الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومَن تأمّل
أحوال الرُّسل مع أممهم
وجدَهم كانوا قائمين بالإنكار عليهم أشدَّ القيام حتّى لَقُوا الله، وأَوصَوا أُمَمهم بالإنكار على مَن خالفهم، وأخبر النّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنّ المتخلِّص من مقامات الإنكار الثّلاثة ليس معه من الإيمان حبّةُ خَردلٍ
(1)
.
وبالغ في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
(2)
أشدَّ المبالغة، حتّى قال:«إنّ النّاس إذا تركوه: أوشَكَ أن يَعُمَّهم الله بعقابٍ من عندِه»
(3)
.
وأخبر أن تركَه يمنع إجابةَ دعاء الأخيار، ويُوجب تسلُّطَ الأشرار
(4)
.
وأخبر أنّ ترْكَه يُوقِع المخالفةَ بين القلوب والوجوه، ويُحِلُّ لعنةَ الله، كما لَعنَ بني إسرائيل على تركه
(5)
.
(1)
كما في حديث ابن مسعود الذي رواه مسلم (50).
(2)
«عن المنكر» ليست في ش.
(3)
أخرجه أحمد (1)، وأبو داود (4338)، وابن ماجه (4005) وغيرهم من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (304).
(4)
رواه أحمد (23312)، وابن أبي شيبة (15/ 44 - 45)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 279) من حديث أبي الرقاد عن حذيفة بن اليمان موقوفًا بلفظ «لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المنكر ولتحاضُّنَّ على الخير، أو ليُسْحِتنَّكم الله جميعًا بعذاب، أو ليُؤمَّرن عليكم شرارُكم، ثم يَدعُو خيارُكم فلا يُستجاب لكم» . وأبو الرقاد العبسي مجهول. ورواه أحمد (23301)، والترمذي (2169)، والبيهقي (10/ 93) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي عن حذيفة مرفوعًا بنحوه. وحسَّنه الترمذي.
(5)
رواه أحمد (3713)، وأبو داود (4336)، والترمذي (3047، 3048)، وابن ماجه (4006) من طرقٍ عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا. وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه ابن مسعود.
فكيف يكون الإنكار من رُعونات النُّفوس، وهو مقصود الشّريعة؟ وهل الجهاد إلّا أعلى أنواع الإنكار، وهو إنكارٌ
(1)
باليد، وجهاد أهل العلم إنكارٌ باللِّسان.
وأمّا قوله: «إنّ المشاهد يعلم أنّ مرادَ الله من الخلائق ما هُم عليه» .
فيقال له: الرّبُّ تعالى له مرادان: كونيٌّ ودينيٌّ، فهَبْ أنّ مراده الكونيّ منهم ما هم عليه، فمراده الدِّينيُّ الأمريُّ الشّرعيُّ هو الإنكار على أصحاب المراد الكونيِّ. فإذا عطَّلتَ مراده الدِّينيّ لم تكن واقفًا مع مراده الذي يحبُّه ويرضاه، ولا ينفعك وقوفك مع مراده الذي قدّره وقضاه، إذ لو نفعَ ذلك لم يكن للشّرائع معنًى البتّة، ولا للحدود والزّواجر، ولا للعقوبات الدُّنيويّة، ولا للأخذ على يد
(2)
الظَّلَمة والفُجَّار، وكفِّ عدوانهم وفجورهم. فإنّ العارف عندك شهد أنّ مراد الله منهم هو ذلك، وفي هذا فسادُ الدُّنيا قبل الأديان.
فهذا المذهب الخبيث لا يصلُح عليه دنيا ولا دينٌ، ولكنّه رعونةُ نفسٍ قد أخلدتْ إلى الإلحاد، وكفرتْ بدين ربِّ العباد، واتّخذتْ تعطيلَ الشّرائع مقامًا
(3)
، ووساوسَ الشياطين مسامرةً وإلهامًا، وجعلتْ أقدارَ الرّبِّ تعالى مُبطِلةً لما بعثَ به رسلَه، وأنزلَ به كتبه. وجعلوا هذا الإلحاد غاية المعارف الإلهيّة، وأشرفَ المقامات العليّة، ودَعَوا إلى ذلك النُّفوس المبطلة الجاهلة بالله ودينه، فلَبَّوا دعوتَهم مسرِعين، واستخفَّ الدّاعي منهم قومَه
(1)
ر: «جهاد» .
(2)
ر: «أيدي» .
(3)
ر: «دينًا ومقامًا» .
فأطاعوه
(1)
، إنّهم كانوا قومًا فاسقين.
وأمّا قوله: (إنّ الإنكار من معارضاتِ النُّفوس المحجوبة).
فلعَمُر اللهِ إنّهم في حجابٍ منيعٍ عن هذا الكفر والإلحاد، ولكنّهم يُشرِفون على أهله وهم في ضلالتهم يَعْمَهون، وفي كفرهم يتردَّدون، ولأتباع الرُّسل يُحاربون، وإلى خلاف طريقتهم
(2)
يدْعُون، وبغيرِ هَدْيهم
(3)
يهتدون، وعن صراطهم المستقيم ناكبون، ولما جاؤوا به معارضون، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 9 - 16].
فصل
قوله: (وتفيد مطالعة البدايات) يحتمل كلامه أمرين:
(1)
ش: «فاطلعوه» ، تصحيف. ونظر المؤلف إلى قوله تعالى:{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].
(2)
ر: «طريقهم» .
(3)
ر: «هداهم» .
أحدهما: أنّ ملاحظة عينِ الجمع يُفيد صاحبَه مطالعةَ السّوابق التي ابتدأه الله بها، فيفيده ملاحظةُ عينِ الجمع نظرةً إلى أوّليّة الرّبِّ تعالى في كلِّ شيءٍ.
ويحتمل أن يريد بالبدايات بدايات سلوكه، وحدّة طلبه. فإنّه في حال سلوكه لا يلتفت إلى ما وراءه، لشدّة شغله بما بين يديه، وغلبةِ أحكام الهمّة عليه، فلا يتفرّغ لمطالعة بداياته. فإذا لاحظ عينَ الجمع قطعَ السُّلوك الأوّل، وبقي له سلوكٌ ثانٍ. فتفرّغَ
(1)
حينئذٍ إلى مطالعة بداياته، ووجدَ اشتياقًا إليها.
كما قال الجنيد رحمه الله: واشوقًا إلى أوقات البداية
(2)
. يعني لذّة أوقات البداية، وجمع الهمّة على الطّلب، والسّير إلى الله. فإنّه كان مجموعَ الهمّة على السّير والطّلب، فلمّا لاحظ عين الجمع فنيتْ رسومه، وهو لا يمكنه الفناء عن بشريّته وأحكام طبيعته. فتقاضَتْه طباعُه ما فيها، فلزِمتْه الكُلَف، فارتاح إلى أوقات البدايات، لِما كان فيها من لذّة الإعراض عن الخلق واجتماع الهمّة.
ومرّ أبو بكرٍ رضي الله عنه على رجلٍ وهو يبكي من خشية الله، فقال: هكذا كنّا حتّى قَسَتْ قلوبنا
(3)
.
وقد أخبر النّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنّ لكلِّ عاملٍ شِرّةً، ولكلِّ شِرّةٍ فَتْرة
(4)
.
(1)
ت: «فيفزع» .
(2)
«شرح التلمساني» (ص 453)، و «شرح القاساني» (ص 451).
(3)
رواه ابن أبي شيبة (36673)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 34). وذكره الغزالي في «الإحياء» (2/ 299، 303)، وابن الجوزي في «آداب الحسن البصري» (ص 95).
(4)
أخرجه أحمد (6477، 6764)، وابن خزيمة (2105)، وابن حبان (11)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (1237) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وأخرجه الترمذي (2453)، وابن حبان (349)، والطحاوي في «المشكل» (1242) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.