الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلَّ وقتٍ تتلوَّنْ
…
غيرُ هذا
(1)
بك أجمَلْ
قال
(2)
: (وهو على ثلاث درجاتٍ.
الدّرجة الأولى: صفاء علمٍ يُهذِّب
(3)
لسلوك الطّريق، ويُبصِّر غايةَ الجدِّ، ويُصحِّح همّةَ القاصد).
ذكر الشّيخ له في هذه الدّرجة ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: (علمٌ يهذِّب لسلوك الطّريق)، وهذا العلم الصّافي الذي أشار إليه هو العلم الذي أوصى به القوم، وحذَّروا من مفارقته، وأخرجوا مَن فارقَه من أهل الطريق بالكلية. وهو العلم الذي جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وكان الجنيد يقول دائمًا
(4)
: علمُنا هذا مقيَّدٌ بالكتاب والسُّنّة. من لم يحفظِ القرآن ولم يكتبِ الحديث ولم يفقَهْ فلا يُقتدى به
(5)
.
وقال غيره من العارفين: كلُّ حقيقةٍ لا تَتبعها شريعةٌ فهي كفرٌ.
وقال الجنيد: علمنا هذا مُشتبك
(6)
بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
ر: «ترك هذا» .
(2)
«المنازل» (ص 83).
(3)
ت: «يهدي» .
(4)
ت: «إنما» .
(5)
تقدم هذا وما يليه من الأقوال فيما مضى (ص 270، 271)، وهناك التخريج.
(6)
ر: «متشبك» .
وقال أبو سليمان الدّارانيُّ: إنّه لتمرُّ بقلبي النُّكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلّا بشاهدينِ من الكتاب والسُّنّة.
وقال النّصراباذيُّ: أصلُ هذا المذهب ملازمة الكتاب والسُّنّة، وتركُ الأهواء والبدع، والاقتداء بالسّلف، وتركُ ما أحدثه الآخرون، والإقامة على ما سلكه الأوّلون.
وقد تقدّم ذكر بعض ذلك
(1)
.
فهذا العلم الصّافي المتلقّى من مشكاة الوحي والنُّبوّة يهذِّب صاحبَه لسلوك طريق العبوديّة، وحقيقة
(2)
التّأدُّبِ بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا
(3)
، والوقوف معه حيث وقف بك، والمسير معه
(4)
حيث سار بك، بحيث تجعله بمنزلة شيخك الذي قد ألقيتَ إليه أمرَك كلّه سِرَّه وظاهرَه، واقتديتَ به في جميع أحوالك
(5)
، ووقفتَ مع ما يأمرك به فلا تخالفه البتّةَ. فتجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لك شيخًا وإمامًا وقدوةً وحاكمًا، وتُعلِّق قلبك بقلبه الكريم، وروحانيّتَك بروحانيّته، كما يُعلِّق المريد روحانيّته بروحانيّة شيخه. فتُجِيبه إذا دعاك، وتَقِفُ إذا استوقفك، وتسير إذا سار بك، وتَقِيل إذا قال، وتترك إذا ترك
(6)
، وتغضب لغضبه، وترضى لرضاه. وإذا أخبرك عن شيءٍ أنزلتَه منزلةَ ما تراه بعينك، وإذا
(1)
(ص 271).
(2)
ر: «وحقيقتها» .
(3)
بعدها في ر، ت:«وتحكيمه باطنًا وظاهرًا» .
(4)
«معه» ليست في ش.
(5)
ت: «أحواله» .
(6)
ر، ت:«وتنزل إذا نزل» .
أخبرك عن الله بخبرٍ أنزلتَه منزلةَ ما تسمعه من الله بأذنك.
وبالجملة: فتجعل الرّسولَ شيخك وأستاذك، ومعلِّمك ومربِّيك ومؤدِّبك، وتُسقِط الوسائطَ بينك وبينه إلّا في التّبليغ، كما تُسقِط الوسائط
(1)
بينك وبين المرسل في العبوديّة، ولا تُثبِت وساطةً إلّا في وصول أمره ونهيه ورسالته إليك.
وهذان التّجريدان حقيقة شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا رسول الله
(2)
. فالله وحده المعبود المألوه، الذي لا يستحقُّ العبادةَ سواه، ورسولُه المُطاع المتَّبَع المقتدَى به، الذي لا يستحقُّ الطّاعةَ سواه. ومَن سِواه فإنّما يُطاع إذا أمر بطاعته، فيطاع تبعًا لا أصلًا
(3)
.
وبالجملة: فالطّريق مسدود إلّا على من اقتفى آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتدى به في ظاهره وباطنه.
فلا يتعنَّى السّالكُ على غير هذه الطّريق، فليس حظُّه من سلوكه إلّا التّعب، وأعمالُه {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ يَحْسِبُهُ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ} [النور: 39].
ولا يتعنّى السّالك على هذه الطّريق
(4)
، فإنّه واصلٌ ولو زحفَ زحفًا. فأتباعُ الرّسول إذا قعدتْ بهم أعمالُهم قامتْ بهم عزائمُهم وهِممُهم
ومتابعتهم لنبيِّهم، فهم كما قيل
(1)
:
مَن لي بمثل سَيْرِك المدلَّلِ
…
تَمشي رُويدًا وتَجِيْ في الأوَّل
والمنحرفون عن طريقته
(2)
إذا قامتْ بهم أعمالُهم واجتهاداتُهم قعدَ بهم عدولُهم عن طريقه.
فهُمْ في السُّرى لم يَبْرَحُوا من مكانِهم
…
وما ظَعَنوا في السَّيرِ عنه وقد كَلُّوا
(3)
قوله: (ويُبصِّر غايةَ الجدِّ).
الجدُّ: الاجتهاد والتّشمير، والغاية: النِّهاية. يريد أنّ صفاء العلم يَهدي صاحبَه إلى الغاية المقصودة بالاجتهاد والتّشمير، فإنّ كثيرًا من السّالكين بل أكثرهم سالكٌ بجدِّه واجتهاده، غير متنبِّه
(4)
إلى المقصود.
وأضرب لك في هذا مثالًا
(5)
حسنًا جدًّا، وهو: أنّ قومًا قَدِموا من بلادٍ بعيدةٍ عليهم أنس
(6)
النّعيم والبهجة والملابس السّنيّة والهيئة المُعجِبة
(7)
،
(1)
تقدم الرجز (ص 366). وقد أنشده شيخ الإسلام كما في «الرد الوافر» (ص 85)، و «المنهل الصافي» (1/ 53)، والمؤلف في «مفتاح دار السعادة» (1/ 227)، و «طريق الهجرتين» (2/ 504).
(2)
ت، ر:«طريقه» .
(3)
البيت لابن الفارض، وقد تقدم (ص 530).
(4)
ر: «منتبه» .
(5)
ر: «مثلا» .
(6)
ر: «أثر» .
(7)
ر: «العجيبة» .
فعجِب النّاس لهم، فسألوهم عن حالهم، فقالوا: بلادنا من أحسنِ البلاد، وأجمعِها لسائر أنواع النّعيم، وأرخاها، وأكثرِها مياهًا، وأصحِّها هواءً، وأكثرها فاكهةً، وأعظمها اعتدالًا، وأهلها كذلك أحسن النّاس صورًا وأبشارًا. ومع هذا فمَلِكُها لا يناله الوصف جمالًا وكمالًا، وإحسانًا وعلمًا وحلمًا، وجودًا ورحمةً للرّعيّة، وقربًا منهم. وله الهيبة والسّطوة على سائر ملوك الأطراف، فلا يطمع أحدٌ منهم في مقاومته ومحاربته. فأهلُ بلدِه في أمانٍ من عدوِّهم، لا يحلُّ الخوف بساحتهم. ومع هذا فله أوقاتٌ يَبْرُز فيها إلى رعيَّته، فيُسهِّل لهم الدُّخول عليه، ويرفع الحجاب بينه وبينهم، فإذا وقعت أبصارهم عليه تلاشى كلُّ ما هم فيه من النّعيم واضمحلّ، حتّى لا يلتفتون إلى شيءٍ منه. فإذا أقبلَ على واحدٍ منهم أقبلَ عليه سائر أهل المملكة بالتّعظيم والإجلال، ونحن رسلُه إلى أهل البلاد ندعوهم إلى حضرته، وهذه كُتُبه إلى النّاس، ومعنا من الشُّهود ما يُزِيل سوء الظّنِّ بنا، واتِّهامنا بالكذب عليه.
فلمّا سمع النّاس ذلك وشاهدوا أحوالَ الرُّسل انقسموا أقسامًا:
فطائفةٌ قالت: لا نفارق أوطاننا، ولا نخرج من ديارنا، ولا نتجشَّم مشقّة السّفر البعيد، وتَرْك ما أَلِفناه من عيشنا ومنازلنا، ومفارقة آبائنا وأبنائنا وإخواننا، لأمرٍ وعدنا به في غير هذه البلاد، ونحن لم نقدر على تحصيل ما نحن فيه إلّا بعد الجهد والمشقّة، فكيف ننتقل عنه؟
ورأت هذه الفرقة مفارقتها لأوطانها وبلادها كمفارقة أنفسها لأبدانها، فإنّ النّفس لشدّة إِلْفها بالبدن أكرهُ ما إليها مفارقته، ولو فارقَتْه إلى النّعيم المقيم.
فهذه الطّائفة غلب عليها داعي الحسِّ والطّبع على داعي العقل.
والطّائفة الثّانية: لمّا رأت حالَ الرُّسل، وما هم فيه من البهجة وحسن الحال، وعلموا صدقهم= تأهَّبوا للمسير إلى بلاد الملك، فأخذوا في السَّير، فعارضهم أهلُهم وأصحابهم وعشائرهم من القاعدين، وعارضَتْهم مساكنُهم ودورهم وبساتينهم، فجعلوا يُقدِّمون رِجلًا ويؤخِّرون أخرى، فإذا تذكّروا طيبَ بلاد الملك وما فيها من سلوة العيش تقدَّموا نحوها، وإذا عارضهم ما أَلِفوه واعتادوا من ظلال بلادهم وعيشها وصحبةِ أهلهم وأصحابهم تأخّروا عن المسير، والتفتوا إليهم. فهم دائمًا بين الدّاعيَيْنِ والجاذبينِ، إلى أن يغلب أحدهما ويقوى على الآخر، فيصيرون إليه.
والطّائفة الثّالثة: ركبتْ ظهورَ عزائمها، ورأتْ أنّ بلاد الملك أولى بها، فوطَّنتْ أنفسَها على قصدها، ولم يَثْنِها لومُ اللُّوّام. لكن في سيرها بطءٌ بحسب ضعفِ ما كُشِف لها من أحوال تلك البلاد وحال الملك.
والطّائفة الرّابعة: جدّتْ في المسير وواصلتْه، فسارت سيرًا حثيثًا. فهم كما قيل
(1)
:
ورَكْبٍ سَرَوْا واللّيلُ مُرْخٍ سُدُولَه
(2)
…
على كلِّ مُغْبَرِّ المطالعِ
(3)
قاتمِ
حَدَوا عَزَماتٍ ضاعتِ الأرضُ بينها
…
فصار سُراهم في ظُهورِ العزائمِ
(1)
الأبيات للشريف الرضي في «ديوانه» (2/ 382) ببعض الاختلاف. وأنشدها المؤلف في «روضة المحبين» (ص 10)، و «الفوائد» (ص 62).
(2)
في ش فوق الكلمة: «رواقه» . وكذا أنشده المؤلف في المصدرين السابقين.
(3)
في هامش ش: «الموارد» بعلامة صح. وكذا في «روضة المحبين» .
أرَتْهم نجومُ اللّيل ما يطلبونه
…
على عاتقِ الشِّعرى وهَامِ النَّعائمِ
فأَمُّوا حِمًى لا ينبغي لسواهمُ
…
وما أخذتْهم فيه لَومةُ لائم
فهؤلاء هِمَّتُهم مصروفةٌ إلى المسير، وقُواهم موقوفةٌ عليه من غير تنبُّهٍ منهم إلى المقصود الأعظم والغاية العليا.
والطّائفة الخامسة: أخذوا في الجِدِّ في السير، وهمّتُهم متعلِّقةٌ بالغاية، فهم في سيرهم ناظرون إلى المقصود بالسير، فكأنّهم يشاهدونه من بُعدٍ وهو يدعوهم إلى نفسه وإلى بلاده، وهم عاملون على هذا الشّاهد الذي قام بقلوبهم.
وعملُ كلِّ أحدٍ على قَدْرِ شاهدِه. فمن شاهدَ
(1)
المقصودَ بالعمل في علمه كان نصحُه فيه وإخلاصه وتحسينه وبذلُ الجهد فيه أتمَّ ممّن لم يلاحظه، ولم يجد من مَسِّ التّعب والنّصب ما يجده الغائب. والوجود شاهدٌ بذلك، فمن عمل عملًا لِمَلِكٍ بحضرته وهو شاهده= ليس حاله كحالة مَن عمل في غَيبته وبُعدِه عنه، وهو غير متيقِّنٍ بوصوله إليه.
وقوله: (ويُصحِّح همّةَ القاصد).
أي: ويُصحِّح له صفاءُ هذا العلم همّتَه، ومتى صحّت الهمّة علَتْ وارتفعت، فإنّ سُفولَها ودناءتها من علَّتها وسَقَمها، وإلّا فهي كالنّار تطلب الصُّعود والارتفاع ما لم تُمنع.
وأعلى الهمم همّةٌ اتّصلتْ بالحقِّ طلبًا وقصدًا، وأوصلت الخلقَ إليه دعوةً ونصحًا، وهذه همّة الرُّسل وأتباعهم. وصحّتُها: بتجريدها من انقسام
(1)
«شاهد» ليست في د.