الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومعنى هذا: أنّ عادة النّاس غالبًا التّعريجُ على أوطان الغفلة، وإجابةُ داعي الشّهوة، والإخلاد إلى أرض الطّبيعة. والمريد منسلخٌ عن ذلك. فصار خروجه عنه أمارةً ودلالةً على صحّة الإرادة، فسمِّي انسلاخه وتركه
(1)
إرادةً.
وقيل: نهوض القلب في طلب الحقِّ
(2)
.
ويقال: لوعةٌ تُهوِّن كلَّ روعةٍ
(3)
.
وقال الدّقّاق رحمه الله: الإرادة لَوعةٌ في الفؤاد، لَدْغةٌ
(4)
في القلب، غرامٌ في الضّمير، انزعاجٌ في الباطن، نيرانٌ تأجّج في القلوب
(5)
.
وقيل:
من صفات المريدين
(6)
: التّحبُّب إلى الله بالنّوافل، والإخلاص في نصيحة الأمّة، والأُنس بالخلوة، والصّبر على مقاساة الأحكام، والإيثار لأمره، والحياء من نظره، وبذْل المجهود في محبوبه، والتّعرُّض لكلِّ سببٍ يُوصِل
(7)
إليه، والقناعة بالخمول، وعدم قرار القلب حتّى يصل إلى وليِّه ومعبوده
(8)
.
(1)
ش، د:«وترك» وعليها علامة اللحق، وليس في هامشها شيء.
(2)
«الرسالة القشيرية» (ص 466).
(3)
المصدر نفسه (ص 466).
(4)
ل: «لذعة» .
(5)
«الرسالة القشيرية» (ص 467).
(6)
ل: «صفات الترتيب» .
(7)
ل: «بوصله» .
(8)
«الرسالة القشيرية» (ص 467، 468).
وقال حاتمٌ الأصمُّ رحمه الله: إذا رأيتَ المريد يريد غير مراده، فاعلم أنّه أظهرَ نَذالتَه
(1)
.
وقيل
(2)
: من حكم المريد: أن يكون نومُه غلبةً، وأكلُه فاقةً، وكلامه ضرورةً
(3)
.
وقال بعضهم: نهاية الإرادة: أن تشير إلى الله فتجده مع الإشارة. فقيل له: وأين تستوعبه الإرادة؟ فقال: أن تجد الله بلا إشارةٍ
(4)
.
وهذا كلامٌ متينٌ، فإنّ المراتب ثلاثةٌ:
أعلاها: أن يكون واجدًا لله في كلِّ وقتٍ، لا يتوقّف وجوده له على إشارة منه ولا من غيره.
الثّاني: أن يكون له ملكةٌ وحالٌ وإرادةٌ تامّةٌ، بحيث متى أُشير له إلى الله وجده عند إشارة المشير.
الثّالث: أن لا يكون كذلك، ويتكلّف وجدانَه عند الإشارة إليه.
فالمرتبة الأولى للمقرّبين السّابقين، والوسطى للأبرار المقتصدين، والثّالثة للغافلين
(5)
.
(1)
المصدر نفسه (ص 468).
(2)
ل: «ومل» ، تحريف.
(3)
«الرسالة القشيرية» (ص 468)، ونسبه للكتّاني. ورواه البيهقي في «شعب الإيمان» (5344).
(4)
المصدر نفسه (ص 468)، ونسبه للزّقّاق. ورواه السراج في «اللمع» (ص 224).
(5)
ل: «للعارفين» ، تحريف.
وقال أبو عثمان الحِيريُّ رحمه الله
(1)
: من لم تصحّ إرادته ابتداءً، فإنّه لا يزيده مرورُ الأيّام عليه إلّا إدبارًا
(2)
.
وقال: المريد إذا سمع شيئًا من علوم القوم فعملَ به: صار حكمةً في قلبه إلى آخر عمره ينتفع به، وإذا تكلّم انتفع به من سمعه. ومن سمع شيئًا من علومهم ولم يعمل به كان حكايةً يحفظها أيامًا ثمّ ينساها
(3)
.
وقال الواسطيُّ رحمه الله: أوّل مقام المريد: إرادةُ الحقِّ بإسقاط إرادته
(4)
.
وقال يحيى بن معاذٍ رضي الله عنه: أشدُّ شيءٍ على المريدين: معاشرة الأضداد
(5)
.
وسئل الجنيد رضي الله عنه: ما
(6)
للمريد حظٌّ في مجاراة الحكايات؟ فقال: الحكايات
(7)
جندٌ من جند الله يُثبِّت الله بها قلوب المريدين. ثمّ قرأ قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]
(8)
.
وقد ذُكِر عن الجنيد رحمه الله كلمتان في الإرادة مجملتان تحتاج إلى
(1)
ل: «الحريري» ، تحريف.
(2)
«الرسالة القشيرية» (ص 468).
(3)
المصدر نفسه (ص 469).
(4)
المصدر نفسه (ص 469).
(5)
المصدر نفسه (ص 469).
(6)
«ما» ليست في ش، د.
(7)
«فقال الحكايات» ليست في ش، د.
(8)
«الرسالة القشيرية» (ص 469). وهو في «اللمع» (ص 205، 206).
تفسيرٍ، الكلمة الواحدة: قال أبو عبد الرّحمن السُّلميُّ
(1)
: سمعت محمّد بن مخلدٍ يقول: سمعت جعفرًا يقول: سمعت الجنيد رحمه الله يقول: المريد الصّادق غنيٌّ عن علم العلماء
(2)
.
وقال جعفر أيضًا: سمعت الجنيد يقول: إذا أراد الله بالمريد خيرًا أوقعَه إلى الصُّوفيّة، ومنعَه صحبةَ القُرّاء
(3)
.
قلت: إذا صدق المريد، وصحّ عقدُ صدقِه مع الله، فتح الله على قلبه ببركة الصِّدق، وحسنِ المعاملة مع الله: ما يغنيه عن العلوم التي هي نتائج أفكار النّاس وآرائهم، وعن العلوم التي هي فضلةٌ ليست من زاد القبر، وعن كثيرٍ من إشارات الصُّوفيّة وعلومهم التي أفْنَوا فيها أعمارهم: من معرفة النّفس وآفاتها وعيوبها، ومعرفة مفسِدات الأعمال وأحكام السُّلوك، حتى
(4)
كان حال سلوكه
(5)
وصدقه وصحّة طلبه: يُرِيه ذلك كلّه بالفعل.
ومثال ذلك: رجلٌ قاعدٌ في البلد يَدْأَب ليلَه ونهاره في علم منازل الطّريق وعَقَباتها وأوديتها، ومواضع المتاهات فيها، والموارد والمفاوز. وآخرُ حمله الوجد وصدق الإرادة على أن ركب الطّريقَ وسار فيها، فصدقُه يُغنِيه عن علم ذلك القاعد، ويريه إيّاه في سلوكه عيانًا.
وأمّا أن يُغنيه صدق إرادته عن علم الحلال والحرام، وأحكامِ الأمر
(1)
بعدها في ش، د:«يقول» .
(2)
«الرسالة القشيرية» (ص 469).
(3)
المصدر نفسه (ص 468).
(4)
«حتى» ليست في ش، د.
(5)
«سلوكه» ليست في ش، د.
والنّهي، ومعرفة العبادات وشروطها وواجباتها ومبطلاتها، وعن علم أحكام الله ورسوله على ظاهره وباطنه= فقد أعاذ الله مَن هو دون الجنيد من ذلك، فضلًا عن سيِّد الطّائفة وإمامها، وإنّما يقول ذلك قُطّاع الطّريق، وزنادقة الصُّوفيّة وملاحدتُهم، الذين لا يرون اتِّباع الرّسول شرطًا في الطّريق.
وأيضًا فإنّ المريد الصّادق يفتح الله على قلبه، ويُنوِّره بنورٍ من عنده، مضافٍ إلى ما معه من نور العلم، يعرف به كثيرًا من أمر دينه، فيستغني به عن كثيرٍ من علم النّاس. فإنّ العلم نورٌ، وقلبُ الصّادق
(1)
ممتلئٌ بنور الصِّدق، ومعه نور الإيمان، والنُّور يهدي إلى النُّور. والجنيد رحمه الله أخبر بهذا عن حاله، وهذا أمرٌ جزئيٌّ ليس على عمومه، بل صدقُه يُغنيه عن كثيرٍ من العلم. وأمّا عن جملة العلم: فكلام أبي القاسم الثّابت عنه في ضرورة الصّادق إلى العلم، وأنّه لا يُفلح من لم يكن له علمٌ، وأنّ طريق القوم مقيّدةٌ بالعلم، وأنّه لا يحلُّ لأحدٍ أن يتكلّم في الطّريق إلّا بالعلم
(2)
= مشهورٌ
(3)
معروفٌ قد ذكرنا فيما مضى طرفًا منه، كقوله: من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر، لأنّ علمنا مقيّدٌ بالكتاب والسُّنّة
(4)
.
وأيضًا فإنّ علم العلماء الذين أشار إليهم هو ما فهموه واستنبطوه من القرآن والسُّنّة. والمريد الصّادق هو الذي قرأ القرآن وحفظ السُّنّة، والله يرزقه ببركة صدقه ونور قلبه فهمًا في كتابه وسنّة رسوله يُغنيه عن تقليد فهمِ غيره.
(1)
ل: «صادق» .
(2)
ل: «بعلم» .
(3)
خبر لـ «كلام» .
(4)
«الرسالة القشيرية» (ص 155). ورواه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 255).
وأمّا قوله: إذا أراد الله بالمريد خيرًا أوقعَه على الصُّوفيّة، ومنعَه صحبةَ القُرّاء.
فالقرّاء في لسانهم: هم أهل التّنسُّك والتّعبُّد، سواءٌ كانوا يقرؤون القرآن أم لا، فالقارئ عندهم هو الكثير التّعبد والتّنسُّك، الذي قد قصرَ همّتَه على ظاهر العبادة، دونَ أرواح المعارف وذوق حقائق الإيمان وروح
(1)
المحبّة وأعمال القلوب، فهِمَمُهم كلُّها إلى العبادة، ولا خبر
(2)
عندهم ممّا عند أهل التّصوُّف وأرباب القلوب وأهل المعارف. ولهذا قال من قال: طريقنا تَفَتٍّ لا تَقَرٍّ
(3)
.
فسَيرُ هؤلاء بالقلوب والأرواح، وسيرُ أولئك مجرّد الأشباح والقوالب، وبين أرواح هؤلاء وقلوبهم وأرواح هؤلاء وقلوبهم
(4)
: نوعُ تناكرٍ وتنافرٍ، ولا يقدر أحدهم على صحبة
(5)
النّوع الآخر إلّا على نوع إغضاءٍ وتحميلٍ للطّبيعة ما تأباه. وهو من جنس ما بينهم وبين ظاهريّة الفقهاء من التّنافر، ويسمُّونهم أصحاب الرُّسوم، ويسمُّون أولئك القرّاء. والطّائفتان عندهم أهل ظواهرٍ، لا
(1)
د: «ورفع» .
(2)
ل: «خير» .
(3)
لم أجد هذا القول فيما بين يديّ من المصادر. و «تَفَتٍّ» مصدر تَفَتَّى أي اتخذ سبيل الفتوة، و «تَقَرٍّ» مصدر تَقَرَّأ أي تنسَّك وتفقَّه، وأصله تقرُّؤٌ، حصل فيه ما حصل في تَوَضِّي وتَجزِّي، وأصلهما: تَوضُّؤ وتَجزُّؤ.
(4)
«وأرواح هؤلاء وقلوبهم» ليست في ش، د.
(5)
د: «صحته» .
أرباب حقائق. هؤلاء مع رسوم العلم، وهؤلاء مع رسوم
(1)
العبادة.
ثمّ إنّهم في أنفسهم فريقان: صوفيّةٌ وفقراء، وهم متنازعون في ترجيح الصوفيّ على الفقير أو بالعكس أو هما سواءٌ، على ثلاثة أقوالٍ:
فطائفةٌ رجّحت الصُّوفيّ، منهم كثيرٌ من أهل العراق. على هذا صاحب «العوارف»
(2)
، وجعلوا نهايةَ الفقير بداية الصُّوفيِّ
(3)
.
وطائفةٌ رجّحت الفقير، وجعلوا الفقر لُبَّ
(4)
التّصوُّف وثمرته. وهم كثيرٌ من أهل خراسان.
وطائفةٌ ثالثةٌ قالوا: الفقر والتّصوُّف شيءٌ واحدٌ. وهؤلاء هم أهل الشّام.
ولا يستقيم الحكم بين هؤلاء حتّى يتبيّن حقيقة الفقر والتّصوُّف، وحينئذٍ يُعلَم هل هما حقيقةٌ واحدةٌ أو حقيقتان؟ ويُعلَم راجحهما من مرجوحهما.
وسترى ذلك مبيّنًا إن شاء الله في منزلتي «الفقر والتّصوُّف» إذا
(5)
انتهينا إليهما، إن ساعدَ الله ومنَّ بفضله وتوفيقه. فلا حول ولا قوّة إلّا بالله، وبه
(6)
(1)
«العلم
…
مع رسوم» ساقطة من ش، د.
(2)
أي شهاب الدين السهروردي صاحب «عوارف المعارف» .
(3)
قال في «عوارف المعارف» (ص 63): الفقر أساس التصوف، وبه قوامه، على معنى أن الوصول إلى رتب التصوف طريقه الفقر.
(4)
ل: «أب» ، تحريف.
(5)
ل: «إن» .
(6)
ل: «والله» .
المستعان، وعليه التُّكلان، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
والمقصود: أنّ المراتب عندهم ثلاثةٌ:
مرتبة التّقوى، وهي مرتبة التّعبد
(1)
والتّنسُّك.
ومرتّبة التّصوُّف، وهي مرتبة التّفتِّي بكلِّ خلقٍ حسنٍ، والخروجِ من كلِّ ذميمٍ.
ومرتبة الفقر، وهي مرتبة التّجرُّد، وقطعِ كلُّ علاقةٍ تحول بين القلب وبين الله تعالى.
فهذه مراتب طلّاب الآخرة. ومَن عداهم فمع القاعدين المتخلِّفين.
فأشار أبو القاسم الجنيد رحمه الله أنّ المريد لله
(2)
بصدقٍ إذا أراد الله به خيرًا: أوقعه على طائفة الصُّوفيّة، يُهذِّبون أخلاقه، ويدلُّونه على تزكية نفسه، وإزالة أخلاقها الذّميمة، والاستبدالِ بالأخلاق الحميدة، ويُعرِّفونه منازلَ الطّريق ومَحاراتها
(3)
، وقواطعها وآفاتها.
وأمّا القُرّاء فيدقُّونه بالعبادة من الصّوم والصّلاة دَقًّا، ولا يُذِيقونه شيئًا من حلاوة أعمال القلوب وتهذيب النُّفوس، إذ ليس ذلك طريقتهم. ولهذا بينهم وبين أرباب التّصوُّف نوعُ تنافرٍ، كما تقدّم.
والبصير الصّادق يضرب في كلِّ غنيمةٍ بسهمٍ، ويعاشر كلَّ طائفةٍ على
(1)
ل: «العبادة التعبد» .
(2)
«لله» ليست في ل.
(3)
ش، د:«ومجاراتها» . والمحارات بمعنى متاهات الطرق.
أحسنِ ما معها، ولا يتحيَّزُ إلى طائفةٍ وينأى عن أخرى بالكلِّيّة: إلّا أن لا
(1)
يكون معها شيءٌ من الحقِّ. فهذه طريقة الصّادقين. ودعوى الجاهليّة كامنةٌ في النُّفوس.
ولا أَعنِي بذلك أصغرِيهم
…
ولكنِّي أريدُ به الذَّوِينا
(2)
سمع النّبيُّ صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته قائلًا يقول: يا للمهاجرين! وآخر يقول: يا للأنصار! فقال: «ما بالُ دعوى الجاهليّة وأنا بين أظهُرِكم؟»
(3)
.
هذا، وهما اسمان شريفان، سمّاهم الله بهما في كتابه، فنهاهم عن ذلك، وأرشدَهم إلى أن يتداعَوا بالمسلمين والمؤمنين عبادِ الله، وهي الدّعوى الجامعة، بخلاف الدعوى المفرِّقة كالفلانيّة والفلانيّة
(4)
، فالله المستعان
(5)
.
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ: «إنّك امرؤٌ فيك جاهليّةٌ» . فقال: على كبرِ السِّنِّ منِّي يا رسول الله؟ قال: «نعم»
(6)
.
(1)
«لا» ليست في ل.
(2)
البيت للكميت من قصيدته النونية المشهورة في «ديوانه» (ص 109)، وانظر:«الصحاح» ، و «لسان العرب» (ذو)، و «الكتاب» لسيبويه (2/ 43)، و «خزانة الأدب» (1/ 67، 2/ 284).
(3)
أخرجه البخاري (3518، 4905) ومسلم (2584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وليس عندهما «وأنا بين أظهركم» .
(4)
«والفلانية» ليست في ش، د.
(5)
«فالله المستعان» ليست في د.
(6)
أخرجه البخاري (6050) ومسلم (1661) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
فمَنْ يأمنُ القُرّاءَ بعدَك يا شَهْرُ؟
(1)
ولا يذوق العبد حلاوةَ الإيمان وطعْمَ الصِّدق واليقين، حتّى تخرج الجاهليّة كلُّها من قلبه. ووالله لو تحقَّق النّاس في هذا الزّمان ذلك من قلب رجلٍ واحدٍ
(2)
لرَمَوه عن قوسٍ واحدةٍ، وقالوا: هذا مبتدعٌ، ومن دعاة البدع. فإلى الله المشتكى، وهو المسؤول الصّبر والثّبات، فلا بدَّ من لقائه، {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
فصل
قال صاحب «المنازل» رحمه الله
(3)
: (باب الإرادة: قال الله تعالى: {يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ} [الإسراء: 84]).
في تصديره البابَ بهذه الآية دلالةٌ على عِظَم قدرِه، وجلالةِ محلِّه من هذا
(1)
صدره:
لقد باعَ شهرٌ دينَه بخريطةٍ
والبيت مع آخر للقُطامي الكلبي أو سِنان بن مكمل النميري في «تاريخ الطبري» (6/ 538، 539)، وبلا نسبة في «البيان والتبيين» (4/ 82)، و «المعارف» (ص 448)، و «ثمار القلوب» (ص 169) وغيرها. وقد كان شهر بن حوشب على بيت المال، فأخذ خريطةً فيها دراهم، فقال الشاعر فيه ذلك. قال الذهبي في «السير» (4/ 375): إسنادها منقطع، ولعلها وقعت وتاب منها، أو أخذها متأوّلًا أنّ له في بيت مال المسلمين حقًّا، نسأل الله الصفح.
(2)
«واحد» ليست في ش، د.
(3)
(ص 52).
العلم، فإنّ معنى الآية: كلٌّ يعمل على ما يشاكله ويناسبه ويليق به. فالفاجر يعمل على ما يليق به، وكذلك الكافر والمنافق، ومريد الدُّنيا وجِيفَتِها
(1)
عاملٌ على ما يناسبه، ولا يليق به سواه، ومحبُّ الصُّور عاملٌ على ما يناسبه ويليق به.
فكلُّ امرئٍ يَهْفُو إلى من
(2)
يُحِبُّه
…
وكلُّ امرئٍ يَصْبو إلى من يُناسِبُه
(3)
فالمريد الصّادق المحبُّ لله يعمل ما هو اللّائق به والمناسب له، فهو يعمل على شاكلة إرادته، وما هو الأليقُ به
(4)
والأنسبُ لها.
قال
(5)
: (الإرادة من قوانين هذا العلم وجوامعِ أبنيتِه، وهي الإجابة لدواعي الحقيقة، طوعًا أو كَرْهًا).
يريد: أنّ هذا العلم مبنيٌّ على الإرادة، فهي أساسه ومجمعُ بنائه، وهو مشتملٌ على تفاصيل أحكام الإرادة، وهي حركة القلب، ولهذا سمِّي علم الباطن. كما أنّ علم الفقه يشتمل على تفاصيل أحكام الجوارح، ولهذا سمَّوه علم الظّاهر. فهاتان حركتان اختياريّتان. وللعبد حركةٌ طبيعيّةٌ اضطراريّةٌ، فالعلم المشتمل على تفاصيلها وأحكامها هو علم الطِّبِّ. فهذه العلوم الثّلاثة هي الكفيلة بمعرفة حركات
(6)
النّفس والقلب، وحركات اللِّسان والجوارح،
(1)
ل: «وجيفها» .
(2)
ل: «ما» .
(3)
البيت بلا نسبة في «بدائع الفوائد» (2/ 673).
(4)
ل: «اللائق» .
(5)
«المنازل» (ص 52).
(6)
«حركات» ليست في ل.
وحركات الطّبيعة.
فالطّبيب ينظر في تلك الحركات من جهة تأثُّرِ البدن عنها صحّةً واعتلالًا، وفي لوازم ذلك ومتعلِّقاته.
والفقيه ينظر في تلك الحركات من جهة موافقتها لأمر الشّرع ونهيه، وإذنه وكراهته، ومتعلِّقات ذلك.
والصُّوفيُّ ينظر في تلك الحركات من جهة كونها مُوصِلةً له إلى مراده أو قاطعةً عنه، ومُفسِدةً لقلبه أو مصحِّحةً له.
وأمّا قوله: (وهي الإجابة لداعي الحقيقة)، فالإجابة هي الانقياد والإذعان. والحقيقة عندهم: مشاهدة الرُّبوبيّة. والشّريعة: التزام العبوديّة. فالشّريعة أن تعبدَه، والحقيقة أن تشهدَه، فالشّريعة
(1)
قيامُك بأمره، والحقيقة شهودُك لوصفه، وداعي الحقيقة هو صحّة المعرفة، فإنّ من عرفَ الله أحبّه ولا بدَّ.
ولا بدّ في هذه الإجابة من ثلاثة أشياء: نفسٌ مستعدّةٌ قابلةٌ لا تُعْوِز
(2)
إلّا الدّاعيَ، ودعوةً مُسمِعةً، وتخليةَ الطّريق من المانع. فما انقطع من انقطع إلّا من جهةٍ من هذه الجهات الثّلاث.
وقوله: (طوعًا أو كرهًا)، يشير إلى المجذوب المختطَف من نفسه، والسّالك إرادةً واختيارًا ومجاهدةً.
(1)
«أن تعبده
…
فالشريعة» ساقطة من ش، د.
(2)
ش، د:«يعوذ» . ولا تعوز أي لا تحتاج.
قال
(1)
: (وهي على ثلاث درجاتٍ، الدّرجة الأولى: ذهابٌ عن العادات بصحبة العلم، والتّعلُّقُ بأنفاس السّالكين مع صدق القصد، وخَلْعُ كلِّ شاغلٍ من الإخوان ومُشتِّتٍ من الأوطان).
هذا
(2)
يوافق مَن حدَّ الإرادة بأنّها مخالفة العادة، وهي ترك عوائدِ النّفس وشهواتها، ورعوناتِها وبطالاتها. ولا يمكن ذلك إلّا بهذه الأشياء التي أشار إليها، وهي: صحبة العلم ومعانقته، فإنّه
(3)
النُّور الذي يُعرِّف العبدَ مواقعَ ما ينبغي إيثار طلبِه، وما ينبغي إيثار تركِه. فمن لم يصحَبْه العلم لم تصِحَّ له إرادةٌ باتِّفاق كلمة الصّادقين، ولا عِبرةَ بقُطَّاع الطّريق.
وقال بعضهم: متى رأيت الصُّوفيّ والفقير يقدَحُ في العلم فاتَّهِمْه على الإسلام.
ومنها: التّعلُّق بأنفاس السّالكين. ولا ريبَ أنّ كلّ من تعلّق بأنفاس قومٍ انخرط في سِلْكهم ودخل في جُملتهم.
وقال: (أنفاس السّالكين)، ولم يقل: أنفاس العابدين، فإنّ العابدين شأنهم القيامُ بالأعمال، وشأنُ السّالكين مراعاة الأحوال.
وقوله: (مع صدق القصد).
صدقُ القصد يكون بأمرين. أحدهما: توحيده. والثّاني: توحيد المقصود. فلا يقع
(4)
في قصدِك قسمةٌ ولا في مقصودِك.
(1)
«المنازل» (ص 52).
(2)
د: «هذه» .
(3)
ل: «فأين» .
(4)
ش، د:«نفع» .
وقوله: (وخَلْعُ كلِّ شاغلٍ من الإخوان ومُشتِّتٍ من الأوطان).
يشير إلى ترك الموانع والقواطع العائقة
(1)
عن السُّلوك: من صحبة الأغيار، والتّعلُّق بالأوطان التي أَلِفَ فيها البطالةَ والنَّذالة. فليس على المريد الصّادق أضرُّ من عُشَرائه
(2)
ووطنه، القاطعين له عن سيره إلى الله تعالى، فلْيتغرَّب عنهم بجهده.
فصل
قال
(3)
: (الدّرجة الثّانية: تقطُّعٌ بصحبة الحال، وترويحِ الأُنس، والسّيرِ بين القبض والبسط).
أي ينقطع إلى صحبة الحال، وهو الوارد الذي يرِد على القلب من تأثُّره بالمعاملة، السّالب لوصف الكسل والفتور، الجاذب له إلى مرافقة الرّفيق
(4)
الأعلى الذين أنعمَ الله عليهم. فينتقل من مقام العلم إلى مقام الكشف، ومن مقام رسوم الأعمال إلى مقام حقائقها
(5)
وأذواقِها ومواجيدِها وأحوالِها، فيترقّى من الإسلام إلى الإيمان، ومن الإيمان إلى الإحسان.
وأمّا ترويح الأنس الذي أشار إليه: فإنّ السّالك في أوّل الأمر يجد تعبَ التكليف ومشقّةَ العمل، لعدم أُنسِ قلبه بمعبوده. فإذا حصل للقلب روح
(6)
(1)
«العائقة» ليست في ش، د.
(2)
ل: «عشائره» .
(3)
«المنازل» (ص 52).
(4)
«الرفيق» ليست في ش، د.
(5)
ش، د:«حقائقه» .
(6)
ش، د:«تروح» .
الأنس به زالتْ عنه تلك التّكاليف والمشاقُّ، وصارتْ قرّةَ عينٍ له وقوّةً ولذّةً. فتصير الصّلاة قرّةَ عينه، بعدَ أن كانتْ حِمْلًا عليه، ويستريح بها بعدَ أن كان يطلب الرّاحة منها. فله ميراثٌ من قوله
(1)
: «أَرِحْنا بالصّلاة يا بِلالُ»
(2)
و «جُعِلتْ قرّةُ عيني في الصّلاة»
(3)
بحسب إرادته ومحبّته، وأنسِه بالله ووحْشَتِه ممّا سواه.
وأمّا السّير بين القبض والبسط، فالقبض والبسط حالتان تعرضان لكلِّ سالكٍ، يتولّدانِ من الخوف والرّجاء تارةً، فيقبضه الخوف، ويبسطه الرّجاء.
ويتولّدان من الوفاء والجفاء تارةً، فوفاؤه يُورِثه البسط، وجفاؤه يُورِثه القبض.
ويتولّدان من التّفرقة والجمعيّة تارةً، فتفرقتُه تُورِثه القبضَ، وجمعيَّتُه تُورِثه البسطَ.
ويتولّدان من أحكام الوارد تارةً، فواردٌ يُورِث قبضًا، وواردٌ يُورِث بسطًا.
وقد يهجُم على قلب السّالك قبضٌ لا يدري ما سببه، وبَسْطٌ لا يدري ما سببه. وحكمُ صاحبِ هذا القبض أمران:
(1)
«قوله» ليست في ش، د.
(2)
أخرجه أحمد (23088)، وأبو داود (4985) من حديث رجل من الصحابة لم يُسَمَّ، وإسناده صحيح. وللحديث طرق أخرى معلولة، انظر:«علل الدارقطني» (4/ 120 - 122).
(3)
أخرجه أحمد (12293، 12294)، والنسائي (3940) وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 160)، وقال الذهبي في «الميزان» (2/ 177): إسناده قوي. وحسَّنه الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (3/ 133، 134).
التّوبة والاستغفار، لأنّ ذلك القبض نتيجة جِنايةٍ أو جَفْوةٍ لا يَشعُر بها.
والثّاني: الاستسلام، حتّى يمضي عنه ذلك الوقت، ولا يتكلّف دفعَه، ولا يستقبل وقته مغالبةً وقهرًا، ولا يطلب طلوعَ الفجر في وسط اللّيل، وليرقُدْ حتّى يمضيَ عامّة اللّيل، ويحينَ طلوعُ الفجر وانقشاعُ ظلمةِ اللّيل. بل يصبر حتّى يهجُم عليه الوقت، ويزول القبضُ، فالله يقبض ويبسط.
وكذلك إذا هجم عليه واردُ البسط: فليحذَرْ كلَّ الحذر من الحركة والاهتزاز، ولْيُحرِزْه بالسُّكون والانكماش والاستقرار وتلقِّيه بالثبات، فإنَّ في هذا الوقت عليه خطرًا عظيمًا، فليحذَرْ مكرًا خفيًّا. فالعاقل يقف على البساط، ويحذَر من الانبساط، وهذا شأن عقلاء أهل الدُّنيا ورؤسائهم: إذا ما ورد عليهم ما يَسُرُّهم ويُبسِّطهم ويُهيِّج أفراحَهم قابلُوه بالسُّكون والثّبات والاستقرار، حتّى كأنّه لم يهجم عليه
(1)
. وقال كعب بن زهيرٍ في مدح الأنصار
(2)
:
ليسوا مَفاريحَ إن نالتْ رماحهُمُ
…
قومًا وليسُوا مَجازيعًا إذا نِيلُوا
(3)
قال
(4)
: (الدّرجة الثّالثة: ذهولٌ مع صحبةِ الاستقامة، وملازمةُ الرِّعاية على تهذيبِ الأدب).
(1)
كذا في الأصول بدل «عليهم» .
(2)
كذا في النسخ. وغيَّره في المطبوع إلى «المهاجرين» . والبيت في مدح المهاجرين، وله قصيدة رائية أخرى في مدح الأنصار.
(3)
من قصيدته «بانت سعاد» في «ديوانه» (ص 25). ومفاريح: جمع مِفراح، ومجازيع: جمع مِجْزاع، صيغة مبالغة من الفرح والجزع.
(4)
«المنازل» (ص 52).
الذُّهول هاهنا: هو الغَيبة في المشاهدة بالحال الغالب، المُذْهِل لصاحبه عن التفاتِه إلى غيره. وهذا إنّما ينفع إذا كان مصحوبًا بالاستقامة
(1)
، وهي حفظ حدود العلم، والوقوف معها، وعدم إضاعتها. وإلّا فأحسنُ أحوال هذا الذّاهل: أن يكون كالمجنون الذي رُفِع عنه القلم، فلا يُقتَدى به، ولا يُعاقَب على تركِه الاستقامةَ.
وأمّا إن كان سببُ الذُّهول المُخرِج عن الاستقامة باستدعائه وتكلُّفِه وإرادته: فهو عاصٍ مُفرِّطٌ، مُضيِّعٌ لأمر الله، له حكمُ أمثالِه من المفرِّطين.
وكان شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى وقدَّس روحَه يقول: متى كان السّبب محظورًا لم يكن السّكرانُ معذورًا.
وقوله: (وملازمة الرِّعاية على تهذيبِ الأدب).
يريد به: ملازمةَ رعايةِ حقوق الله مع التّأدُّب بآدابه، فلا يُخرِجه ذهولُه عن استقامته، ولا عن رعايةِ حقوق سيِّده، ولا عن الوقوف بالأدب بين يديه. والله المستعان.
* * * *
(1)
ش، د:«مصحوب الاستقامة» .