجنى من غَرْسِ الإيمان، وتَطلعُ من صحّة الحال، وتَلمعُ من نور الكشف).

هذا النّوع من الفراسة مختصٌّ بأهل الإيمان، ولذلك قال:(تُجنى من غَرْسِ الإيمان). وشبَّه الإيمان بالغَرْس لأنّه يزداد وينمو، ويزكو على السّقي، ويُؤتي أُكُلَه كلَّ حينٍ بإذن ربِّه، وأصلُه ثابتٌ في الأرض، وفرعُه

(2)

في السّماء. فمن غرسَ الإيمان في أرضِ قلبِه الطّيِّبة الزّاكية، وسقى ذلك الغِراسَ بماء الإخلاص والصِّدق والمتابعة= كان من بعض ثمرِه هذه الفراسةُ.

قوله: (فتطلع من صحّة الحال).

يعني: أنّ صدق الفراسة من صدق الحال، فكلّما كان الحال أصدقَ وأصحَّ فالفراسة كذلك.

قوله: (وتلمعُ من نور الكشف).

يعني أنّ نور الكشف من جملة ما يُولِّد الفراسة، بل أصلها نور الكشف. وقوّةُ الفراسة بحسب قوّة هذا النُّور وضعفه، وقوّتُه وضعفُه بحسب قوّة مادّته وضعفها.

فصل

قال

(3)

: (الدّرجة الثّالثة: فراسةٌ سَرِيّةٌ، لم تَجتلِبْها رَوِيّةٌ، على لسانٍ

(1)

«المنازل» (ص 64).

(2)

ش: «فروعه» .

(3)

«المنازل» (ص 65).

ص: 317

مصطنعٍ تصريحًا أو رمزًا).

يحتمل لفظ «السّريّة» وجهين:

أحدهما: الشّرف، أي فراسةٌ شريفةٌ، فإنّ الرّجل السَّرِيّ هو الرّجل الشّريف، وجمعه سَراةٌ، ومنه ــ في أحد التّأويلين

(1)

ــ قوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24] أي سيِّدًا مطاعًا، وهو المسيح. وعلى هذا يكون «سَرِيّةٌ» بوزن شَريفةٍ.

والثّاني: أن يكون من السِّرِّ، أي فراسةٌ متعلِّقةٌ بالأسرار لا بالظّواهر، فيكون «سِرِّيَّةٌ» بوزن شِرِّيبةٍ ومِكِّيثةٍ.

قوله: (لم تَجتلِبْها رَوِيّةٌ).

أي لا تكون عن فكرةٍ، بل تَهْجُم على القلب هجومًا لا يُعرَف سببه.

قوله: (على لسانٍ مصطنعٍ)، أي مختارٍ مصطفًى على غيره.

(تصريحًا أو رمزًا)، يعني أنّ هذا المختار المصطفى يُخبِر بهذه الفراسة العالية عن أمورٍ مغيّبةٍ، تارةً بالتّصريح، وتارةً بالتّلويح، إمّا سترًا لحاله، وإمّا صيانةً لما أخبر به عن الابتذالِ ووصولهِ إلى غير أهله، وإمّا لغير ذلك من الأسباب. والله أعلم.

* * * *

(1)

والثاني أنه النهر الصغير. انظر التأويلين في «تفسير الطبري» (15/ 506 وما بعدها)، و «زاد المسير» (5/ 222) وغيرهما.

ص: 318