الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو باطلًا، وتَكِلُ سريرتَه إلى الله تعالى، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين الذين تخلَّفوا عنه في الغزو، فلمّا قدم جاؤوه يعتذرون إليه، فقبلَ أعذارهم، ووَكَلَ سرائرَهم إلى الله تعالى.
و
علامة الكرم والتّواضع:
أنّك إذا رأيتَ الخلل في عذره لا تُوقِفه عليه ولا تُحاجُّه. وقُلْ
(1)
: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قُضِي شيءٌ لكان، والمقدور لا مدفعَ له، ونحو ذلك.
فصل
قال
(2)
: (الدّرجة الثّالثة: أن تَتَّضِع للحقِّ، فتنزلَ عن رأيك وعوائدك في الخدمة، ورؤيةِ حقِّك في الصُّحبة، وعن رسْمِك في المشاهدة).
يقول: أن
(3)
تخدِمَ الحقّ سبحانه، وتعبدَه بما أمرك به على مقتضى أمره، لأجلِ أنه أمره لا على ما تراه من رأيك. ولا يكون الباعث لك داعي العادة، كما هو باعثُ من لا بصيرةَ له، غير أنّه اعتاد أمرًا فجرى عليه، ولو اعتاد ضدَّه لكان كذلك.
وحاصله: أنّه
(4)
لا يكون باعثُه على العبوديّة مجرّد رأيٍ، وموافقة هوًى ومحبّةٍ، ولا عادةٍ. بل الباعث مجرّد الأمر، والرّأي والمحبّة والهوى والعوائد منفِّذةٌ تابعةٌ، لا أنّها مُطاعةٌ باعثةٌ. وهذه نكتةٌ لا يتنبّه لها إلّا أهل البصائر.
(1)
ش، د:«وقد» .
(2)
«المنازل» (ص 47).
(3)
ل: «بأن» .
(4)
د: «أن» .
وأمّا نزوله عن رؤية حقِّه في الصُّحبة، أن
(1)
لا يرى لنفسه حقًّا على الله لأجل عمله؛ فإنّ صحبته مع الله بالعبوديّة والفقر المحض والذُّلِّ والانكسار، فمتى رأى لنفسه عليه حقًّا فسدت الصُّحبة، وصارت معلولةً، وخِيفَ منها المقْتُ. ولا ينافي هذا ما أحقَّه سبحانه على نفسه من إثابة عابديه وإكرامهم، فإنّ ذلك حقٌّ أحقَّه على نفسه بمحض كرمه وبرِّه وجوده وإحسانه، لا باستحقاقِ العبيد وأنّهم أوجبوه عليه بأعمالهم.
فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي هو مَفرقُ طرقٍ، والنّاس فيه ثلاث فرقٍ:
فرقةٌ رأت أنّ العبد أقلُّ وأعجز من أن يوجب على ربِّه حقًّا، فقالت: لا يجب على الله شيءٌ البتّةَ، وأنكرت وجوب ما أوجبه على نفسه.
وفرقةٌ رأت أنّه سبحانه أوجب على نفسه أمورًا لعبده، فظنّت أنّ العبد أوجبها عليه بأعماله، وأنّ أعماله كانت سببًا لهذا الإيجاب. والفرقتان غالطتان.
والفرقة الثّالثة: أهل الهدى والصّواب، قالت: لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاةً ولا فلاحًا، ولا يُدخِل أحدًا عملُه الجنّةَ أبدًا، ولا يُنجِيه من النّار. والله سبحانه وتعالى ــ بفضله وكرمه، ومحضِ جُوده وإحسانه ــ أكَّد إحسانه وجُودَه وبرّه بأن أوجب لعبده عليه حقًّا بمقتضى الوعد، فإنّ وعد الكريم إيجابٌ، ولو بعسى ولعلّ. ولهذا قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: عسى من الله واجبٌ
(2)
. ووعدُ اللّئيم خلْفٌ، ولو اقترن به العهد والحلف.
(1)
كذا في الأصول بدون الفاء في جواب «أما» .
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/ 905، 1018، 9/ 3001)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (9/ 13) من طريق علي بن أبي طلحة عنه.
والمقصود: أنّ عدم رؤية العبد لنفسه حقًّا على الله لا ينافي ما أوجب الله على نفسه، وجعله حقًّا لعبده. قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبلٍ رضي الله عنه: «يا معاذ
(1)
، أتدري ما حقُّ الله على العباد؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: «حقُّه عليهم أن يعبدوه لا يُشرِكوا به شيئًا. يا معاذ، أتدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقُّهم عليه أن لا يُعذِّبهم بالنّار»
(2)
.
فالرّبُّ سبحانه ما لأحدٍ عليه حقٌّ، ولا يضيع لديه سعيٌ. كما قيل
(3)
:
ما للعباد عليه حقٌّ واجبٌ
…
كلّا ولا سعيٌ لديه ضائعُ
إن عُذِّبوا فبعدْلِه، أو نُعِّموا
…
فبفضله، وهو الكريم الواسعُ
وأمّا قوله: (وتنزِل عن رسْمِك في المشاهدة).
أي من جملة التّواضع للحقِّ: فناؤك عن نفسك، فإنّ رسمه هي نفسه، والنُّزول عنها: فناؤه عنها حين شهود الحضرة. وهذا النُّزول يصحُّ أن يقال كسبيٌّ باعتبارٍ، وإن كان عند القوم غيرَ كسبيٍّ لأنّه يحصل عند التّجلِّي، والتّجلِّي نورٌ، والنُّور يَقْهَر الظُّلمة ويُبطِلها. والرّسم عند القوم ظُلمةٌ، فهي تنفر من النُّور بالذّات، فصار النُّزول عن الرّسم حين التّجلِّي ذاتيًّا.
(1)
«يا معاذ» ليست في ش، د.
(2)
أخرجه البخاري (5967، 6267، 7373) ومسلم (30) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
(3)
البيتان ذكرهما المؤلف في «طريق الهجرتين» (2/ 691)، و «بدائع الفوائد» (2/ 645) وغيرهما، ولم ينسبهما لأحد.
ووجه كونه كسبيًّا: أنّه نتيجة المقامات الكسبيّة، ونتيجة الكسبيِّ وثمرته وإن حصلتْ ضرورةً بالذّات: لم يمتنع أن يُطلَق عليها كونها كسبيّةً باعتبار السّبب. والله أعلم
(1)
.
* * * *
(1)
«والله أعلم» ليست في د.