الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا فعلتَ ذلك صعدتَ من تفرقته إلى جمعيّتك على الله، فإنّ التّخلُّق والتّصوُّف تهذيبٌ واستعدادٌ للجمعيّة. وإنّما سمّاه تفرقةً لأنّه اشتغالٌ بالغير، والسُّلوك يقتضي الإقبال بالكلِّيّة، والاشتغالَ بالرّبِّ وحده عمّا سواه.
ثمّ يصعد إلى ما
(1)
فوق ذلك، وهو مجاوزة الأخلاق كلِّها بأن يغيب عن الخلق والتّخلُّق
(2)
. وهذه الغَيبة لها مرتبتان عندهم:
إحداهما: الاشتغال بالله عن كلِّ ما سواه.
والثّانية: الفناء في الفردانيّة التي يُسمُّونها حضرةَ الجمع، وهي أعلى الغايات عندهم. وهي مَوهبيّةٌ لا كسبيّةٌ، لكنّ العبد إذا تعرَّضَ وصدق في الطّلب رُجِي له الظَّفرُ بمطلوبه. والله أعلم.
فصل
و
مدار حسن الخلق مع الخلق ومع الحق:
على حرفين، ذكرهما الشيخ عبد القادر الكيلانيُّ رحمه الله فقال: كُنْ مع الحقِّ بلا خَلْقٍ، ومع الخَلْق بلا نفسٍ
(3)
.
فتأمّلْ، ما أجلَّ هاتين الكلمتين مع اختصارهما، وما أجمعَهما لقواعد السُّلوك ولكلِّ خلقٍ جميلٍ! وفساد الخُلق إنّما ينشأ من توسُّطِ الخَلق بينك وبين الله، وتوسُّطِ النّفس بينك وبين خلقه. فمتى عزلتَ الخَلق حالَ كونك
(1)
«ما» ليست في ش، د.
(2)
ل: «التخليق» .
(3)
ذكره شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (8/ 338)، والمؤلف في «الرسالة التبوكية» (ص 15).
مع الله، وعزلتَ النّفس حالَ كونك مع الخَلق= فقد فُزتَ بكلِّ ما أشار إليه القوم، وشَمَّروا إليه، وحاموا حولَه. والله المستعان.
* * * *
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : منزلة التّواضع. قال الله تعالى: {الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا} [الفرقان: 63]، أي سكينةً ووقارًا، متواضعين، غير أشِرِين، ولا مَرِحين، ولا متكبِّرين. قال الحسن رضي الله عنه: علماء حلماء
(1)
. وقال محمّد بن الحنفيّة رضي الله عنه: أصحاب وقارٍ وعفّةٍ لا يَسفَهون، وإن سُفِه عليهم حَلُموا
(2)
.
والهَوْن بالفتح في اللُّغة: الرِّفق واللِّين، والهُوْن بالضّمِّ: الهَوان. فالمفتوح صفة أهل الإيمان، والمضموم صفة أهل الكفران، وجزاؤهم من الله.
وقال تعالى: {(53) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى} [المائدة: 54].
لمّا كان الذُّلُّ منهم ذلَّ رحمةٍ وعَطْفٍ وشَفَقةٍ وإخباتٍ= عدّاه بأداة «على» تضمينًا لمعاني هذه الأفعال، فإنّه لم يردْ به ذُلّ الهَوان الذي صاحبه ذليلٌ، وإنّما هو ذلُّ اللِّين والانقياد الذي صاحبه ذَلولٌ. فالمؤمن ذلولٌ، كما في الحديث:«المؤمن كالجمل الذَّلول»
(3)
، والمنافق والفاسق ذليلٌ. وأربعةٌ
(1)
أخرجه الطبري في «تفسيره» (17/ 492، 493). وانظر: «الدر المنثور» (11/ 206).
(2)
«تفسير البغوي» (3/ 375). وفيه ذكر القولين، ويبدو أن المؤلف صادر عنه.
(3)
الحديث بلفظ «المؤمن كالجمل الأنِف حيثما انْقِيد انقادَ» ، أخرجه أحمد (17142)، وابن ماجه (43) والحاكم (1/ 96) وغيرهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. وإسناده حسن.
يَعْشَقهم الذُّلُّ أشدَّ العشق: الكذّاب، والنّمّام، والبخيل، والجبان.
وقوله: {الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى} هو من عزّة القوّة والمنعة والغلبة. قال عطاءٌ رضي الله عنه: للمؤمنين كالولد لوالده، وعلى الكافرين كالسَّبُع على فريسته
(1)
. كما قال في الآية الأخرى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وهذا عكسُ حالِ من قيل فيهم
(2)
:
كِبرًا علينا وجُبنًا عن
(3)
عدوِّكُمُ
…
لبئستِ الخَلَّتانِ الكِبْرُ والجُبُنُ
وفي «صحيح مسلمٍ»
(4)
من حديث عِياض بن حِمارٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله أوحى إليّ أن تواضَعُوا، حتّى لا يفخرَ أحدٌ على أحدٍ، ولا يَبغِي أحدٌ على أحدٍ» .
وفي «صحيح مسلمٍ»
(5)
عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلُ الجنّةَ من كان في قلبه مثقالُ ذرّةٍ من كِبْرٍ» .
(1)
كما في «تفسير البغوي» (2/ 47).
(2)
البيت لقعنب بن أم صاحب باختلاف في الرواية في «الحماسة» بشرح التبريزي (4/ 12)، و «سمط اللآلي» (1/ 362)، و «مختارات ابن الشجري» (1/ 6)، و «الحماسة البصرية» (2/ 948).
(3)
ش، د:«في» .
(4)
رقم (2865).
(5)
رقم (91).
وفي «الصّحيحين»
(1)
مرفوعًا: «ألا أُخبِركم بأهل النّار؟ كلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُستكبرٍ» .
وفي حديث احتجاج الجنّة والنّار أنّ النّار قالت: «ما لي لا يدخلني إلّا الجبّارون، والمتكبِّرون؟» وهو في «الصّحيح»
(2)
.
وفي «صحيح مسلمٍ»
(3)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: العزّة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فقد عذَّبتُه» .
وفي جامع التِّرمذيِّ
(4)
مرفوعًا: «لا يزال الرّجلُ يذهبُ بنفسه حتّى يُكتَب في ديوان الجَبَّارين، فيُصِيبه ما أصابهم» .
وكان النّبيُّ صلى الله عليه وسلم يمرُّ على الصِّبيان فيُسَلِّم عليهم
(5)
.
وكانت الأَمة تأخذُ بيده صلى الله عليه وسلم، فتَنْطلِقُ به حيثُ شاءت
(6)
.
(1)
البخاري (4918، 6071) ومسلم (2853) من حديث حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه.
(2)
البخاري (4850) ومسلم (2846) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رقم (2620).
(4)
رقم (2000) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» . وفي إسناده عمر بن راشد ضعيف.
(5)
أخرجه البخاري (6247) ومسلم (2168) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(6)
أخرجه أحمد (11941)، وعلَّقه البخاري (6071) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وكان إذا أكلَ لَعِقَ أصابعَه الثّلاث
(1)
.
وكان يكون في بيته في خدمة أهله
(2)
. ولم يكن ينتقم لنفسه قطُّ
(3)
.
وكان يَخْصِفُ نعلَه، ويُرقِّع ثوبَه، ويَحلُب الشّاة لأهله، ويَعْلِف البعيرَ، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكينَ، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لَقِيَه بالسّلام، ويجيب دعوةَ من دعاه ولو إلى أيسرِ شيءٍ
(4)
.
وكان هَيِّنَ المُؤنة، ليِّن الخُلق، كريمَ الطَّبع جميلَ المعاشرة، طَلْقَ الوجه، بسّامًا، متواضعًا من غير ذلّةٍ، جوادًا من غير سَرَفٍ، رقيقَ القلب، رحيمًا بكلِّ مسلمٍ، خافضَ الجَناح للمؤمنين، ليِّنَ الجانب لهم.
وقال: «ألا أُخبِركم بمن يحرم على النّار ــ أو تحرم عليه النّار ــ؟ تحرم على كلِّ قريبٍ هيِّنٍ ليِّنٍ سَهْلٍ» . رواه التِّرمذيُّ
(5)
، وقال: حسنٌ.
وقال: «لو دعيت إلى كُراعٍ أو ذِراعٍ لأجبتُ، ولو أُهدِي إليّ ذراعٌ أو
(1)
أخرجه مسلم (2034) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (676، 5363، 6039) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه البخاري (3560، 6126) ومسلم (2327) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
وردت هذه الصفات في عدة أحاديث معروفة في «الصحيحين» و «شمائل» الترمذي وغيرها.
(5)
رقم (2488) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. ورواه أيضًا أحمد (3938)، وأبو يعلى (5053)، والطبراني في «الكبير» (10562). وصححه ابن حبان (469، 470). وفي إسناده الأودي ــ وهو عبد الله بن عمر ــ لم يروِ عنه غير موسى بن عقبة، ولم يوثّقه غير ابن حبان. وله شواهد يتقوى بها.
كُراعٌ لقبلتُ». رواه البخاريُّ
(1)
.
وكان يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد
(2)
.
وكان يومَ قُريظةَ على حمارٍ مَخْطومٍ بحبلٍ من لِيفٍ، عليه إكَافٌ من لِيفٍ
(3)
.
فصل
سئل الفُضيل
(4)
بن عياضٍ رضي الله عنه عن التّواضع؟ فقال: تَخضع للحقِّ، وتنقاد له، وتقبله ممّن قاله
(5)
.
وقيل: التّواضع أن لا ترى لنفسك قيمةً، فمن رأى لها قيمةً فليس له في التّواضع نصيبٌ
(6)
.
وهذا مذهب الفضيل وغيره.
(1)
رقم (2568، 5178) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
هذه أمور معروفة من هديه صلى الله عليه وسلم.
(3)
أخرجه الترمذي (1017) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مسلم عن أنس. ومسلم الأعور يضعّف، وهو مسلم بن كيسان الملائي، تُكلِّم فيه، وقد روى عنه شعبة وسفيان.
(4)
د: «فضيل» .
(5)
«الرسالة القشيرية» (ص 382). وهو في «التواضع والخمول» لابن أبي الدنيا (88)، و «طبقات الصوفية» (ص 11).
(6)
المصدر السابق (ص 382)، ونسبه إلى الفضيل. وهو في «تاريخ دمشق» (48/ 419).
وقال الجنيد رحمه الله: هو خَفْض الجَناح، ولينُ الجانب
(1)
.
وقال أبو يزيد رحمه الله: هو أن لا يرى لنفسه مقامًا ولا حالًا، ولا يرى في الخلق شرًّا منه
(2)
.
وقال ابن عطاءٍ رحمه الله: هو قبول الحقِّ ممّن كان
(3)
.
والعزُّ في التّواضع، فمن طلبَه في الكِبْر فهو كتطلُّبِ الماء من النّار.
قال إبراهيم بن شَيبان: الشَّرف في التّواضع، والعزُّ في التّقوى، والحرِّيّة في القناعة
(4)
.
ويُذكر عن سفيان الثّوريِّ رضي الله عنه أنّه قال: أعزُّ الخلق خمسةُ أنفُسٍ: عالمٌ زاهدٌ، وفقيهٌ صوفيٌّ، وغنيٌّ متواضعٌ، وفقيرٌ شاكرٌ، وشريفٌ سنِّيٌّ
(5)
.
وقال عروة بن الزُّبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه رضي الله عنه على عاتقِه قِرْبةُ ماءٍ، قلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا، فقال: لمّا أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلتْ نفسي نَخْوةٌ، فأحببتُ أن أَكسِرها
(6)
.
(1)
المصدر السابق (ص 383). وهو في «طبقات الشافعية» (2/ 263).
(2)
المصدر السابق (ص 383).
(3)
المصدر السابق (ص 384). وهو في «طبقات الصوفية» (ص 396) لمظفّر القرميسيني.
(4)
المصدر السابق (ص 383). وهو في «عيون الأخبار» (1/ 268) بلا نسبة.
(5)
المصدر السابق (ص 384).
(6)
«الرسالة القشيرية» (ص 384). وانظر: «المجالسة» للدينوري (417)، و «تاريخ دمشق» (44/ 318)، و «تاريخ الإسلام» (2/ 138).
وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارةً مرّةً، فكان يحمل حُزْمةَ الحطب على ظهره، وهو يقول: طرِّقوا للأمير
(1)
.
وركب زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه، فدنا ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما ليأخذ برِكابه، فقال: مَهْ يا ابنَ عمِّ رسول الله! فقال: هكذا أُمِرنا أن نفعل بكُبرائنا، فقال زيد: أَرِني يدَك، فأخرجها إليه فقبّلَها وقال: هكذا أُمِرنا أن نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وقَسَم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بين الصّحابة حُلَلًا، فبعث إلى معاذٍ حلّةً مثمنةً، فباعها واشترى بثمنها ستّةَ أعبُد وأعتقَهم، فبلغَ عمر، فبعث إليه بعد ذلك حُلّةً دونها، فعاتبَه معاذٌ، فقال: لأنّك بعتَ الأولى. فقال معاذٌ رضي الله عنه: وما عليك؟ ادفعْ لي نصيبي، وقد حلفتُ لأضربنّ بها رأسك. فقال عمر رضي الله عنه: رأسي بين يديك، وقد يَرْفُق الشّابُّ بالشّيخ
(3)
.
ومرّ الحسن بن علي بصبيانٍ معهم كِسَرُ خبزٍ، فاستضافوه، فنزلَ فأكل معهم، ثمّ حملهم إلى منزله، وأطعمهم وكساهم، وقال: اليدُ لهم، لأنّهم لم يجدوا شيئًا غير ما أطعموني، ونحن نجد أكثر منه
(4)
.
(1)
«الرسالة القشيرية» (ص 384). وانظر: «الزهد» لأبي داود (284)، و «حلية الأولياء» (1/ 385)، و «تاريخ دمشق» (67/ 373)، و «سير أعلام النبلاء» (2/ 614).
(2)
«الرسالة القشيرية» (ص 384). ورواه الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/ 484)، والطبراني في «المعجم الكبير» (4746)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 514)، والدينوري في «المجالسة» (1314).
(3)
«الرسالة القشيرية» (ص 388). ونحوه في «تاريخ دمشق» (58/ 165).
(4)
المصدر نفسه (ص 387).
ويُذكر أنّ أبا ذرٍّ عيَّر بلالًا بسواده، ثمّ إنه نَدِم، فألقى نفسَه وحلف: لا رفعتُ رأسي حتّى يطأَ بلالٌ خدِّي بقدمِه. فلم يرفع رأسه حتّى فعل بلالٌ
(1)
.
وقال رجاء بن حَيْوة: قَوّمتُ ثيابَ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ــ وهو يخطب ــ باثني عشر درهمًا، وكانت قَباءً وعمامةً وقميصًا وسراويل ورداءً وخفّين وقلنسوةً
(2)
.
ورأى محمّد بن واسعٍ ابنًا له يمشي مِشيةً منكرةً، فقال: تدري بكم اشتريتُ أمّك؟ بثلاثمائة درهمٍ، وأبوك ــ لا أكثرَ الله في المسلمين مثلَه ــ أنا
(3)
، وأنت تمشي هذه المِشية
(4)
!
وقال حَمْدون القصّار رحمه الله: التّواضع أن لا ترى لأحدٍ إلى نفسك حاجةً، لا في الدِّين ولا في الدُّنيا
(5)
.
وقال إبراهيم بن أدهم: ما سُرِرتُ في إسلامي إلّا ثلاثَ مرّاتٍ: كنت في سفينةٍ، وفيها رجلٌ مِضحاكٌ كان يقول: كنّا في بلاد التُّرك نأخذ العِلْجَ هكذا، وكان يأخذ بشعر رأسي ويَهُزُّني، لأنّه لم يكن في تلك السّفينة أحدٌ أحقر منِّي. والأخرى: كنتُ عليلًا في مسجدٍ، فدخل المؤذِّن وقال: اخرجْ. فلم أُطِقْ،
(1)
«الرسالة القشيرية» (ص 387). وهو في «تاريخ دمشق» (10/ 464) بسياق آخر.
(2)
«الرسالة القشيرية» (ص 386). ورواه أبو نعيم في «الحلية» (5/ 323)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (8/ 263).
(3)
ل: «أبًا» .
(4)
«الرسالة القشيرية» (ص 386). ورواه ابن سعد في «الطبقات» (7/ 242)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 350)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (56/ 159).
(5)
«الرسالة القشيرية» (ص 387).
فأخذ برجلي وجرَّني إلى خارجٍ. والأخرى: كنت بالشّام وعليّ فَرْوٌ، فنظرتُ فيه، فلم أميِّز بين شَعره وبين القَمْل لكثرته، فسرَّني ذلك
(1)
.
وفي روايةٍ أخرى: كنت يومًا جالسًا، فجاء إنسانٌ وبال عليّ
(2)
.
وقال بعضهم: رأيت في الطّواف رجلًا بين يديه شاكريّةٌ
(3)
يمنعون النّاس لأجله عن الطّواف، ثمّ رأيتُه بعد ذلك بمدّةٍ على جسر بغداد يسأل شيئًا، فتعجّبتُ منه، فقال لي: إنِّي تكبَّرتُ في موضعٍ يتواضع النّاس هناك، فابتلاني الله بالذُّلِّ في موضعٍ يترفّع
(4)
فيه النّاس
(5)
.
وبلغ عمرَ بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنّ ابنًا له اشترى خاتمًا بألف درهمٍ، فكتب إليه عمر: بلغني أنّك اشتريتَ فَصًّا بألف درهمٍ، فإذا أتاك كتابي فبِعِ الخاتم، وأشبِعْ به ألفَ بطنٍ، واتّخذْ خاتمًا بدرهمين، واجعَلْ فَصَّه حديدًا صينيًّا، واكتب عليه: رحم الله امرءًا عرفَ قدْرَ نفسه
(6)
.
فصل
أوّل ذنبٍ عصى الله به أبوا الثّقلين: الكِبر والحرص. فكان الكبر ذنب
(1)
«الرسالة القشيرية» (ص 387).
(2)
المصدر نفسه (ص 387). كذا نقل عنه، والإسلام بريء من هذا التواضع البارد.
(3)
كلمة معرَّبة عن الفارسية بمعنى الخدَّام، مفردها: شاكري.
(4)
ل: «يرتفع» .
(5)
«الرسالة القشيرية» (ص 385، 386). وأورده الخركوشي في «تهذيب الأسرار» (ص 703) عن محمد بن شبة.
(6)
المصدر نفسه (ص 386).
إبليس اللّعين، فآل أمره إلى ما آل إليه. وذنب آدم ــ صلى الله على نبيِّنا وعليه وسلَّم ــ كان من الحرص والشّهوة، فكان عاقبته التّوبة والهداية. وذنب إبليس حمله على الاحتجاج بالقدر والإصرار، وذنب آدم عليه السلام أوجب له إضافتَه إلى نفسه، والاعتراف به والاستغفار.
فأهل الكبر والإصرار والاحتجاج بالأقدار: مع شيخهم وقائدهم إلى النّار إبليس. وأهل الشّهوة المستغفرون التّائبون المعترفون بالذُّنوب، الذين لا يحتجُّون عليها بالقدر: مع أبيهم آدم في الجنّة.
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: المتكبِّر شرٌّ من المشرك فإنّ المتكبِّر متكبِّر عن عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد الله وغيره.
قلت: ولذلك جعل الله النّار دار المتكبِّرين، كما قال تعالى في سورة غافرٍ:{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [آية: 76]، وقال في سورة النّحل:{أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)} [آية: 29]، وقال في سورة تنزيل:{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60].
وأخبر أنّ أهل الكبر والتّجبُّر هم الذين طبع الله على قلوبهم، فقال:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنّةَ من كان في قلبه مِثقالُ ذرّةٍ من كِبْرٍ» . رواه مسلمٌ رحمه الله
(1)
.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، تنبيه على أنّه لا
(1)
رقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
يغفر الكِبر الذي هو أعظم من الشِّرك، وكما أنّ من تواضع لله
(1)
رفعه الله، فكذلك من تكبّر عن الانقياد للحقِّ
(2)
أذلَّه ووضعَه. ومن تكبّر عن الانقياد للحقِّ ولو جاءه على يد صغيرٍ، أو من يبغضه ويعاديه= فإنّما تكبَّر على الله، فإنّ الله هو الحقُّ، وكلامه حقٌّ، ودينه حقٌّ، والحقُّ صفته ومنه وله. فإذا ردَّه العبد وتكبَّر عن قبوله، فإنّما ردَّ
(3)
على الله، وتكبَّر عليه.
فصل
قال صاحب «المنازل» رحمه الله
(4)
: (التّواضع: أن يتواضع العبد لِصَوْلة الحقِّ).
يعني: أن
(5)
يتلقّى سلطانَ الحقِّ بالخضوع له والذُّلِّ والانقياد، والدُّخولِ تحت رقِّه، بحيث يكون الحقُّ متصرِّفًا فيه تصرُّفَ المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد خُلق التّواضع. ولهذا فسّر النّبيُّ صلى الله عليه وسلم الكبر بضدِّه، فقال: «الكبر بَطَرُ الحقِّ، وغَمْص
(6)
النّاس». فبطَرُ الحقِّ: ردُّه وجَحْدُه، والدّفع في صدره كدفع الصّائل. وغَمْص
(7)
النّاس: احتقارهم
(1)
«لله» ليست في ش، د.
(2)
«للحق» ليست في ل.
(3)
ش، د:«رده» .
(4)
(ص 46).
(5)
ش، د:«أنه» .
(6)
كذا في ل وهامش ش. وفي د، ش:«غمط» . والرواية بالوجهين، وكلاهما بمعنًى. فهو عند مسلم (91) بالطاء، وعند الترمذي (1999) وابن حبان (5466) بالصاد، كلهم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وفي الباب عن غيره.
(7)
ش، د:«غمط» .
وازدراؤهم. ومتى احتقرهم وازدراهم دفعَ حقوقَهم. وجحدها، واستهان بها.
ولمّا كان لصاحب الحقِّ مقالٌ وصَولةٌ، كانت النُّفوس المتكبِّرة لا تُقِرُّ له بالصّولة على تلك الصّولة التي فيها، ولا سيّما النُّفوس المُبطِلة، فتصول على صولة الحقِّ بكِبْرها وباطلها. فكان حقيقة التّواضع: خضوع العبد لصولة الحقِّ، وانقياده لها، فلا يقابلها بصولته عليها.
قال
(1)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ، الدّرجة الأولى: التّواضع للدِّين، وهو أن لا يعارِض بمعقولٍ منقولًا، ولا يتّهم للدِّين دليلًا، ولا يرى إلى الخلاف سبيلًا).
التّواضع للدِّين هو الانقياد لما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم، والاستسلام له والإذعان. وذلك بثلاثة أشياء:
الأوّل: أن لا يعارض شيئًا ممّا جاء به من المعارضات الأربعة السّارية في العالم، المسمّاة: بالمعقول، والقياس، والذّوق، والسِّياسة.
فالأول: للمنحرفين أهلِ الكِبْر من المتكلِّمين، الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة، وقالوا: إذا تعارض العقل والنّقل قدَّمنا العقلَ وعزلنا النّقل، إمّا عزلَ تفويضٍ، وإمّا عزلَ تأويلٍ.
والثّاني: للمتكبِّرين من المنتسبين إلى الفقه، قالوا: إذا عارض القياسُ والرّأيُ النُّصوصَ قدّمنا القياس على النّصِّ، ولم نلتفت إليه.
(1)
«المنازل» (ص 47).
والثّالث: للمتكبِّرين المنحرفين من المنتسبين إلى التّصوُّف والزُّهد، إذا تعارض عندهم الذّوق والأمر قدّموا الذّوق والحال، ولم يَعْبؤوا بالأمر.
والرّابع: للمتكبِّرين المنحرفين من الولاة والأمراء الجائرين، إذا تعارضت عندهم الشّريعة والسِّياسة قدّموا السِّياسة، ولم يلتفتوا إلى حكم الشّريعة.
فهؤلاء الأربعة هم أهل الكبر. والتّواضع: التّخلُّص من ذلك كلِّه.
الثّاني: أن لا يتّهم دليلًا من أدلّة الدِّين، بحيث يظنُّه فاسد الدّلالة، أو ناقصَ الدّلالة أو قاصرَها، أو أنّ غيره كان أولى منه. ومتى عرض له شيءٌ من ذلك فليتّهِمْ فهمه، وليعلَمْ أنّ الآفة منه، والبليّة فيه، كما قيل
(1)
:
وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا
…
وآفتُه من الفهم السّقيمِ
ولكن تأخذُ الأذهانُ منه
…
على قدْرِ القرائحِ والفُهوم
وهكذا الواقع في الواقع حقيقةً: أنّه ما اتَّهَم أحدٌ دليلًا للدِّين إلّا وكان هو المتّهم الفاسد الذِّهن، المأووف
(2)
في عقله وذهنه. فالآفة من الذِّهن العليل، لا في نفس الدّليل.
وإذا رأيتَ من أدلّة الدِّين ما يُشكِل عليك، وينبو فهمك عنه، فاعلم أنّه لعظمته وشرفه استعصى عليك، وأنّ تحته كنز
(3)
من كنوز العلم لم تُؤتَ مفتاحَه بعدُ. هذا في حقِّ نفسك.
(1)
البيتان للمتنبي في «ديوانه» (2/ 246).
(2)
أي الذي أصابته آفة.
(3)
كذا في الأصول مرفوعًا.
وأمّا بالنِّسبة إلى غيرك فاتّهِمْ آراء الرِّجال على نصوص الوحي، وليكن ردُّها أيسرَ شيءٍ عليك للنُّصوص، فما لم تفعل ذلك فلستَ على شيءٍ ولو
…
ولو
…
، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء.
قال الشّافعيُّ قدّس الله روحه: وأجمع المسلمون على أنّ من استبانتْ له سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحلَّ له أن يدَعَها لقول أحدٍ
(1)
.
الثّالث: أن
(2)
لا يجد إلى خلاف النّصِّ سبيلًا البتّةَ، لا بباطنه، ولا بلسانه، ولا بفعله، ولا بحاله. بل إذا أحسَّ بشيءٍ من الخلاف فهو كخلاف المُقْدِم على الزِّنا، وشرب الخمر، وقتل النّفس. بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك، وهو داعٍ إلى النِّفاق، وهو الذي خافه الكبار والأئمّةُ على نفوسهم.
واعلم أنّ المخالف للنّصِّ لقول متبوعه وشيخه ومقلَّدِه، أو لرأيه ومعقوله وذوقه وسياسته، إن كان عند الله معذورًا ــ ولا والله ما هو بمعذورٍ ــ فالمخالف لقوله لنصوص الوحي أولى بالعذر عند الله وعند رسوله، وملائكته والمؤمنين من عباده.
فواعجبًا! إذا اتّسع بِطانُ
(3)
المخالفين للنُّصوص لعذر من خالفها
(4)
(1)
بهذا اللفظ ذكر المؤلف قول الشافعي في «الرسالة التبوكية» (ص 40)، و «الروح» (2/ 735)، و «أعلام الموقعين» (1/ 11). ولفظ الشافعي في «الأم» (7/ 275):«ولا يجوز لعالمٍ أن يدع قول النبي صلى الله عليه وسلم لقولِ أحدٍ سواه» . ونحوه في (1/ 177) و «الرسالة» (ص 330).
(2)
ش، ل:«أنه» .
(3)
حزام يُشدُّ على البطن.
(4)
ل: «للعذر من خالقها» .
تقليدًا أو تأويلًا أو لغير ذلك، فكيف ضاق عن عذرِ من خالف أقوالهم وأقوال شيوخهم لأجل موافقة النُّصوص؟ وكيف نَصَبوا له الحبائلَ، وبَغَوه الغوائلَ، ورَمَوه بالعظائم، وجعلوه أسوأ حالًا من أرباب الجرائم؟ فرَمَوه بدائهم وانسَلُّوا منه لِوَاذًا، وقَذَفوه بمُصَابِهم
(1)
وجعلوا تعظيم المتبوعين ملاذًا لهم ومعاذًا!
فصل
قال
(2)
: (ولا يصحُّ ذلك إلّا بأن يعلم: أنّ النّجاة في البصيرة، والاستقامة بعدَ الثِّقة، وأنّ البيِّنة وراء الحجّة).
يقول: إنّ ما ذكرناه من التّواضع للدِّين بهذه الأمور الثّلاثة:
علْمُه أنّ النّجاة من الشّقاء والضّلال إنّما هي في البصيرة، فمن لا بصيرةَ له فهو من أهل الضّلال في الدُّنيا والشّقاءِ في الآخرة
(3)
.
والبصيرة نورٌ يجعله الله في عين القلب، يُفرِّق به بين الحقِّ والباطل، ونسبته إلى القلب كنسبة ضوء العين إلى العين.
وهذه البصيرة وهبيّةٌ
(4)
وكسبيّة، فمن أدام النّظر في أعلام الحقِّ وأدلّته، وتجرَّد لله عن هواه= استنارت بصيرته، ورُزِق فرقانًا يُفرِّق به بين الحقِّ والباطل.
(1)
د: «بمصائبهم» .
(2)
«المنازل» (ص 47).
(3)
ل: «الأخرى» .
(4)
ش، د:«موهبية» .
الثّاني: أن يعلم أنّ الاستقامة إنّما تكون بعد الثِّقة، أي لا يُتصوَّر حصول الاستقامة في القول والعمل والحال إلّا بعد الثِّقة بصحّة ما معه من العلم، وأنّه مقتبسٌ من مشكاة النُّبوّة. ومن لم يكن كذلك فلا ثقةَ له، فلا استقامةَ له.
الثّالث: أن يعلم أنّ البيِّنة وراء الحجّة. البيِّنة مراده بها: استبانة الحقِّ وظهورُه، وهذا إنّما يكون بعد الحجّة، فإنّ الحجة إذا قامت استبان الحقُّ وظهر واتّضح.
وفيه معنًى آخر، وهو: أنّ العبد إذا قبل حجّة الله بمحض الإيمان والتّسليم والانقياد، كان هذا القبول هو سبب تبيُّنها له وظهورها وانكشافها لقلبه. فلا يصير على بيِّنةٍ من ربِّه إلّا بعد قبول حجّته.
وفيه معنًى آخر أيضًا، وهو: أنّه لا يتبيّن له عيبُ عملِه من صحّته إلّا بعد العلم الذي هو حجّة الله على العبد، فإذا عرف الحجّة اتّضح
(1)
له بها ما كان مشكلًا عليه من علومه، وما كان مَعِيبًا من أعماله.
وفيه معنًى آخر أيضًا، وهو: أن يكون «وراء» بمعنى أمام، والمعنى: أنّ الحجّة إنّما تحصل للعبد بعد تبيُّنها، فإذا لم تَتبيَّن له لم يكن له حجّةٌ، يعني: فلا يقنع من الحجّة بمجرّد حصولها بلا تبيُّنٍ، فإنّ التّبيُّن أمام الحجّة.
فصل
قال
(2)
: (الدّرجة الثّانية: أن ترضى
(3)
بمن رضي الحقُّ به لنفسه عبدًا من
(1)
ش، د:«أفصح» .
(2)
«المنازل» (ص 47).
(3)
في النسخ: «يرضى» . والمثبت من «المنازل» ، وهو الموافق للسياق.