الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيقال: هذا باطلٌ من وجوهٍ
(1)
:
أحدها: أنّ المشاهدة لا تُزِيل الشّوق بل تزيده، كما تقدّم.
الثّاني: أنّه
لا مشاهدةَ أكملُ من مشاهدة أهل الجنّة
، وهم إلى يوم المزيد ــ وهو يوم الجمعة ــ أشوقُ شيءٍ، كما في الحديث
(2)
. وكذلك هم أشوقُ إلى رؤيته وسماع كلامه وهم في الجنّة، فإنّ هذا إنّما يحصل لهم في حالٍ دون حالٍ، كما في حديث ابن عمر في «المسند»
(3)
وغيره: «إنّ أعلى أهل الجنّة: من ينظر في وجه ربِّه كلّ يومٍ مرّتين» . ومعلومٌ قطعًا أنّ شوق هذا إلى الرُّؤية
(4)
قبل حصولها أعظم شوقٍ يُقدَّر، وحصول المشاهدة لأهل الجنّة
(1)
ينظر «طريق الهجرتين» (ص 723 - 724).
(2)
هو حديث طويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه البزار (7527)، والطبراني في «الأوسط» (2084، 6717)، وأبو يعلى (4228). قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 421): رجال أبي يعلى رجال الصحيح، وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وقد وثقه غير واحد وضعَّفه غيرهم، وإسناد البزار فيه خلاف. وأخرجه الآجري في «الشريعة» (612)، وابن منده في «الرد على الجهمية» (92)، والدارقطني في «الرؤية» (60، 62) من طرق عن ليث عن عثمان بن عمير عن أنس، وعثمان ضعيف. وقد جمع المؤلف طرقه في «تهذيب السنن» (3/ 255 - 258)، وفي «حادي الأرواح» (2/ 651 - 657)، وقال: هذا حديث كبير عظيم الشأن رواه أئمة السنة وتلقوه بالقبول. وصححه الألباني بمجموع طرقه في «الصحيحة» (1933).
(3)
رقم (4623). وأخرجه أيضًا أبو يعلى (5729)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 509). وفي إسناده ثوير بن أبي فاختة ضعيف. وأخرجه الترمذي بإثر حديث (2553 و 3330) من طريق الثوري عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر موقوفًا.
(4)
د: «شوق هذه الرؤية» .
أتمُّ منها لأهل الدُّنيا.
الثّالث: أنّه لا سبيلَ في الدُّنيا إلى مشاهدةٍ تُزِيل الشّوقَ البتّةَ. ومن ادّعى هذا فقد كذب، فإنّه لم يحصل هذا لموسى بن عمران كليم الرّحمن فضلًا عمّن دونه. فما هذه المشاهدة التي مذهب هذه الطّائفة مبنيٌّ عليها بحيث لا يكون معها شوقٌ؟ أهي كمال المشاهدة عيانًا وجهرةً؟ سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ. أم نوعٌ من مشاهدة القلب لمعروفه، مع اقترانها بالحجب الكثيرة التي لا يُحصيها إلّا الله؟ فهل تمنع هذه المشاهدة الشّوقَ إلى كمالها وتمامها؟ وهل الأمر إلّا بالعكس في العقل والفطرة والحقيقة، لأنّ من شاهد محبوبه من بعض الوجوه كان شوقه إلى كمال مشاهدته أشدَّ وأعظم، وتكون تلك المشاهدة الجزئيّة سببًا لاشتياقه إلى كمالها وتمامها، فأين العلّة في الشّوق؟ وأين المشاهدة المانعة من الشّوق؟ وهذا بحمد الله ظاهرٌ.
فصل
قال
(1)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ. الدّرجة الأولى: شوق العابد إلى الجنّة، ليأمنَ الخائفُ، ويفرحَ الحزين، ويَظْفَر الآمل).
يعني: شوق العابد إلى الجنّة فيه هذه الحِكَم الثّلاث:
أحدها: حصول الأمن الباعث على العمل، فإنّ الخوف المجرّد عن الأمن من كلِّ وجهٍ لا ينبعث صاحبه لعملٍ البتّةَ إن لم يقارِنْه أمنٌ، فإن تجرّد عنه قُطِع، وصار قنوطًا.
(1)
«المنازل» (ص 74).
الثّاني: فرحُ الحزين، فإنّ الحزن المجرّد أيضًا إن لم يقترن به الفرح قتلَ صاحبَه، فلولا روح الفرح لتعطّلتْ قُوى الحزين وقعدَ به حزنُه، ولكن إذا قعد به الحزن قام به روح الفرح.
الثّالث: روحُ الظَّفر، فإنّ الآمل إن لم يصحبْه روحُ الظَّفر مات أملُه.
فصل
قال
(1)
: (الدّرجة الثّانية: شوقٌ إلى الله عز وجل، زَرَعَه الحبُّ الذي ينبت على حافَاتِ المِنَن، فعَلِقَ قلبه بصفاته المقدّسة، فاشتاق إلى معاينة لطائفِ كرمه، وآياتِ برِّه، وأعلامِ فضله. وهذا شوقٌ تَغْشَاه
(2)
المبارُّ، وتُخالِجُه المَسارُّ، ويُقاوِمه الاصطبار).
الشّوق إلى الله لا يُنافي الشّوقَ إلى الجنّة، فإنّ أطيبَ ما في الجنّة قربُه ورؤيته وسماعُ كلامه ورضاه. نعم، الشّوق إلى مجرّد الأكل والشُّرب والحور العين في الجنّة ناقصٌ جدًّا، بالنِّسبة إلى شوق المحبِّين إلى الله تعالى، بل لا نسبةَ له إليه البتّةَ. وهذا الشّوق درجتان:
إحداهما: شوقٌ زرعَه الحبُّ الذي سببه الإحسان والمِنّة، وهو الذي قال:«ينبتُ على حافَات المِنن» . فسببه مطالعة منّة الله وإحسانه ونعمه.
وقد تقدّم بيان ذلك في منزلة المحبّة وتبيّن أنّ محبّة الأسماء والصِّفات أكمل وأقوى من محبّة الإحسان والآلاء.
(1)
«المنازل» (ص 74).
(2)
في «المنازل» : «تفثأه» .
وفي قوله: (ينبت على حافات المنن) أي جوانبه: إشارةٌ إلى عدم تمكُّنها وقوّتها، وأنّها من نباتِ الحافات التي هي جوانب
(1)
المنن، لا من نبات الأسماء والصِّفات.
قوله: (فعلق قلبه بصفاته المقدّسة)، يعني الصِّفات المختصّة بالمِنَن والإحسان: كالبَرِّ، والمحسن، والجواد، والمعطي، والغفور، ونحوها.
وقوله: (المقدّسة)، يعني المطهَّرة المنزَّهة عن تأويل المحرِّفين وتشبيه الممثِّلين. وإنّما قلنا: إنّ مراده هذه الصِّفات الخاصّة لوجهين:
أحدهما: أنّ تعلُّق القلب بالصِّفات العامّة إنّما يكون في الدّرجة الثّالثة.
الثّاني: أنّه جعل ثمرة هذا التّعلُّق شوقَ العبد إلى معاينة لطائف كرم الرّبِّ ومننه وإحسانه وآيات برِّه، وهي علامات بِرِّه بالعبد وإحسانه إليه، وكذلك أعلام فضله، وهو ما يُفضِّله به على غيره.
وقوله: (وهذا شوقٌ تَغْشاه المَبارُّ)، يعني: أنّه شوقٌ معلولٌ، ليس خالصًا لذات المحبوب. بل لِما ينال منه من المَبارِّ، فقد غَشِيَتْه ــ أي أدركتْه ــ المَبارُّ.
وقوله: (وتُخالجه المَسارُّ)، أي تُجاذبه، فإنّ المخالجة هي المجاذبة، فإذا خالط هذا الشّوق الفرح كان ممزوجًا بنوعٍ من الحظِّ.
وقوله: (ويُقاومه الاصطبار)، أي أنّ صاحبه يقوى على الصّبر، فيقاوم صبره شوقه
(2)
ولا يغلب، بخلاف الشّوق في الدّرجة الثّالثة.
(1)
ش، د:«جواب» .
(2)
ش، د:«صبر مشوقه» .
فصل
قال
(1)
: (الدّرجة الثّالثة: نارٌ أضرمَها صفوُ المحبّة، فنغَّصَتِ العيشَ، وسَلَبت السُّلوةَ، ولم يُنهنِهْها مَقَرٌّ
(2)
دون اللِّقاء).
يريد: أنّ الشّوق في هذه المرتبة شبيهُ النّار التي أضرَمَها صفْوُ المحبّة، وهو خالصها. وشَبَّه
(3)
بالنّار لالتهابه في الأحشاء.
وفي قوله: (صفو المحبّة) إشارةٌ إلى أنّها محبّةٌ لم تكن لأجل المنّة والنِّعم، ولكن محبّةٌ متعلِّقةٌ بالذّات والصِّفات.
قوله: (فنَغَّصتِ العيشَ) ، أي منعتْ صاحبَها السُّكونَ إلى لذيذ العيش. والتّنغيص قريبٌ من التّكدير.
وقوله: (وسَلبتِ السُّلوة)، أي نَهَبتِ السُّلوّ وأخذتْه قهرًا. والسُّلوة هي الخلاص من كَرْبِ المحبّة، وإلقاءُ حِمْلِها عن الظّهر، والإعراضُ عن المحبوب تناسيًا.
وقوله: (لم يُنَهنِهْها مَقَرٌّ دون اللِّقاء) ، أي لم يَكُفَّها ويردَّها قرارٌ دون لقاء المحبوب. وهذه لا يُقاومها الاصطبار، لأنّه لا يَكُفُّها دون لقاء من يحبُّ قرارٌ.
فصل
وقد يقوى هذا الشّوق، ويتجرّد عن الصّبر، فيُسمّى قَلَقًا. وبذلك سمّاه
(1)
«المنازل» (ص 74).
(2)
في «المنازل» : «مُعَزٍّ» . والمثبت موافق لما في «شرح التلمساني» .
(3)
د، ت:«وشبَّهه» .