الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يأسر قلبه ويجعله رقيقًا ــ أي عبدًا مملوكًا ــ للمنظور إليه
(1)
، لأنه لما شاهد من جماله وكماله فاسترقّ قلبه له، فلم يكن بينه وبين رقِّه له إلّا مجرّدُ وقوعِ لحْظِه عليه
(2)
.
فهكذا صاحب هذه الحال إذا لاحظ بقلبه جلالَ الرُّبوبيّة، وكمالَ الرّبِّ سبحانه، وكمال نعوته، ومواقع لطفه وفضله وبرِّه وإحسانه= استرقّ قلبه له، وصارت له عبوديّةٌ خاصّةٌ.
قال
(3)
: (وهو في هذا الباب على ثلاث درجاتٍ.
الدّرجة الأولى: ملاحظة الفضل سبقًا
. وهي تقطع طريقَ السُّؤال إلّا ما استحقّته الرُّبوبيّة من إظهار التّذلُّل لها، وتُنبِت السُّرور إلّا ما يشوبه من حذر المكر، وتبعث على الشُّكر إلّا ما قام به الحقُّ عز وجل من حقِّ الصِّفة).
الشّيخ عادته في كلِّ بابٍ أن يقول: «وهو على ثلاث درجاتٍ» ، وقال هاهنا:«وهو في هذا الباب على ثلاث درجاتٍ» ، فعيَّن هذا الباب هنا دون غيره من الأبواب، لأنّ
(4)
اللّحظ مشتركٌ بين لَحْظِ البصر ولَحْظ البصيرة، والشّيخ إنّما أراد هذا الثّاني دون الأوّل، فإنّ كلامه فيه خاصّةً.
وهو لمّا صدّر بالآية ــ والأمرُ بالنّظر فيها إنّما توجّه إلى الأمر بنظر العين ــ استدرك كلامه وقال: اللّحظ الذي نشير إليه في هذا الباب ليس هو
(1)
«إليه» ليست في ش، د.
(2)
ت: «إليه» .
(3)
«المنازل» (ص 81).
(4)
ت: «أي» .
لحظ العين. والله أعلم.
قوله: (ملاحظة الفضل سبقًا)، الفضل: هو العطاء الإلهيُّ، والسّبق: هو ما سبق به له التقديرُ
(1)
قبل خروجه إلى الدُّنيا. كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173]. وهذا الكلام يُفسَّر على معنيين، أحدهما: أنّ العبد إذا رأى أنَّ ما قدّره الله له قد سبق به تقديره، وهو واصلٌ إليه لا مَحالةَ، ولا بدَّ أن يناله= سكنَ جَأْشُه، واطمأنَّ قلبه، ووطّن نفسه، وعلم أنّ ما أصابَه لم يكن لِيُخطِئه، وما أخطأه لم يكن لِيُصِيبه
(2)
، وأنّه ما يفتح الله له من رحمةٍ فلا مُمسِكَ لها، وما يُمسِكه عنه فلا مُرسِلَ له من بعده
(3)
. فإذا تيقَّن ذلك وذاق طعمَ الإيمان به قطعَ ذلك عليه طريقَ الطّلب من ربِّه، لأنّ ما سبقَ له به القدرُ كائنٌ واصلٌ إليه لا مَحالة.
ثمّ استدرك الشّيخ أنّ العبد لا بدَّ له من سؤال ربِّه، والطّلب منه، فقال:(إلّا ما استحقَّتْه الرُّبوبيّة من إظهار التّذلُّل لها)، أي لا يعتقد أنّ سؤاله وطلبه يجلب له ما ينفعه، ويدفع عنه ما يحذره، فإنّ القدر السّابق قد استقرّ بوصول
(1)
ر: «سبق له بالتقدير» .
(2)
كما في حديث زيد بن ثابت الذي أخرجه أحمد (21589)، وأبو داود (4699)، وابن حبان (727). وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي (2144)، وعن أبي الدرداء في «زوائد المسند» (27490).
(3)
كما في سورة فاطر: 2: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} .
المقدور إليه، سأله أو لم يسأله. ولكن يكون سؤاله على وجه التّذلُّل، وإظهارِ فقْرِ العبوديّة وذلِّها بين يدي عزِّ الرُّبوبيّة، فإنّ الرّبّ تعالى يحبُّ من عبده أن يسأله ويرغب إليه، لا لأنّ وصول برِّه وإحسانه إليه موقوفٌ على سؤاله، بل هو المتفضِّلُ به ابتداءً بلا سببٍ من العبد، ولا توسُّطِ سؤاله وطلبِه. بل قدَّر له ذلك الفضل بلا سببٍ من العبد، ثمّ أمرَه بسؤاله والطّلب منه، إظهارًا لمرتبة العبوديّة والفقر والحاجة، واعترافًا بعزِّ الرُّبوبيّة وكمالِ غنى الرّبِّ وتفرُّدِه بالفضل والإحسان، وأنّ العبد لا غِنى له عن فضله طرفةَ عينٍ، فيأتي بالطّلب والسُّؤال إتيانَ من يعلم أنّه لا يستحقُّ بطلبه وسؤاله شيئًا.
ولكنّ ربّه تعالى يحبُّ أن يُسأل، ويُرغب إليه، ويُطلب منه. كما قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. وقال: {(185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ} [البقرة: 186]. وقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، وقال:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]. وقال: {رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ} [الأعراف: 55]. وقال: {خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ} [الأعراف: 56].
وقال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ليسألْ أحدُكم ربَّه كلَّ شيءٍ، حتّى شِسْعَ نعلِه إذا انقطع، فإنّه إن لم يُيسِّره لم يتيسَّر»
(1)
.
(1)
أخرجه الترمذي (3612)، وابن حبان (866، 894، 895)، والطبراني في «الدعاء» (25) وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث غريب، وروى غير واحد هذا الحديث عن جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكروا فيه عن أنس. وضعَّفه الألباني في «السلسلة الضعيفة» (1362).
وقال: «من لم يَسألِ الله يغضَبْ عليه»
(1)
.
وقال: «سَلُوا الله من فضله، فإنّ الله يحبُّ أن يُسأل. وما سُئِل الله شيئًا أحبّ إليه من العافية»
(2)
.
وقال: «إنّ لربِّكم في أيّام دهرِه
(3)
نَفَحاتٍ، فتعرَّضُوا لنفحاتِه، وسَلُوا الله أن يَستُر عوراتِكم، ويُؤمن رَوعاتِكم»
(4)
.
وقال: «ما من داعٍ يدعو الله بدعوةٍ إلّا آتاه بها إحدى ثلاثٍ: إمّا أن يُعجِّل له حاجتَه، وإمّا أن يُعطِيه من الخير مثلَها، وإمّا أن يَصرِف عنه من الشّرِّ مثلَها» . قالوا: إذًا نُكثِر يا رسول الله؟ قال: «فالله أكثر»
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد (9701)، والترمذي (3373)، وابن ماجه (3827) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي إسناده أبو صالح الخوزي ضعيف.
(2)
رواه الترمذي (3571) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال:«هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث، وحماد ليس بالحافظ. وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح» . وحكيم بن جبير ضعيف جدًّا. والشطر الأخير ليس ضمن هذا الحديث، بل رواه الترمذي (3548) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: هذا حديث غريب من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو ضعيف في الحديث، قد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه.
(3)
ر: «دهركم» .
(4)
أخرجه الطبراني في «الكبير» (720)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 162)، والبيهقي في «الشعب» (1121) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وله شاهد من حديث أبي هريرة ومحمد بن سلمة رضي الله عنهما. وحسَّنه الألباني بمجموع طرقه وشواهده في «السلسلة الصحيحة» (1890).
(5)
أخرجه أبو يعلى (1019) من حديث أبي سعيد الخدري، وإسناده جيد. وله شاهد من حديث عبادة بن الصامت عند الطبراني في «الأوسط» (147) وغيره.
وقال: «ليس شيءٌ أكرم على الله من الدُّعاء»
(1)
.
وقال تعالى فيما رواه رسوله صلى الله عليه وسلم: «يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلّا من أطعمتُه، فاستطعِموني أُطعِمْكم. يا عبادي، كلُّكم عارٍ إلّا من كسوتُه، فاستكسوني أَكْسُكم. يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلّا من هديتُه، فاستهدوني أَهدِكم. يا عبادي، إنّكم تخطئون باللّيل والنّهار، وأنا أغفر الذُّنوب جميعًا ولا أبالي، فاستغفروني أَغفِرْ لكم»
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «وأمّا السُّجود فاجتهدوا في الدُّعاء، فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم»
(3)
.
وقال عمر بن الخطّاب: إنِّي لا أحمِلُ همَّ الإجابة، ولكن همَّ الدُّعاء، فإذا أُلهِمتُ الدُّعاءَ علمتُ أنّ الإجابة معه
(4)
.
وفي هذا يقول القائل
(5)
:
لو لم تُرِدْ نيلَ
(6)
ما أرجو وآمُلُه
…
من جُودِ كفِّك ما عوَّدتَني الطَّلبا
(1)
أخرجه أحمد (8748)، والبخاري في «الأدب المفرد» (712)، والترمذي (3370)، وابن ماجه (3829) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (870)، والحاكم (1/ 490). وهو حديث حسن.
(2)
أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (479) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
لم أجده مسندًا. وقد ذكره شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (8/ 193)، و «اقتضاء الصراط» (2/ 229)، والمؤلف في «الداء والدواء» (ص 29).
(5)
ذكره المؤلف في «عدة الصابرين» (ص 109). ولم أجده في مصدر آخر.
(6)
ر: «بذل» .
والله سبحانه يُحِبُّ تذلُّلَ عبيده بين يديه، وسؤالَهم إيّاه، وطلَبهم حوائجهم منه، وشكواهم منه إليه، وعياذَهم به منه، وفرارَهم منه إليه. كما قيل
(1)
:
قالوا أتشكو إليه
…
ما ليس
(2)
يَخفى عليه
فقلتُ ربِّيَ يَرضى
…
ذُلَّ العبيدِ لديه
وقال الإمام أحمد رحمه الله
(3)
: حدّثنا عبد الوهّاب عن إسحاق عن مُطرِّف قال: تذكَّرتُ ما جماع الخير؟ فإذا الخير كثيرٌ: الصِّيام والصّلاة، وإذا هو في يد الله تعالى. وإذا أنت لا تَقدِر على ما في يد الله إلّا أن تسألَه فيُعطِيك، فإذًا جماعُ الخير الدُّعاء.
وفي هذا المقام غلِطَ طائفتان من النّاس:
طائفةٌ ظنَّتْ أنّ القدر السّابق يجعل الدُّعاء عديم الفائدة.
قالوا: فإنّ المطلوب إن كان قد قُدِّر فلا بدَّ من وصوله، دعا العبد أو لم يدعُ، وإن لم يُقدَّرْ فلا سبيلَ إلى حصوله، دعا أو لم يدعُ.
ولمّا رأوا الكتاب والسُّنّة والآثار قد تظاهرت بالدُّعاء وفضله، والحثِّ عليه وطلبه، قالوا: هو عبوديّةٌ محضةٌ، لا تأثير له في المطلوب البتّةَ، وإنّما تعبّدنا الله به، وله أن يتعبد عباده بما شاء كيف شاء.
(1)
ذكرهما المؤلف في «عدة الصابرين» (ص 63)، والمنبجي في «تسلية أهل المصائب» (ص 219).
(2)
د: «ما لا» .
(3)
في كتاب «الزهد» (1359) له.
والطّائفة الثّانية: ظنّت أنّ بنفس الدُّعاء والطّلب يُنال المطلوب، وأنّه موجبٌ حصوله
(1)
، حتّى كأنّه سببٌ مستقلٌّ. وربّما انضاف إلى ذلك شهودُها أنّ هذا السّبب منها وبها، وأنها هي التي فعلتْه وأحدثتْه. وإن علمتْ أنّ الله خالق أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم وإراداتهم، فربّما غاب عنها شهودُ كونِ ذلك بالله ومن الله، لا بها ولا منها، وأنّه هو الذي حرَّكَها للدُّعاء، وقذفَه في قلب العبد، وأجراه على لسانه.
فهاتان الطّائفتان غالطتانِ أقبحَ غلطٍ، وهما محجوبتان عن الله.
فالأولى: محجوبةٌ عن رؤية حكمته في الأسباب، ونصْبِها لإقامة العبوديّة، وتعلُّقِ الشّرع والقدر بها. فحجابها كثيفٌ عن معرفة حكمة الله في شرعه وأمره وقدره.
والثّانية: محجوبةٌ عن رؤية منَّته وفضله، وتفرُّدِه بالرُّبوبيّة والتّدبير، وأنّه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنّه لا حولَ للعبد ولا قوّة له ــ بل ولا للعالم أجمعِه ــ إلّا به سبحانه، وأنّه لا يتحرَّك ذرّةٌ إلّا بإذنه ومشيئته.
وقول الطّائفة الأولى: إنّ المطلوب إن قُدِّر لا بدَّ من حصوله، وإن لم يُقدَّر فلا مطمعَ في حصوله.
جوابه أن يقال: بقي قسمٌ ثالثٌ لم تذكروه، وهو أنّه قُدِّر بسببه، فإن وُجِد سببُه وُجِد، وإن لم يوجد سببُه لم يوجد.
ومن أسباب المطلوب: الدُّعاء والطّلب الذي إذا وُجِد وُجِد ما رتِّب
(1)
ت: «يوجب حصوله» .
عليه
(1)
، كما أنّ من أسباب الولد: الجماع، ومن أسباب الزّرع: البذر، ونحو ذلك. وهذا القسم الثّالث هو الحقُّ.
ويقال للطّائفة الثّانية: لا موجبَ إلّا
(2)
مشيئة الله، وليس هاهنا سببٌ مستقلٌّ غيرها. فهو الذي جعل السّببَ سببًا، وهو الذي رَتَّبَ عليه حصولَ المسبَّب. ولو شاء لأوجدَه بغير ذلك السّبب، وإذا شاء منعَ سببيّةَ السّبب وقطعَه عن
(3)
اقتضاءِ أثره، وإذا شاء أقام له مانعًا يمنعه عن اقتضاء أثره مع بقاء قوّته فيه، وإن شاء رتّب عليه ضدَّ مقتضاه وموجبه. فالأسباب طَوع مشيئته وقدرته، وتحت تصريفه
(4)
وتدبيره، يقلِّبها كيف يشاء. فهذا أحد المعنيين في كلامه.
والمعنى الثّاني: أنّ من لاحظَ بعين قلبه ما سبق له من ربِّه من جزيل الفضل والإحسان والبرِّ، من غير معاوضةٍ ولا سببٍ من العبد أصلًا، فإنّه سبقتْ له تلك السّابقة وهو في العدم لم يكن شيئًا البتّةَ= شغلتْه تلك الملاحظة بطلب الله ومحبّته وإرادته عن الطّلب منه، وقطعتْ عليه طريقَ السُّؤال، اشتغالًا بذكره وشكرِه ومطالعةِ منَّتِه عن مسألته. لا لأنّ
(5)
مسألته والطّلب منه نقصٌ، بل لأنّه في هذه الحال لا يتّسع للأمرين، بل استغراقُه في شهود المنّة وسبْقِ الفضل قطعَ عليه طريقَ الطّلب والسُّؤال. وهذا لا يكون
(1)
ر: «عليهما» .
(2)
ش: «منة» .
(3)
ر: «وقطع عنه» .
(4)
ر: «تصرفه» .
(5)
ت: «لا أن» .
مقامًا لازمًا له لا يُفارقه، بل هذا حكمه في هذه الحال. والله أعلم.
فصل
قوله: (ويُنبِت السُّرورَ، إلّا ما يَشوبُه من حذر المكر).
يعني: أنّ هذا اللّحظ من العبد يُنبِت له السُّرور، إذا علم أنّ فضل ربِّه قد سبق له بذلك قبل أن يخلقه، مع علمه به وبأحواله وتقصيره على التّفصيل، ولم يمنعه علمُه به أن يقدِّر له ذلك الفضل والإحسان. وهو
(1)
أعلمُ به إذ أنشأه من الأرض، وإذ هو جنينٌ في بطن أمِّه، ومع ذلك فقدَّر له من الفضل والجود ما قدَّره بدون سببٍ منه، بل مع علمه بأنّه يأتي من الأسباب بما يقتضي قطْعَ ذلك ومنعه عنه
(2)
.
فإذا شاهد العبد ذلك اشتدَّ سرورُه بربِّه، وبمواقع فضله وإحسانه. وهذا فرحٌ محمودٌ غير مذمومٍ. قال تعالى:{(57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا} [يونس: 58]. ففضله: الإسلام والإيمان، ورحمته: العلم والقرآن. وهو يحبُّ من عبده أن يفرح بذلك ويُسَرَّ به، بل يحبُّ من عبده أن يفرحَ بالحسنة إذا عمِلَها ويُسَرَّ بها. وهو في الحقيقة فرحٌ بفضل الله، حيث وفَّقه لها وأعانه عليها ويسَّرها له. ففي الحقيقة إنّما يفرح بفضل الله ورحمته.
ومن أعظم مقامات الإيمان: الفرحُ بالله والسُّرور به، فيفرح به إذ هو عبده ومحبُّه، ويفرح به سبحانه ربًّا وإلهًا ومُنعِمًا ومربِّيًا، أشدَّ من فرح العبد
(1)
ت، ر:«فهو» .
(2)
ت، ر:«منه» .
بسيِّده المخلوق المشفق عليه، القادر على ما يريده العبد، المتبوع في الإحسان إليه والذّبِّ عنه.
وسيأتي عن قريبٍ ــ إن شاء الله ــ تمامُ هذا المعنى في باب السُّرور.
وقوله: (إلّا ما يَشوبُه من حذر المكر)، أي يمازجه. فإنّ السُّرور والفرح يبسط النّفسَ ويُلهِيها
(1)
، ويُنسِيها عيوبَها وآفاتِها ونقائصَها، إذ لو شهدتْ ذلك وأبصرتْه لشَغَلَها ذلك
(2)
عن الفرح.
وأيضًا فإنّ الفرح بالنِّعمة قد يُنسِيه المنعِمَ، ويشتغل بالخلعة التي خلعها عليه عنه، فيطفح عليه السُّرور حتّى يغيب بنعمته عنه. وهنا يكون المكر إليه أقربَ من اليد للفم.
ولله كم هاهنا من مستردٍّ منه ما وهب له غيرةً
(3)
وحكمةً! وربّما كان ذلك رحمةً به، إذ لو استمرّ على تلك الولاية لخيفَ عليه من الطُّغيان. كما قال تعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَأَىهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]. فإذا كان هذا غنًى بالحُطام الفاني، فكيف بالغنى بما هو أعلى من ذلك وأكبر
(4)
؟ فصاحب هذا المقام إن لم يصحبه حذَرُ المكر خِيفَ عليه أن يسلبه وينحطّ عنه.
و (المكر) الذي يُخاف عليه منه: أن يُغيِّب الله سبحانه عنه شهودَ أوّليّته
في ذلك ومنّته وفضله، وأنّه محضُ منَّتِه عليه، وأنّه به وحدَه ومنه وحده. فيغيب عن شهود حقيقة قوله:{بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ} [النحل: 53]، وقوله:{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]، وقوله:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]، وقوله:{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86]، وقوله:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]، وأمثال ذلك.
فيُغيِّبه عن شهود ذلك، ويُحِيله على معرفته وكسبه
(1)
وطلبه، فيُحِيله على نفسه التي لها الفقر بالذّات، ويحجبه عن الحوالة على المليء الوفيِّ الذي له الغنى التّامُّ كلُّه بالذّات. فهذا من أعظم أسباب المكر، والله المستعان.
ولو بلغ العبد من الطّاعة ما بلغَ فلا ينبغي له أن يُفارقه هذا الحذر، وقد خافه خيارُ خلقه وصفوتُه من عباده. قال شعيبٌ صلى الله عليه وسلم وقد قال له قومه:{لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 88 - 89]. فردّ الأمر إلى مشيئة الله وعلمه، أدبًا مع الله، ومعرفةً بحقِّ الرُّبوبيّة، ووقوفًا مع حدِّ العبوديّة.
(1)
ت: «حبه» .
وكذلك قال إبراهيم لقومه، وقد خوّفوه بآلهتهم فقال:{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا} [الأنعام: 80]. فردَّ الأمر إلى مشيئة الله وعلمه.
وقد قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
وقد اختلف السّلف: هل يُكره أن يقول العبد في دعائه: اللهمّ لا تُؤمِنِّي مَكْرَك؟
فكان بعض السّلف يدعو بذلك، ومراده: لا تَخذُلْني حتّى آمَنَ مكْرَك ولا أخافه.
وكرهه مُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير. قال الإمام أحمد
(1)
: حدّثنا عبد الوهّاب عن إسحاق عن مُطرِّفٍ أنّه كان يكره أن يقول: اللهمّ لا تُنسِني ذكْرَك، ولا تُؤمِنِّي مَكْرَك. ولكن أقول
(2)
: اللهمّ لا تُنسِني ذكْرَك، وأعوذ بك أن آمَنَ مكْرَك، حتّى تكون أنت تُؤمِنِّي.
وبالجملة: فمن أُحيلَ على نفسه فقد مُكِرَ به.
قال الإمام أحمد
(3)
: حدّثنا أبو سعيدٍ
(4)
مولى بني هاشمٍ، حدّثنا
(1)
في كتاب «الزهد» له (1362).
(2)
كذا في النسخ. وفي كتاب «الزهد» : «يقول» .
(3)
في «الزهد» (1368). وأخرجه أيضًا ابن المبارك في الزهد (298)، ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 201)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (58/ 308) بنحوه.
(4)
«أبو سعيد» ليست في ش، د. وهي في «الزهد» و ر، ت.