الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. فهؤلاء مسلمون، وليسوا بمؤمنين، لأنّهم ليسوا ممّن باشر الإيمانُ قلبَه، فذاق طعمه. وهذا حال أكثر المنتسبين إلى الإسلام. وليس هؤلاء كفّارًا، فإن الله سبحانه أثبت لهم الإسلام بقوله:{وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، ولم يرد: قولوا بألسنتكم من غير مواطأة القلب، فإنّه فرّق بين قولهم «آمنّا» وقولهم «أسلمنا» ، ولكن لمّا لم يذوقوا طعم الإيمان قال:{لَمْ تُؤْمِنُوا} ، ووعدهم سبحانه مع ذلك على طاعتهم أن لا ينقُصَ من أجور أعمالهم شيئًا.
ثمّ ذكر أهل الإيمان الذين ذاقوا طعمه، وهم الذين آمنوا به وبرسوله ثمّ لم يرتابوا في إيمانهم. وإنّما انتفى عنهم الرَّيب لأنّ الإيمان قد باشر قلوبَهم، وخالطتْها بشاشتُه، فلم يبقَ للرّيب فيه موضعٌ.
وصدَّق ذلك الذّوقَ بذلُهم أحبَّ شيءٍ إليهم في رضا ربِّهم تعالى، وهو أموالهم وأنفسهم. ومن الممتنع حصولُ هذا البذل من غير ذوقٍ لطعم الإيمان ووجودِ حلاوته، فإنّ ذلك يُصدِّق الذّوق والوجد. كما قال الحسن: ليس الإيمان بالتّمنِّي ولا بالتّحلِّي، ولكن ما وقَرَ في القلب وصدَّقه العمل
(1)
.
ف
الذّوق والوجد أمرٌ باطنٌ، والعمل دليلٌ عليه
ومصدِّقٌ له. كما أنّ الرّيب والشّكّ والنِّفاق أمرٌ باطنٌ، والعمل دليلٌ عليه ومصدِّقٌ له، فالأعمال
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة (30988)، والخطّابي في «غريب الحديث» (3/ 101)، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1178)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (65) من طرقٍ عن الحسن.
ثمرات العلوم والعقائد. فاليقين يُثمِر الجهاد ومقاماتِ الإحسان، فعلى حسب قوّته تكون ثمرته ونتيجته. والرّيب والشّكُّ يُثمِر الأعمال المناسبة له. وبالله التّوفيق.
وقوله: (ولا يقطعه أملٌ)، أي من علامات الذّوق: أن لا يقطع صاحبه عن طلبه أملُ دنيا، وطمعٌ في عَرَضٍ من أعراضها، فإنّ الأمل والطّمع يقطعان طريقَ القلب في سيره إلى مطلبه.
ولم يقل الشّيخ: إنّه لا يكون
(1)
له أملٌ، بل قال: لا يقطعه أملٌ. فإنّ الأمل إذا قام به ولم يقطعه لم يضرَّه، وإن عوَّقَ سيرَه بعضَ التّعويق. وإنّما البلاء في الأمل القاطع للقلب عن سيره إلى الله.
وعند الطّائفة: أنّ كلّ ما سوى الله فإرادتُه أملٌ قاطعٌ، كائنًا ما كان. فمن كان ذلك أملَه ومنتهى طلبِه فليس من أهل ذوق الإيمان، فإنّه من ذاق حلاوة معرفة الله والقرب منه والأنس به لم يكن له أملٌ في غيره، وإنْ تعلّق أملُه بسواه فهو لإعانته على مرضاته ومحابِّه، فهو يُؤمِّله لأجله، لا يُؤمِّله معه.
فإن قلت: فما الذي يقطع به هذا الأمل؟
قلت: قوّة رغبته في المطلب الأعلى الذي ليس شيءٌ أعلى منه، ومعرفتُه بخِسَّةِ ما يُؤمّل دونه، وسرعةِ ذهابه ووَشكِ انقطاعه، وأنّه في الحقيقة كخيال طَيفٍ، أو سحابة صَيفٍ، فهو ظلٌّ زائلٌ، ونجمٌ قد تدلّى للغروب فهو
(2)
عن قريبٍ آفِلٌ.
(1)
ت: «لم يكن» .
(2)
«فهو» ليست في ت.
قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدُّنيا؟ إنّما أنا كراكبٍ قالَ في ظلِّ شجرةٍ ثمّ راحَ وتركَها»
(1)
. وقال: «ما الدُّنيا في الآخرة إلّا كما يُدخِلُ أحدُكم إصبعَه في اليَمِّ، فلينظُرْ بِمَ ترجع؟»
(2)
. فشَبَّه الدُّنيا في جنب الآخرة بما يَعْلَق على الإصبع من البلل حين تُغْمَس في البحر.
وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: لو أنّ الدُّنيا من أوّلها إلى آخرها أُوتِيَها رجلٌ ثمّ جاءه الموت: لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسرُّه، ثمّ استيقظ فإذا ليس في يديه شيءٌ
(3)
.
وقال مُطرِّف بن عبد الله أو غيره: نعيمُ الدُّنيا بحذافيرِه في جنْبِ نعيم الآخرة أقلُّ من ذرّةٍ في جنب جبال الدُّنيا
(4)
.
ومن حدَّق عينَ بصيرته في الدُّنيا والآخرة علمَ أنّ الأمر كذلك.
فكيف يليق بصحيح العقل والمعرفة أن يقطعه أملٌ من هذا الجزء الحقير عن نعيمٍ لا يزول ولا يضمحلُّ؟ فضلًا أن يقطعه عن طلبِ مَن نسبةُ هذا النّعيم الدّائم إلى نعيم معرفتِه ومحبّتِه والأنسِ به والفرحِ بقربه كنسبة نعيم الدُّنيا إلى نعيم الجنّة؟ قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]. فيسيرٌ من رضوانه ــ ولا يقال له يسيرٌ ــ أكبرُ من الجنّات وما فيها.
(1)
أخرجه أحمد (3709)، والترمذي (2377)، وابن ماجه (4109) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وصححه الترمذي والحاكم (4/ 310).
(2)
أخرجه مسلم (2858) من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه.
(3)
لم أجده في المصادر التي رجعتُ إليها.
(4)
لم أجده فيما بين يديّ من المصادر.
وفي حديث الرُّؤية: «فوالله ما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النّظر إلى وجهه»
(1)
. وفي حديثٍ آخر: «إنّهم إذا رأوه
(2)
لم يلتفتوا إلى شيءٍ ممّا هم فيه من النّعيم حتّى يَتوارى عنهم»
(3)
.
فمن قطعَه عن هذا أملٌ فقد فاز بالحرمان، ورضي لنفسه بغاية الخسران، والله المستعان، وعليه التُّكلان، وما شاء الله كان.
قوله: (ولا تعوقُه أُمنيّةٌ)، الأمنيّة: هي ما يتمنّاه العبد من الحظوظ، وجمعها أمانيُّ. والفرق بينها وبين الأمل أنّ الأمل يتعلّق بما يُرجى وجوده، والأمنيّة قد تتعلّق بما لا يُرجى حصوله، كما يتمنّى العاجز المراتب العالية.
والأمانيُّ الباطلة هي رؤوس أموال المفاليس، بها يقطعون أوقاتهم ويلتذُّون بها، كالتذاذِ من زال عقلُه بالمسكر بالخيالات الباطلة.
وفي الحديث المرفوع: «الكيِّسُ مَن دانَ نفسَه، وعمِلَ لما بعد الموت. والعاجز مَن أتبعَ نفسَه هواها، وتَمنّى على الله الأمانيّ»
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (181)، وابن حبان (7441) من حديث صهيب رضي الله عنه.
(2)
د: «رأوا ربهم سبحانه» .
(3)
أخرجه ابن ماجه (184)، والآجري في «الشريعة» (615)، والدارقطني في «الرؤية» (51) وأبو نعيم في «صفة الجنة» (91) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وإسناده ضعيف جدًّا، فيه الفضل بن عيسى الرقاشي متروك. وأحاديث الرؤية ثابتة من وجوه أخرى، بل متواترة.
(4)
أخرجه أحمد (17123)، والترمذي (2459)، وابن ماجه (4260) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. وحسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم (1/ 125). وتعقبَّه الذهبي بقوله: لا والله، أبو بكر [بن أبي مريم] واهٍ.
ولا يرضى بالأمانيِّ من الحقائق إلّا النُّفوسُ الدنيئة الساقطة، كما قيل
(1)
:
واتركْ مُنى النفسِ لا تَحسَبْه يُشبِعُها
…
إنّ المُنى رأسُ أموال المفاليس
وأُمنيَّة الرجل تدلُّ على علوِّ همَّته وخِسَّتها. وفي أثرٍ إلهيٍّ: «إنِّي لا أنظُرُ إلى كلام الحكيم، وإنّما أنظُرُ إلى هِمّته»
(2)
.
والعامَّة تقول: قيمة كلِّ امرئٍ ما يُحسِن
(3)
. والعارفون يقولون: قيمة كلِّ امرئٍ ما يطلب
(4)
.
فصل
قال
(5)
: (الدرجة الثانية: ذوق الإرادة طعم الأنس. فلا يَعْلَقُ به شاغلٌ، ولا يُفسِده عارضٌ، ولا تُكدِّره تفرقةٌ).
الإرادة وصف المريد. والفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها: أنّ الأولى
(1)
البيت بصدرٍ آخر في «الحيوان» (5/ 191)، و «عيون الأخبار» (1/ 261)، و «أدب الدين والدنيا» (ص 391) وغيرها بلا نسبة. وصدره فيها:
إذا تمنَّيتُ بِتُّ الليلَ مغتبطًا
(2)
لم أجده مسندًا، وقد ذكره شيخ الإسلام في عددٍ من كتبه ونسبه إلى بعض الكتب القديمة والإسرائيليات، وقد تقدم (ص 360).
(3)
يُنسب هذا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بعض كتب الأدب وغيرها، ولا يصح عنه. وقد تقدم تخريجه (ص 360).
(4)
انظر: «جامع المسائل» (5/ 265) وما سبق (ص 360).
(5)
«المنازل» (ص 80).
وصف حال العابد الذي ذاق تصديقُه طعْمَ وعدِ الرّبِّ عز وجل، فجدَّ في العبادة وأعمالِ البرِّ، لثقتِه بالوعد عليها. وصاحب هذه الدّرجة ذاقتْ إرادتُه طعْمَ الأنس، فهي حال المريد.
ولهذا علق صاحب الدّرجة الأولى بالوعد الجميل، وعلق صاحب هذه بالأنس بالله. والأنس به سبحانه أعلى من الأنس بما يرجوه العابد من نعيم الجنّة. فإذا ذاق المريد طعْمَ الأنس جدَّ في إرادته، واجتهد في حفظ أنسه، وتحصيلِ الأسباب المقوِّية له.
(فلا يَعْلَق به شاغلٌ)، أي لا يتعلّق به شيءٌ يَشْغَله عن سلوكه وسيرِه إلى الله، لشدّة طلبه الباعث عليه أنسه، الذي قد ذاقَ طعمه، وتلذَّذ بحلاوته.
والأنس بالله حالةٌ وجدانيّةٌ، وهي من مقامات الإحسان
(1)
تقوى بثلاثة أشياء: دوام الذِّكر، وصدق المحبّة، وإحسان العمل.
وقوّة الأنس وضعفه على حسب قوّة القرب، وكلّما كان القلب من ربِّه أقرب كان أنسُه به أقوى، وكلّما كان أبعدَ كانت الوحشة بينه وبين ربِّه أشدّ.
قوله: (ولا يُفسِده عارضٌ)، العارض المفسد هو الذي يَعذُل المحبَّ ويلومه على النّشاط في رضا محبوبه
(2)
وطاعته، ويدعوه إلى الالتفات إليه والوقوف معه دون مطلبِه العالي. فهو كالّذي يجيء عَرَضًا يمنع المارَّ في طريقه عن المرور، ويَلْفِته عن جهة مقصده إلى غيرها.
(1)
«الإحسان» ليست في ش.
(2)
ت: «المحبوب» .
وهذا العارض عند القوم هو إرادة السِّوى، فإنّ كلّ ما سوى الله فهو عارضٌ. وإرادة السِّوى: تُوقِف
(1)
السّالك، وتُنكِّس الطّالب، وتَحجُب الواصل. فإيّاك وإرادةَ السِّوى وإن علا، فإنّك تُحجَب عن الله بقدر إرادتك لغيره. قال تعالى إخبارًا عن عباده المقرّبين:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]. وقال: {(51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. وقال: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19 - 20].
قوله: (ولا تُكدِّره تفرقةٌ)، الكدر: ضدُّ الصّفاء، والتّفرقة: ضدُّ الجمعيّة. والجمعيّة هي جمع القلب والهمّة على الله بالحضور معه بحال الأنس، خاليًا من تفرقة الخواطر. والتّفرقة من أعظم مُكدِّرات القلب، وهي تُزِيل الصّفاء الذي أثمره له الإسلام والإيمان والإحسان، فإنّ القلب يصفو بذلك، فتجيء التّفرقة فتُكدِّر عليه ذلك الصّفاء، وتُشعِّث القلب، فيجد الصّادق ألَمَ ذلك الشَّعَث وأذاه، فيجتهد في لَمِّه، ولا يَلُمُّ شَعَثَ القلوب شيءٌ غير الإقبال على الله والإعراضِ عمّا سواه، فهناك يُلَمُّ شَعَثُه، ويزول كَدَره، ويصحُّ سَقَمُه
(2)
، ويجد روحَ الحياة، ويذوق طعم الحياة المَلَكيّة.
فصل
قال
(3)
: (الدّرجة الثّالثة: ذوقُ الانقطاع طعْمَ الاتِّصال، وذوقُ الهمّة طعْمَ الجمع، وذوقُ المسامرة طعْمَ العيان).
(1)
ت: «توسف» .
(2)
ت: «تنعمه» .
(3)
«المنازل» (ص 80).
الفرق بين هذه الدّرجة والّتي قبلها: أنّ تلك بقاءٌ مع الأحوال، وهذه الدّرجة خروجٌ وفناءٌ عن الأحوال. فإنّ المتمكِّن في حال فنائه عن الأسباب ــ أعمالًا كانت أو أحوالًا ــ هو الذي يجد طعْمَ الاتِّصال حقيقةً، فإنّه على حسب تجرُّده عن الالتفات إلى الأسباب يكون اتِّصاله، وعلى حسب التفاته إليها يكون انقطاعه. وكلّما تمكَّن في جمع هَمِّه على الحقِّ سبحانه وجدَ لذّةَ الجمع عليه، وذاقَ طعْمَ القرب منه والأنس به.
فالانقطاع عند القوم: هو أنس القلب بغيره، والتفاتُه إلى ما سواه. والاتِّصال: تجريدُ التّعلُّق به وحده، والانقطاع عمّا سواه بالكلِّيّة.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير كلامه.
فقوله: (ذوقُ الانقطاع طعْمَ الاتِّصال) استعارةٌ، وإلّا فالذّائق هو صاحب الانقطاع، لا نفس الانقطاع، فإنّه هو الذي ذاق الانقطاع والاتِّصال. وبالجملة فالمراد أنّ المنقطع هو المحجوب، والمتّصل هو المشاهد بقلبه، المكاشف بسرِّه.
وأحسنُ من التّعبير بالاتِّصال: التّعبير بالقرب، فإنّها العبارة السّديدة التي ارتضاها الله ورسوله في هذا المقام.
وأمّا التّعبير بالوصل والاتِّصال: فعبارةٌ غير سديدةٍ، ويتشبّث بها الزِّنديق الملحد، والصّدِّيق الموحِّد. فالموحِّد يريد بالاتِّصال القربَ، وبالانفصال والانقطاع البعدَ. والملحد يريد به الحلولَ تارةً والاتِّحاد تارةً. حتّى قال بعض هؤلاء
(1)
: المنقطع ليس في الحقيقة منقطعًا، بل لم يزل متّصلًا، لكنّه
(1)
ش: «هو» .
كان غائبًا عن المشاهدة. فلمّا شاهد وجد نفسه لم يكن منقطعًا، بل لم يزل متّصلًا
(1)
.
قال: وليس قولنا: «لم يزل متّصلًا» بسديدٍ، فإنّ الاتِّصال لا يصحُّ إلّا بين اثنين. فلا المحجوب منقطعًا، ولا المكاشف متّصلًا، وإنّما هي عباراتٌ للتّقريب والتّفهيم، وأنشد في ذلك
(2)
:
ما بالُ عَينِك لا يَقَرُّ قَرارُها
…
وإلامَ ظلُّك لا يَنِيْ
(3)
متنقِّلا
فلسوفَ تعلم أنّ سَيْرَك لم يكن
…
إلّا إليكَ إذا بلغتَ المنزِلا
وبإزاء هؤلاء طائفةٌ غلُظَ حجابهم، وكَثُفَت أرواحهم عن هذا الشّأن، فزعموا: أنّ القرب والبعد والأنس ليس له حقيقةٌ تتعلّق بالخالق سبحانه، وإنّما ذلك القرب من داره وجنّته بالطّاعات، وأنسُ القلب بما وعد عليها من الثّواب، والبعد ضدُّ ذلك. لا أنَّ العبد يقرُب من ربِّه، ولا يبعُد عنه، ولا يأنس به. وصرّحوا بأنّه لا يُريده ولا يحبُّه، فلا يصحُّ تعلُّق الإرادة والمحبّة به. فسار هؤلاء مُغرِّبين، وسار أولئك مُشرِّقين، كما قيل
(4)
:
سارتْ مُشرِّقةً وسِرتُ مغرِّبًا
…
شتّانَ بين مُشرِّقٍ ومغرِّب
(1)
«لكنه
…
متصلًا» ليست في ت.
(2)
تقدم البيتان (2/ 657).
(3)
ت: «لم يزل» .
(4)
البيت بلا نسبة في «البصائر والذخائر» (8/ 178)، و «الوافي بالوفيات» (6/ 64)، و «تاج العروس» (شرق). وأنشده المؤلف في «إغاثة اللهفان» (1/ 373)، و «أعلام الموقعين» (3/ 150).
ومصباح الموحِّد السّالك على دَرْب الرّسول وطريقهِ يتوقَّدُ {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].
قوله: (وذوقُ الهمّة طعْمَ الجمع)، جعل الهمّة ذائقةً والذّوق لصاحبها، توسُّعًا.
و «الهمّة» قد عبّر عنها الشّيخ فيما تقدّم بأنّها (ما يملك الانبعاث إلى المقصود صرفًا)، أي حالة وصفة لها سطوةٌ وملكةٌ، تحمل صاحبها على المقصود، وتبعثه عليه بعثًا لا يخالطه غيره. فالهمّة عندهم: طلب الحقِّ من غير التفاتٍ إلى غيره.
والجمع: شهود الفردانيّة التي تفنى فيها رسوم المشاهد، وهذا جمعٌ في الرُّبوبيّة. وأعلى منه: الجمع في الألوهيّة، وهو جمعُ قلبِه وهمِّه
(1)
وسِرِّه على محبوبه ومراضيه ومراده منه، فهو عكوف القلب بكلِّيّته على الله، لا يلتفت عنه يَمنةً ولا يَسرةً. فإذا ذاقت الهمّة طعم هذا الجمع اتّصلَ اشتياق صاحبها، وتأجّجتْ نيران المحبّة والطّلب في قلبه، وعدَّ صبره عن محبوبه من أعظم كبائره. كما قيل
(2)
:
(1)
د، ت:«همته» .
(2)
البيت بلا نسبة في «الرسالة القشيرية» (ص 440). وأنشده المؤلف في «روضة المحبين» (ص 375، 589). وهو بقافية أخرى لمحمد بن عبد الله العتبي في «الكامل» (2/ 555)، و «الزهرة» (2/ 541)، و «العقد الفريد» (3/ 261)، و «التذكرة الحمدونية» (4/ 263) وغيرها. وقافيته:«فإنه مذموم» .
والصّبر يُحمَد في المواطنِ كلِّها
…
إلّا عليكَ فإنّه لا يُحمَدُ
وقد تقدّم ذكر الأثر الإلهيِّ: «إنِّي لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنّما أنظر إلى هِمَّته» .
فللّه همّةُ نفسٍ قطعت جميع الأكوان، وسارتْ فما ألقتْ عصا السّير إلّا بين يدي الرّحمن، فسجدت بين يديه سجدة الشُّكر على الوصول إليه. فلم تزل ساجدةً حتّى قيل لها:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28].
فسبحان من فاوتَ بين الخلق في هِمَمِهم، حتّى ترى بين الهمّتين أبعدَ ممّا بين المشرقين والمغربين، بل أبعدَ ممّا بين أسفل سافلين وأعلى علِّيِّين. وتلك مواهب العزيز الحكيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
قوله: (وذوق المسامرة طعْمَ العيان)، مرادهم بالمسامرة: مناجاة القلب ربَّه وإن سكت اللِّسان، فلشدَّة استيلاء ذكره، ومحبّته على قلب العبد، وحضوره بين يديه، وأنسه به، وقربه منه، يصير كأنّه يخاطبه ويسامره، ويعتذر إليه تارةً، ويتملَّقه تارةً، ويُثني عليه تارةً، حتّى يبقى القلب ناطقًا بقوله: أنت الله الذي لا إله إلّا أنت، من غير تكليفٍ له بذلك، بل يبقى هذا حالًا له ومقامًا. ولا تُنكِرْ
(1)
وصولَ القوم إلى هذا، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه»
(2)
، فإذا بلغ في مقام الإحسان بحيث يكون كأنّه يرى الله
(1)
ت: «ولا يُنكَر» .
(2)
أخرجه البخاري (50، 4777)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
سبحانه فهكذا مخاطبته ومناجاته له.
لكنّ الأولى العدول عن لفظ «المسامرة» إلى لفظ «المناجاة» ، فإنّه اللّفظ الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، وعبَّر به عن حال العبد بقوله:«إذا قام أحدكم في الصّلاة فإنما يُناجي ربَّه»
(1)
، وفي الحديث الآخر:«كلُّكم يُناجِي ربّه، فلا يجهَرْ بعضُكم على بعضٍ»
(2)
. فلا يُعدَل عن ألفاظه، فإنّها معصومةٌ صادرةٌ عن معصومٍ، والإجمال والإشكال في اصطلاحات الناس وأوضاعهم. وبالله التّوفيق.
* * * *
(1)
أخرجه البخاري (405)، ومسلم (551) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مالك في «الموطأ» (213)، ومن طريقه أحمد (19022)، والنسائي في «الكبرى» (3350)، والبيهقي (3/ 11، 12) من حديث البياضي. وهو حديث صحيح.