الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و
حقيقة الفقر
وكماله كما قال بعضهم
(1)
، وقد سُئل: متى يستحقُّ الفقير اسم الفقر؟ فقال: إذا لم يبقَ عليه بقيّةٌ منه. فقيل له: وكيف ذاك؟ فقال: إذا كان له فليس له، وإذا لم يكن له فهو له
(2)
.
وهذه من أحسن العبارات عن معنى الفقر الذي يشير إليه القوم. وهو أن يصير كلّه لله، لا يبقى عليه بقيّةٌ من نفسه وحظِّه وهواه. فمتى بقي عليه شيءٌ من أحكام نفسه ففقره مدخولٌ.
ثمّ فسّر ذلك بقوله: إذا كان له فليس له، أي: إذا كان لنفسه فليس لله. وإذا لم يكن لنفسه فهو لله.
فحقيقة الفقر إذًا أن لا تكون لنفسك، ولا يكون
(3)
لها منك شيءٌ، بحيث يكون كلُّك لله. وإذا كنتَ لنفسك فثَمَّ ملكٌ واستغناءٌ منافٍ للفقر.
وهذا الفقر الذي يشيرون إليه لا تُنافيه الجِدَة ولا الأملاك، فقد كان رسل الله وأنبياؤه في ذروته مع جِدَتِهم ومُلْكهم، كإبراهيم الخليل عليه السلام كان أبا الضِّيفان، وكانت له الأموال والمواشي. وكذلك كان سليمان وداود، وكذلك كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8]. فكانوا أغنياء في فقرهم، فقراء في غناهم.
فالفقر الحقيقيُّ: دوام الافتقار إلى الله تعالى في كلِّ حالٍ، وأن يشهد العبد ــ في كلِّ ذرّةٍ من ذرّاته الظّاهرة والباطنة ــ فاقةً تامّةً إلى الله تعالى من كلِّ
(1)
هو ابن الجلا، كما في «الرسالة القشيرية» (ص 576).
(2)
الخبر في المصدر السابق، و «تاريخ دمشق» (32/ 392).
(3)
ش، د:«ولا يكن» .
وجهٍ.
فالفقر ذاتيٌّ للعبد، وإنّما يتجدّد له شهودُه ووجوده حالًا، وإلّا فهو حقيقته. كما قال شيخ الإسلام ابن تيميّة قدَّس الله روحه
(1)
:
والفقر لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ
(2)
أبدًا
…
كما الغِنى أبدًا وصفٌ له ذاتي
وله آثارٌ وعلاماتٌ وموجباتٌ وأسبابٌ أكثر إشارات القوم إليها. كقول بعضهم
(3)
: الفقير لا تَسبِقُ هِمّتُه خُطوتَه.
يريد: أنّه ابنُ حالِه ووقته، فهمّته مقصورةٌ على وقته لا تتعدّاه.
وقيل: أركان الفقر أربعةٌ: علمٌ يَسُوسه، وورعٌ يَحجِزُه، ويقينٌ يَحمِله، وذِكرٌ يُؤنِسه
(4)
.
وقال الشِّبليُّ رحمه الله: حقيقة الفقر أن لا يستغني بشيءٍ دون الله
(5)
.
وسئل سهل بن عبد الله رحمه الله: متى يستريح الفقير؟ فقال: إذا لم يرَ لنفسه غيرَ الوقت الذي هو فيه
(6)
.
وقال أبو حفصٍ رضي الله عنه: أحسنُ ما يتوسّل به العبد إلى الله: دوامُ
(1)
ضمن أبيات أوردها المؤلف فيما سبق (2/ 200).
(2)
ل: «دائم» . وفي هامشها: «لازم» مثل ش، د.
(3)
هو المرتعش، كما في «الرسالة القشيرية» (ص 577).
(4)
«الرسالة القشيرية» (ص 578). والقائل محمد بن منصور الطوسي في «تهذيب الأسرار» (ص 248).
(5)
«الرسالة القشيرية» (ص 578).
(6)
المصدر نفسه (ص 580). ورواه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 192).
الافتقار إليه على جميع الأحوال، وملازمة السُّنّة في جميع الأفعال، وطلب القُوتِ من وجهٍ حلالٍ
(1)
.
وقيل: من حُكم الفقير أن لا تكون له رغبةٌ، فإن كان ولا بدَّ فلا تُجاوز رغبتُه كفايتَه
(2)
.
وقيل: الفقير من لا يَملِك ولا يُملَك
(3)
. وأتمُّ من هذا: من يَملِك ولا يَملِكه ما ملك.
وقيل: من أراد الفقر لشرف الفقر مات فقيرًا، ومن أراده لئلّا يشتغل عن الله بغيره مات غنيًّا
(4)
.
والفقر له بدايةٌ ونهايةٌ، وظاهرٌ وباطنٌ. فبدايته الذُّلُّ، ونهايته العزُّ، وظاهره العدم، وباطنه الغنى. كما قال رجلٌ لآخر
(5)
: فقرٌ وذلٌّ؟ فقال: لا. بل فقرٌّ وعزٌّ. فقال: فقرٌ وثرًى
(6)
؟ فقال: لا بل فقرٌ وعرشٌ، وكلاهما مصيبٌ
(7)
.
(1)
المصدر نفسه (ص 576).
(2)
المصدر نفسه (ص 207، 581). والقائل أبو بكر عبد الله بن طاهر الأبهري. ورواه السلمي في «الطبقات» (ص 394)، والبيهقي في «الشعب» (3255).
(3)
«قوت القلوب» (1/ 269) عن أبي يزيد البسطامي نحوه في وصف الزاهد.
(4)
«الرسالة القشيرية» (ص 578).
(5)
الحوار بين منصور بن خلف المغربي وأبي سهل الخشاب الكبير في «الرسالة القشيرية» (ص 578).
(6)
الثرى: التراب والأرض.
(7)
«وكلاهما مصيب» تعليق من المؤلف.
واتّفقت كلمة القوم على أنّ دوام الافتقار إلى الله مع التّخليط خيرٌ من دوام الصّفاء مع رؤية النّفس والعُجْب، مع أنّه لا صفاء معهما.
وإذا عرفت معنى الفقر عرفتَ أنّه عينُ الغنى بالله، فلا معنى لسؤال مَن سأل: أيُّ الحالينِ أكمل؟ الافتقار إلى الله أم الاستغناء به؟ فهذه مسألةٌ غير صحيحةٍ، فإنّ الاستغناء به هو عين الافتقار إليه.
وسئل عن ذلك محمّد بن عبد الله الفَرغانيُّ رحمه الله فقال: إذا صحّ الافتقار إلى الله فقد صحّ الاستغناء بالله، وإذا صحّ الاستغناء بالله كمل الغنى به. فلا يقال: أيُّهما أتمُّ: الافتقار أم الغنى؟ لأنّهما حالتان لا تتمُّ إحداهما إلّا بالأخرى
(1)
.
وأمّا كلامهم في مسألة الفقير الصّابر والغنيِّ الشّاكر وترجيح أحدهما على صاحبه
(2)
، فعند أهل التّحقيق والمعرفة: أنّ التّفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنّما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق. فالمسألة أيضًا فاسدةٌ في نفسها. فإنّ التّفضيل عند الله بالتّقوى وحقائق الإيمان، لا بفقرٍ ولا غنًى، كما قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ولم يقل: أفقركم ولا أغناكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: والفقر والغنى ابتلاءٌ من الله لعبده. كما قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيَ أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيَ أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 16].
(1)
«الرسالة القشيرية» (ص 573).
(2)
انظر كلام المؤلف عليها في «عدة الصابرين» (ص 338 وما بعدها).
أي: ليس كلُّ من أعطيته ووسّعت عليه: أكون
(1)
قد أكرمتُه، ولا كلُّ من ضيّقتُ عليه وقتَّرتُ: أكون
(2)
قد أهنتُه. فالإكرام: أن يُكرم العبد بطاعته، والإيمان به، ومحبّته ومعرفته. والإهانة: أن يسلبه ذلك.
قال: ولا يقع التّفاضل بالغنى والفقر، بل بالتّقوى، فإن استويا في التّقوى استويا في الدّرجة. سمعتُه يقول ذلك
(3)
.
وتذاكروا هذه المسألة عند يحيى بن معاذٍ رحمه الله، فقال: لا يُوزن غدًا الفقر ولا الغنى، وإنّما يُوزن الصّبر والشُّكر
(4)
.
وقال غيره: هذه المسألة محالٌ من وجهٍ آخر. وهو أنّ كلًّا من الغنيِّ والفقير لا بدَّ له من صبرٍ وشكرٍ، فإنّ الإيمان نصفان: نصفٌ صبرٌ، ونصفٌ شكرٌ. بل قد يكون قسط الغنيِّ من الصّبر أوفر، لأنّه يصبر عن قدرةٍ، فصبره أتمُّ من صبرِ من يصبر عن عَجْزٍ. ويكون شكر الفقير أتمّ؛ لأنّ الشُّكر
(5)
هو استفراغ الوسع في طاعة الله، والفقير أعظم فراغًا للشُّكر من الغنيِّ. فكلاهما لا تقوم قامةُ إيمانه إلّا على ساقَي الصّبر والشُّكر.
نعم، الذي يُحِيل
(6)
النّاس من هذه المسألة: فرعًا من الشُّكر، وفرعًا من
(1)
شطب عليها في ش.
(2)
ليست في ش، د.
(3)
تكلم شيخ الإسلام على هذه المسألة في مواضع. انظر: «مجموع الفتاوى» (11/ 122 - 132، 195)، و «مختصر الفتاوى المصرية» (ص 95، 572).
(4)
«الرسالة القشيرية» (ص 580).
(5)
«أتم لأن الشكر» ساقطة من ش، د.
(6)
رسمها في ل، ش يحتمل هذه القراءة. والمعنى: أن الناس جعلوا الجمع بين الصبر والشكر محالًا، فأخذوا في الترجيح بينهما. والكلمة ساقطة من د. وفي المطبوع:«يحكي» خلاف الأصول والسياق. و «فرعًا» كذا بالنصب في الأصول، والسياق يقتضي الرفع.