الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد قسّم بعضهم
(1)
الصُّوفيّة أربعة أقسامٍ: أصحاب السّوابق، وأصحاب العواقب، وأصحاب الوقت، وأصحاب الحقِّ
. قال:
فأمّا أصحاب السّوابق: فقلوبهم أبدًا فيما سبق لهم من الله سبحانه، لعلمهم أنّ الحكم الأزليّ لا يتغيّر باكتساب العبد. ويقولون: من أقْصَتْه السّوابقُ لم تُدْنِه الوسائل. ففكرهم
(2)
في هذا أبدًا، ومع ذلك فهم مُجِدُّون في القيام بالأوامر، واجتناب النّواهي، والتّقرُّب إلى الله بأنواع القرب، غير واثقين بها، ولا ملتفتين إليها. يقول قائلهم
(3)
:
من أين أُرضِيكَ إلّا أن تُوفِّقني
…
هيهاتَ هيهاتَ ما التّوفيقُ من قِبَلِي
إن لم يكن ليَ في المقدور سابقةٌ
…
فليس ينفعُ ما قدَّمتُ من عملي
وأمّا أصحاب العواقب: فهم مفكّرون
(4)
فيما يُختَم به أمرهم، فإنّ الأمور بأواخرها، والأعمال بخواتيمها، والعاقبة مستورةٌ، كما قيل: لا يَغُرّنَّك صَفاءُ الأوقات، فإنّ تحتها غوامضَ الآفات
(5)
. فكم من ربيعٍ نوَّرتْ أشجاره، وظهرتْ أزهاره، وزَهَتْ ثماره، لم يلبث أن أصابته جائحةٌ سماويّةٌ، فصار كما قال الله عز وجل: {وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا
(1)
لم أعرف مَن هو.
(2)
ت: «فقلوبهم» .
(3)
البيت الأول منهما ضمن أبيات في «التكملة» لابن الأبار (3/ 184، 185)، ونُسبت لابن عصام وليست له.
(4)
ر: «متفكرون» .
(5)
قاله أبو الحسن الحصري الصوفي، كما في «تاريخ بغداد» (11/ 340)، و «تاريخ الإسلام» (8/ 362)، و «طبقات الأولياء» لابن الملقن (ص 213).
أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ} [يونس: 24]. فكم من مريدٍ كَبَا به جوادُ عَزْمِه.
فخرَّ صَرِيعًا لليدينِ وللفمِ
(1)
وقيل لبعضهم وقد شُوهِد منه خلاف ما كان يُعهد عليه: ما الذي أصابك؟ فقال: حجابٌ وقع، وأنشد
(2)
:
أحسنتَ ظنَّك بالأيّام إذ حَسُنَتْ
…
ولم تَخَفْ سوءَ ما يأتي به القَدَرُ
وسالَمتْك اللّيالي فاغتررتَ بها
…
وعند صفوِ اللّيالي يحدُث الكَدَرُ
ليس العجب ممّن هلك كيف هلك؟ إنّما العجب ممّن نجا كيف نجا؟
تَعجَبين من سَقَمي
…
صحّتي هي العجبُ
(3)
النّاكصون على أعقابهم أضعافُ أضعافِ من اقتحم العقبة:
خذْ من الألفِ
(4)
واحدًا
…
واطْرَحِ الكلَّ بعدَه
(5)
(1)
شطر بيتٍ لجابر بن حُنَيّ التغلبي في «المفضليات» (ص 212)، وبيتٍ آخر لحرب بن مسعر في «الأشباه والنظائر» للخالديين (1/ 6)، وبيت آخر اختُلف في قائله، انظر:«فصل المقال» للبكري (ص 313).
(2)
نُسِبا للشافعي في «الانتقاء» لابن عبد البر (ص 101)، ولسعيد بن حميد في «الزهرة» (2/ 335) وهما بلا نسبة في «الأوراق» (أخبار الراضي)(ص 82)، و «الرسالة القشيرية» (ص 355)، و «الزهد الكبير» للبيهقي (ص 255)، و «إحياء علوم الدين» (4/ 176).
(3)
البيت لأبي نواس في «ديوانه» (ص 227)، وهو من أبيات قالها وهو صبي. انظر:«معاهد التنصيص» (1/ 84).
(4)
ش: «ألف» .
(5)
ش، د:«من بعده» . وعلى هذا فلا يكون شعرًا. ولم أجده في المصادر التي رجعت إليها.
وأمّا أصحاب الوقت: فلم يشتغلوا بالفكر في السوابق ولا في العواقب، بل اشتغلوا بمراعاة الوقت وما يلزمهم من أحكامه، وقالوا: العارفُ ابنُ وقته، والفقير لا ماضٍ له ولا مستقبل
(1)
.
ورأى بعضهم الصِّدِّيق في منامه، فقال له: أَوصِني، فقال: كن ابنَ وقتِك
(2)
.
وأمّا أصحاب الحقِّ: فهم مع صاحب الوقت والزّمان ومالِكهما ومدبِّرِهما، مأخوذون بشهوده عن مشاهدة الأوقات، لا يتفرّغون لمراعاة وقتٍ وزمانٍ. كما قيل
(3)
:
لستُ أدريْ أطالَ ليليَ أم لا
…
كيف يدري بذاك مَن يتقلَّى
لو تفرّغتُ لاستطالةِ ليلِيْ
…
ولرَعْيِ النُّجوم كنتُ مُخلَّى
إنَّ للعاشقين عن قِصَر اللّيـ
…
لِ وعن طُولِه من العشق شُغْلَا
قال الجنيد: دخلت على السَّريِّ يومًا، فقلت: كيف أصبحتَ؟ فأنشأ يقول:
(1)
انظر: «الرسالة القشيرية» (ص 232).
(2)
لم أجده.
(3)
الأبيات لخالد الكاتب في «ديوانه» (ص 525)، و «ديوان المعاني» (1/ 350)، و «المقابسات» (ص 298). ونُسِبت خطأ لأبي نواس في «العمدة» (2/ 243)، ولابن المعتز في «المدهش» (ص 222)، ولأبي هلال في «معجم الأدباء» (2/ 920). وهي بلا نسبة في «الموشى» (ص 226)، و «طبقات الصوفية» للسلمي (ص 350)، و «صفة الصفوة» (2/ 463) وغيرها.
ما في النّهار ولا في اللّيلِ لي فَرَجٌ
…
فلا أبالي أطالَ اللّيلُ أم قَصُرَا
(1)
ثمّ قال: ليس عند ربِّكم ليلٌ ولا نهارٌ.
يشير إلى أنّه غير متطلِّعٍ إلى الأوقات، بل هو مع الذي يُقدِّر اللّيل والنّهار.
فصل
قال صاحب «المنازل»
(2)
: (الوقت: اسمٌ في هذا الباب لثلاث معانٍ. المعنى الأوّل: حِينُ وجدٍ صادقٍ). أي وقتُ وجدٍ صادقٍ، أي زمنُ وجدٍ يقوم بقلبه، وهو صادقٌ فيه
(3)
، غير متكلِّفٍ له، ولا متعمِّلٍ في تحصيله.
يكون متعلّقه (إيناسُ ضياءِ فضلٍ) أي رؤية ذلك، والإيناس الرُّؤية. قال تعالى:{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي} [القصص: 29]. وليس هو مجرّد الرُّؤية، بل رؤية ما يأنَسُ به القلب ويسكُن إليه. ولا يقال لمن رأى عدوّه أو مخوفًا: آنسَه.
ومقصوده: أنّ هذا الوقت وقتُ وجدٍ، صاحبه صادقٌ فيه لرؤية ضياءِ فضلِ الله ومنِّه عليه. والفضل هو العطاء الذي لا يستحقُّه المعطى، أو يُعطى فوق استحقاقه، فإذا آنسَ هذا الفضل وطالَعه بقلبه أثارَ ذلك فيه وجدًا آخر،
(1)
البيت مع آخر في «طبقات الأولياء» لابن الملقن (ص 163)، و «الطبقات الكبرى» للشعراني (1/ 75). ولم أجد الخبر في مصدر آخر.
(2)
(ص 82).
(3)
ش، د:«وفيه» .
باعثًا على محبّة صاحب الفضل والشّوق إلى لقائه، فإنّ النُّفوس مجبولةٌ على حبِّ من أحسنَ إليها.
ودخلتُ يومًا على بعض أصحابنا وقد حصلَ له وجدٌ أبكاه، فسألتُه عنه؟ فقال: ذكرتُ ما منَّ الله به عليّ من السُّنّة ومعرفتها، والتّخلُّص من شُبَه القوم وقواعدهم الباطلة، وموافقة العقل الصّريح والفطرة السّليمة لما جاء به الرّسول. فسرَّني ذلك حتّى أبكاني.
فهذا الوجد أثاره إيناس فضل الله ومنّه.
قوله: (جذَبَه صفاءُ رجاءٍ)، أي جذب ذلك الوجدَ ــ أو الإيناسَ، أو الفضلَ ــ رجاءٌ صافٍ غيرُ مكدَّرٍ. والرّجاء الصّافي هو الذي لا يشوبُه كدَرٌ يُوهِم معاوضةً منك، وأنّ عملك هو الذي بعثَك على الرّجاء. فصفاء الرّجاء يُخلِّصُه
(1)
من ذلك، بل يكون رجاءً محضًا لمن هو مبتدئٌ بالنِّعم من غير استحقاق. والفضل كلُّه له ومنه، وفي يده أسبابه وغاياته، ووسائله وشروطه، وصرفُ موانعِه، كلٌّ بيد الله، لا يستطيع العبد أن ينال منه شيئًا بدون توفيقه وإذنه ومشيئته.
وملخَّص
(2)
ذلك: أنّ الوقت في هذه الدّرجة الأولى: عبارةٌ عن وجدٍ صادقٍ، سببُه رؤية فضل الله على عبده، لأنّ رجاءه كان صافيًا من الأكدار.
قوله: (أو لعصمةٍ جذَبَها صدقُ خوفٍ)، اللّام في قوله «أو لعصمةٍ» معطوفة على اللّام في قوله:«لإيناسِ ضياءِ فضلٍ» ، أي وجدٍ لعصمةٍ جذَبَها
(1)
ر: «يخرجه» .
(2)
ت: «وتلخيص» . ر: «ويلخص» .
صدق خوفٍ. فاللّام ليست للتّعليل، بل هي على حدِّها في قولك: ذوقٌ لكذا أو رؤيةٌ لكذا. فمتعلّق الوجدِ عصمةٌ، وهي منعةٌ وحفظُ ظاهرٍ وباطنٍ، جذَبَها صدق خوفٍ من الرّبِّ سبحانه.
والفرق بين الوجد في هذه الدّرجة والّتي قبلها: أنّ الوجد في الأولى جذَبه صدقُ الرّجاء، وفي الثّانية جذبَه صدقُ الخوف، وفي الثّالثة ــ التي تُذكر ــ جذَبه صدقُ الحبِّ. فهو معنى قوله:(أو لتلهُّب شوقٍ جذَبَه اشتعالُ محبّةٍ)، وخدَمتْه التّورية في اللهيب والاشتعال. والمحبّة متى قويتْ اشتعلت نارها في القلب، فحدَثَ عنها لهيب الاشتياق إلى لقاء الحبيب.
وهذه الثّلاثة التي تضمَّنتْها هذه الدّرجة ــ وهي الحبُّ والخوف والرّجاء ــ هي التي تبعث على عمارة الوقت بما هو الأولى بصاحبه والأنفع له، وهي أساس السُّلوك والمسيرِ
(1)
إلى الله سبحانه. وقد جمع سبحانه الثّلاثة في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]. وهذه الثّلاثة هي قطبُ رحى العبوديّة، وعليها دارتْ رَحى الأعمال.
فصل
قال
(2)
: (والمعنى الثّاني: اسمٌ لطريقِ سالكٍ يسير بين تمكُّنٍ وتلوُّنٍ، لكنّه إلى التّمكُّن ما هو. يسلك الحال، ويلتفت إلى العلم. فالعلم يشغله في حينٍ، والحال يحمله في حينٍ. فبلاؤه بينهما: يُذِيقه شهودًا طورًا، ويكسوه
(1)
ر: «والسير» .
(2)
«المنازل» (ص 82).
عِبْرةً
(1)
طورًا، ويُرِيه غيرةَ تفرُّقٍ طورًا).
هذا المعنى هو المعنى الثّاني من المعاني الثّلاثة من معاني الوقت عنده.
قوله: (اسمٌ لطريقِ سالكٍ) هو على الإضافة. أي لطريق عبد سالكٍ.
قوله: (يسير بين تمكُّنٍ وتلوُّنٍ)، أي ذلك العبد يسير بين تمكُّنٍ وتلوُّنٍ. والتّمكُّن: هو الانقياد إلى أحكام العبوديّة بالشُّهود والحال، والتّلوُّن في هذا الموضع خاصّةً: هو الانقياد إلى أحكام العبوديّة بالعلم. فإن الحال يجمعه بقوّته وسلطانه فيعطيه تمكينًا، والعلم يُلوِّنه بحسب متعلّقاته وأحكامه.
قوله: (لكنّه إلى التّمكُّن ما هو يسلك الحال، ويلتفت إلى العلم)، يعني: أنّ هذا العبد هو سالكٌ إلى التّمكُّن ما دام يسلك الحالَ ويلتفت إلى العلم، فأمّا إن سلك العلمَ والتفتَ إلى الحال لم يكن سالكًا إلى التّمكُّن.
فالسّالكون ضربان: سالكون على الحال ملتفتون إلى العلم، وهم إلى التّمكُّن أقرب. وسالكون على العلم ملتفتون إلى الحال، وهم إلى التّلوُّن أقرب. هذا حاصل كلامه
(2)
.
وهذه النكتة
(3)
هي المفرِّقة بين أهل العلم وأهل الحال، حتّى كأنّهما غيرانِ وحزبانِ، وكلُّ فرقةٍ منهما لا تأنَسُ بالأخرى ولا تُعاشِرها إلّا على إغماضٍ ونوعِ استكراهٍ.
وهذا من تقصير الفريقين، حيث ضعُفَ أحدهما عن السّير في العلم،
(1)
في «المنازل» و «شرح التلمساني» : «غيرة» . وسيشرحها المؤلف على الوجهين.
(2)
«كلامه» ليست في ش، د.
(3)
ت، ر:«الثلاثة» .