الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة السّكينة
.
هذه المنزلة من منازل المواهب، لا من منازل المكاسب. وقد ذكر الله سبحانه السّكينة في كتابه في ستّة مواضع:
الأوّل
(1)
: قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248].
الثّاني: قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا} [التوبة: 25 - 26].
الثّالث: قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40].
الرّابع: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4].
الخامس: قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
(1)
في النسخ: «الأولى» .
السّادس: قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} الآية [الفتح: 26].
وكان شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله إذا اشتدّت عليه الأمور قرأ آياتِ السّكينة.
وسمعته يقول في واقعةٍ عظيمةٍ جرت له في مرضه، تَعجِز العقول والقُوى عن حملها ــ من محاربة أرواحٍ شيطانيّةٍ ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوّة ــ قال: فلمّا اشتدّ عليّ الأمر قلت لأقاربي ومن حولي: اقرؤوا آيات السّكينة، قال: ثمّ أقلعَ عنِّي ذلك الحالُ، وجلستُ وما بي قَلَبةٌ
(1)
.
وقد جرَّبتُ أنا قراءةَ هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرِد عليه، فرأيتُ لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه وطُمأنينته.
وأصل السّكينة هي الطُّمأنينة والوقار، والسُّكون الذي يُنزِله الله في قلب عبده، عند اضطرابه من شدّة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرِد
(2)
عليه، ويوجب له زيادةَ الإيمان وقوّةَ اليقين والثّبات.
ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب. كيوم الهجرة، هو وصاحبه في الغار والعدوُّ فوق رؤوسهم، لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما. وكيوم حنينٍ، وَلَّوا مُدبِرين من شدّة بأس الكفّار، لا يَلْوِي أحدٌ على أحدٍ. وكيوم الحديبية حين اضطربتْ قلوبهم من تحكُّمِ الكفّار عليهم، ودخولِهم تحت شروطهم التي لا
(1)
داء يأخذ في القلب، ويُسمَّى أيضًا القُلَاب.
(2)
«لما يرد» ليست في ش، د.
تَحمِلها النُّفوس. وحسبك بضعف
(1)
عمر عن حملها وهو عمر، حتّى ثبَّته الله بالصِّدِّيق.
قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: كلُّ سكينةٍ في القرآن فهي طمأنينةٌ، إلّا التي في سورة البقرة
(2)
.
وفي «الصّحيحين»
(3)
عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال: رأيتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق، حتّى وارى التُّرابُ جِلدَ بطنِه، وهو يرتجزُ بكلمة عبد الله بن رواحة:
اللهمّ لولا أنتَ ما اهتدَينا
…
ولا تصدَّقْنا ولا صَلَّينا
فأنزِلنْ سكينةً علينا
…
وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقينا
إنّ الأُلى قد بَغَوا علينا
…
وإن أرادوا فتنةً أبينا
وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدِّمة: إنِّي باعثٌ نبيًّا أمِّيًا، ليس بفَظٍّ ولا غليظٍ، ولا صَخَّابٍ في الأسواق، ولا متزيِّنٍ بالفحش، ولا قَوَّالٍ للخنا. أُسدِّده لكلِّ جميلٍ، وأَهَبُ له كلَّ خُلقٍ كريمٍ، ثمّ أجعلُ السّكينة لباسَه، والبرَّ شعارَه، والتّقوى ضميرَه، والحكمةَ معقولَه، والصِّدقَ والوفاء طبيعتَه، والعفوَ والمعروفَ خلقَه، والعدلَ سيرتَه، والحقَّ شريعتَه، والهدى إمامَه، والإسلامَ مِلَّتَه، وأحمدَ اسْمَه
(4)
.
(1)
ل: «من ضعف» .
(2)
«تفسير البغوي» (4/ 189)، و «القرطبي» (16/ 264).
(3)
البخاري (4106، ومواضع أخرى)، ومسلم (1803).
(4)
أخرجه أبو نعيم في «دلائل النبوة» (33) عن وهب بن منبّه قال: أوحى الله تعالى إلى أشعياء
…
ثم ذكره ضمن حديث طويل. وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 620) إلى ابن أبي حاتم أيضًا.