الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وضعُفَ الآخرون
(1)
عن الحال في العلم، فلم يتمكّن كلٌّ منهما من الجمع بين الحال والعلم. فأخذ هؤلاء العلمَ وسعتَه ونورَه ورجّحوه، وأخذ هؤلاء الحالَ وسلطانه وتمكينه ورجّحوه. وصار الصّادق الضّعيف من الفريقين يسير بأحدهما ملتفتًا إلى الآخر.
فهذا مطيعٌ للحال
(2)
، وهذا مطيعٌ للعلم. لكنّ المطيع للحال متى عصى به العلم كان منقطعًا محجوبًا
(3)
، وإن كان له من الحال ما عساه أن يكون. والمطيع للعلم متى أعرض به عن الحال كان مضيِّعًا منقوصًا، مشتغلًا بالوسيلة عن الغاية.
و
صاحب التّمكين يتصرَّفُ علمُه في حاله
، ويحكم عليه، فينقاد لحكمه. ويتصرّف حالُه في علمه، فلا يدَعُه أن يقف معه، بل يدعوه إلى غاية العلم، فيجيبُه ويلبِّي دعوته. فهذه حالُ الكُمَّل من هذه الأمّة، ومن استقرأ أحوال الصّحابة وجدها كذلك.
فلمّا فرّق
(4)
المتأخِّرون بين الحال والعلم دخل عليهم النّقصُ والخلل، والله المستعان. {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50]، فكذلك يَهَبُ لمن يشاء علمًا، ولمن يشاء حالًا، ويجمع بينهما لمن يشاء
(5)
،
(1)
ر: «الآخر» .
(2)
ر: «إلى الحال» .
(3)
ت: «محجورًا» .
(4)
د: «فرع» .
(5)
ش: «شاء» .
ويُخلي من يشاء منهما.
قوله: (فالعلم يَشْغَله في حينٍ)، أي يشغله عن السُّلوك إلى تمكُّن الحال أنّ
(1)
العلم متنوِّع التّعلُّقات، فهو يُفرِّق، والحال يجمع. فإنه يدعوه إلى الفناء، وهناك سلطان الحال.
قوله: (والحال يحمله في حينٍ)، أي يغلب عليه الحال تارةً، فيصير محمولًا بقوّة الحال، وسلطانه على السُّلوك، فيشتدُّ
(2)
سيرُه بحكم الحال، يعني: وإذا غلبه العلمُ شغَلَه عن السُّلوك. وهذا على
(3)
المعهود من طريقة المتأخِّرين أنّ العلم يَشْغَل عن السُّلوك، ولهذا يعدُّون السّالك من سلك على الحال ملتفتًا إلى العلم.
وأمّا على ما قرّرناه ــ من أنّ العلم يُعِين على
(4)
السُّلوك ويَحمِل عليه، ويكون صاحبه سالكًا به وفيه
(5)
ــ فلا يَشْغَله العلم عن سلوكه، وإن أضعفَ سيْرَه على دربِ الفناء. فلا ريبَ أنّ العلم لا يُجامع الفناء، فالفناء ليس هو غاية السّالكين إلى الله، بل ولا هو لازمٌ من لوازم الطّريق
(6)
، وإن كان عارضًا من عوارضها، يَعرِض لغير الكُمَّل، كما تقدّم تقرير ذلك، فبيّنّا أنّ الفناء الكامل الذي هو الغاية المطلوبة: الفناء عن محبّة ما سوى الله وإرادته،
(1)
ر، ت:«لأن» .
(2)
ر: «فيشتمل» .
(3)
ر: «وهذا هو» .
(4)
ت: «يغني عن» .
(5)
ت: «وقته» .
(6)
د: «الطرق» .
فيفنى بمحبّة الله عن محبّة ما سواه، وبإرادته ورجائه والخوفِ منه والتّوكُّلِ عليه والإنابة إليه عن إرادة ما سواه وخوفه ورجائه والتّوكُّل عليه.
وهذا الفناء لا ينافي العلم بحالٍ بل ولا يَشْغَل عنه العلم، ولا يحول بين العبد وبينه، بل قد يكون في أغلب الأحوال من أعظم أعوانه. وهذا أمرٌ غفَلَ عنه أكثر المتأخِّرين، بحيث لم يعرفوه ولم يسلكوه، ولكن لم يُخْلِ الله الأرضَ من قائمٍ به داعٍ إليه.
قوله: (فبلاؤه بينهما)، أي عذابه وألمه بين داعي الحال وداعي العلم، فإيمانه يحمله على إجابة داعي العلم، ووارِدُه يحمله على إجابة داعي الحال، فيصير كالغريم بين المطالبينِ
(1)
. كلٌّ منهما يطالبه بحقِّه، وليس بيده إلّا ما يقضي أحدهما.
وقد عرفتَ أنّ هذا من الضِّيق
(2)
، وإلّا فمع السّعة يُوفِّي كلًّا منهما حقَّه.
قوله: (يُذِيقه شهودًا طورًا)، أي ذلك البلاء الحاصل بين الدّاعيينِ يُذِيقه شهودًا طورًا، وهو الطّور الذي يكون الحاكم عليه فيه هو العلم.
قوله: (ويكسوه عبرةً طورًا)، الظّاهر: أنّه عِبْرةٌ بالباء الموحّدة، أي اعتبارًا بأفعاله واستدلالًا عليه بها، وأنّه
(3)
سبحانه دلَّ على نفسه بأفعاله. فالعلم يكسو صاحبَه اعتباره واستدلاله
(4)
على الرّبِّ بأفعاله.
(1)
ر، ت:«مطالبين» .
(2)
ت: «التضييق» .
(3)
ر، ت:«فإنه» .
(4)
ر: «اعتبارًا واستدلالًا» .
ويصحُّ أن يكون غيرةً بالغين المعجمة
(1)
والياء المثنّاة من تحت، ومعناه: أنّ العلم يكسوه غيرةً من حجابه عن مقام صاحب الحال، فيَغَارُ من احتجابه عن الحال بالعلم، وعن العيان بالاستدلال، وعن الشُّهود ــ الذي هو مقام الإحسان ــ بالإيمان، الذي هو إيمانٌ بالغيب.
قوله: (ويُرِيه غيرةَ تفرُّقٍ طورًا)، هذا بالغين المعجمة ليس إلّا، أي: ويُرِيه العلم غيرةَ تفرقةٍ
(2)
في أوديته، فيُفرِّق بين أحكام الحال وأحكام العلم، وهي حالة صحوٍ وتمييزٍ.
وكأنّ الشّيخ رحمه الله يشير إلى أنّ صاحب هذا المقام تَغَار تفرقتُه
(3)
من جمعيّته على الله، فنفسُه تفرُّ من الجمعيّة على الله إلى تفرُّقِ العلم، فإنّه لا أشقَّ على النُّفوس من جمعيّتها على الله، فهي تهرب من الله إلى الحال تارةً، وإلى العمل تارةً، وإلى العلم تارةً. هذه نفوس السّالكين الصّادقين. ومن
(4)
ليس من أهل هذا الشّأن فنفوسُهم تَفِرُّ من الله إلى الشّهوات والرّاحات.
فأشقُّ ما على النفس
(5)
: جمعيَّتُها على الله، وهي تُناشِد صاحبها أن لا يُوصِلها إليه، وأن يَشْغَلَها بما دونه. فإنّ حبسَ النّفسِ على الله شديدٌ، وأشدُّ منه حبْسُها على أوامره وحبْسُها عن نواهيه، فهي دائمًا تُرضِيك بالعلم عن
(1)
ر: «عيرة بالعين المهملة» ، خطأ.
(2)
ت: «تفرق» .
(3)
ر، ت:«تفرقه» .
(4)
ر: «وأما من» .
(5)
ر: «النفوس» .
العمل، وبالعمل عن الحال، وبالحال عن الله سبحانه، وهذا أمرٌ لا يعرفه إلّا من شدَّ مِئزَرَ سيرِه إلى الله، وعلمَ أنّ كلّ ما سواه فهو قاطعٌ عنه.
وقد تضمّن كلامُه في هذه الدّرجة ثلاثَ درجاتٍ كما أشار إليه: درجة الحال، ودرجة العلم، ودرجة التّفرقة بين الحال والعلم. وهذه الثّلاث درجات هي المختصّة بالمعنى الثّاني من معاني الوقت.
فصل
قال
(1)
: (والمعنى الثّالث، قالوا: الوقت الحقُّ. أرادوا به: استغراق رسم الوقت في وجود الحقِّ. وهذا المعنى يَسبِق
(2)
على هذا الاسم عندي، لكنّه هو اسمٌ في هذا المعنى الثّالث، لحين تتلاشى فيه الرُّسوم كشفًا، لا وجودًا محضًا. وهو فوق البرق والوجد. وهو يُشارِف
(3)
مقامَ الجمع لو دام وبقي، ولا يبلُغُ واديَ الوجود، لكنّه يكفي مؤنةَ المعاملة، ويُصفِّي عينَ المسامرة، ويُشِمُّ روائحَ
(4)
الوجود).
هذا المعنى الثّالث من معاني الوقت أخصُّ ممّا قبله، وأصعبُ تصوُّرًا وحصولًا. فإنّ الأوّل وقتُ سلوكٍ يتلوَّنُ، وهذا وقتُ كشفٍ يتمكَّن. ولذلك أطلقوا عليه اسم «الحقِّ» ، لغلبة حكمه على قلب صاحبه، فلا يُحسُّ برسم الوقت، بل يتلاشى ذكرُ وقتِه من قلبه، لما قهره من نور الكشف.
(1)
«المنازل» (ص 82، 83).
(2)
في «المنازل» : «يشق» . والمثبت موافق لما في «شرح التلمساني» .
(3)
ر: «يفارق» .
(4)
ت: «رائحة» .
فقوله: (قالوا: الوقت هو الحقُّ) ، يعني أنّ بعضهم
(1)
أطلقوا اسم الحقِّ على الوقت، ثمّ فسَّر مرادهم بذلك، وأنّهم عَنَوا به استغراقَ رسم
(2)
الوقت في وجود الحقِّ. ومعنى هذا: أنّ السّالك بهذا المعنى الثّالث إذا شهدَ استغراقَ وقته في وجود الحق تلاشَى عنده
(3)
وقته بالكلِّيّة.
وتقريب هذا إلى الفهم: أنّه إذا شهدَ استغراقَ وقته الحاضر في ماهيّة الزّمان= فقد استغرق الزّمان رسم الوقت الذي هو
(4)
جزءٌ يسيرٌ جدًّا من أجزائه، وانغمرَ فيه كما تنغمرُ القطرة في البحر. ثمّ إنّ الزّمان المحدودَ الطّرفين يستغرق رسمه في وجود الدّهر، وهو ما بين الأزل والأبد. ثمّ إنّ الدّهر يستغرق رسمه في دوام الرّبِّ جل جلاله، وذلك الدّوام هو صفة الرّبِّ. فهناك يضمحلُّ الدّهر والزّمان والوقت، ولا يبقى له نسبةٌ إلى دوام الرّبِّ جل جلاله البتّةَ. فاضمحلّ الزّمان والدّهر والوقت في الدّوام الإلهيِّ
(5)
، كما تضمحلُّ الأنوار المخلوقة في نوره، وكما يضمحلُّ علمُ الخلق في علمه، وقدرتُهم
(6)
في قدرته، وجمالُهم في جماله، وكلامُهم في كلامه، بحيث لا يبقى للمخلوق نسبةٌ ما إلى صفات الرّبِّ جل جلاله.
والقوم إذا أطلق أهل الاستقامة منهم «ما في الوجود إلّا الله» أو «ما ثَمَّ
(1)
«بعضهم» ليست في ش.
(2)
ت: «اسم» .
(3)
ر: «يتلاشى عنه» .
(4)
ر: «إلى ما هو» .
(5)
ت: «الآن» .
(6)
ت: «وقدرهم» .
موجودٌ على الحقيقة إلّا الله» أو «هناك يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل» ونحو ذلك من العبارات، فهذا مرادهم. لا سيّما إذا حصل هذا الاستغراق في الشُّهود كما هو في الوجود، وغلب سلطان الحال على سلطان العلم، وكان القلب
(1)
مغمورًا بوارده، وفي قوّة التّمييز ضعفٌ، وقد تَوارى العلم بالشُّهود وحكم الحال. فهناك يثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثّابت
(2)
، وتَزِلُّ أقدامٌ كثيرةٌ إلى الحضيض الأدنى. ولا ريبَ أنّ وجود الحقِّ سبحانه ودوامه يستغرق وجودَ كلِّ ما سواه ووقته وزمانه
(3)
، بحيث يصير كأنّه لا وجودَ له.
ومن هنا غلِطَ القائلون بوحدة الوجود، وظنُّوا أنّه ليس لغيره وجودٌ البتّةَ، وغَرَّتْهم
(4)
كلماتٌ مشتبهة
(5)
جرَتْ على ألسنة
(6)
أهل الاستقامة من الطّائفة، فجعلوها عمدةً لكفرهم وضلالهم، فظنُّوا أنّ السّالكين سيرجعون إليهم، وتصير طريقة النّاس واحدةً، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
قوله: (وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي)، يريد أنّ «الحقّ» سابقٌ على هذا الاسم الذي هو «الوقت» ، أي هو منزَّهٌ عن أن يسمّى بالوقت، فلا ينبغي إطلاقه عليه، لأنّ الأوقات حادثةٌ.
(1)
ر: «العلم» .
(2)
اقتباس من سورة إبراهيم: 27.
(3)
د: «وزمنه» .
(4)
ر: «وغرَّهم» .
(5)
ر: «مشتبهات» .
(6)
ت: «ألسن» .
قوله: (لكنّه اسمٌ في هذا المعنى الثّالث، لحين
(1)
تتلاشى فيه الرُّسوم كشفًا لا وجودًا محضًا).
تَلاشِي الرُّسوم: اضمحلالُها وفناؤها. والرُّسوم عندهم: ما سوى الله. وقد صرّح الشّيخ أنّها إنّما تتلاشى في الكشف لا في الوجود العيني الخارجي، فإنّ تلاشيَها في الوجود خلافُ الحسّ والعيان، وإنما تتلاشى في وجود العبد الكشفيِّ، بحيث لا يبقى فيه سعةٌ للإحساس بها
(2)
، لِما استغرقَه من الكشف. فهذه عقيدة أهل الاستقامة من القوم.
وأمّا الملاحدة أهل وحدة الوجود، فعندهم: أنّها لم تزل متلاشيةً في عين
(3)
وجود الحقِّ، بل وجودها هو نفس وجوده. وإنّما كان الحسُّ يُفرِّق بين الوجودين، فلمّا غاب عن حسِّه بكشفه تبيّن له أنّ وجودها هو عين وجود الحقِّ.
ولكنّ الشّيخ كأنّه عبّر بالكشف والوجود عن المقامين اللّذين ذكرهما في كتابه، والكشفُ هو دون الوجود عنده، فإنّ الكشف يكون مع بقاء بعض رسوم صاحبه، فليس معه استغراقٌ في الفناء. والوجود لا يكون معه رسمٌ باقٍ، ولذلك قال: لا وجودًا محضًا، فإنّ الوجود المحض عنده يُفنِي الرُّسوم. وبكلِّ حالٍ فهو يُفنِيها من وجود الواجد، لا يُفنيها في الخارج.
وسرُّ المسألة: أنّ الواصل إلى هذا المقام يصير له وجودٌ آخر، غير
(1)
ش، د:«فحين» .
(2)
ت: «للأشياء برمتها» .
(3)
ت: «جنب» .
وجوده الطّبيعيِّ المشترك بين الموجودات، وتصير له نشأةٌ أخرى لقلبه وروحه، نسبةُ النّشأة الحيوانيّة إليها كنسبة النّشأة في بطن الأمِّ إلى هذه النّشأة المشاهدة في العالم، وكنسبة هذه النّشأة إلى النّشأة الأخرى.
فللعبد أربع نَشَآتٍ: نَشْأةٌ في الرَّحِم، حيث لا بصَرَ يُدرِكه، ولا يدَ تَنالُه. ونشأةٌ في الدُّنيا. ونشأةٌ في البرزخ. ونشأةٌ في المعاد الثّاني. وكلُّ نشأةٍ أعظم من التي قبلها. وهذه النشآت للرُّوح والقلب أصلًا، وللبدن تبعًا.
فللرُّوح في هذا العالم نشأتان. إحداهما: النّشأة الطّبيعيّة المشتركة، والثّانية: نشأةٌ قلبيّةٌ روحانيّةٌ، يُولَد بها قلبه وينفصل من مَشِيمة طبعه، كما وُلِد بدنه
(1)
وانفصلَ من مَشِيمة البطن.
ومن لم يُصدِّق بهذا فليضرِبْ عن هذا صفحًا، وليشتغلْ بغيره.
وفي كتاب «الزُّهد» للإمام أحمد: أنّ المسيح قال للحواريِّين: إنّكم لن تَلِجُوا ملكوتَ السّماء حتّى تُولَدوا مرّتين
(2)
.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هي ولادةُ الأرواح والقلوب من الأبدان، وخروجها من عالم الطّبيعة، كما وُلدت الأبدان من البطن
(3)
وخرجتْ منه. والولادة الأخرى هي الولادة المعروفة. والله أعلم.
قوله: (وهو فوق البرق والوجد).
يعني: أنّ هذا الكشف الذي تلاشتْ فيه الرُّسوم فوقَ منزلتَي البرق
(1)
ر: «بطنه» .
(2)
تقدم. وأورده المؤلف أيضًا في «طريق الهجرتين» (1/ 29، 381).
(3)
ر: «البدن» .
والوجد، فإنّه أثبتُ وأدومُ. والوجود فوقه، لأنّه يُشعِر بالدّوام.
قوله: (وهو يُشارِف مقامَ الجمع لو دام).
أي لو دام هذا الوقت لشارفَ مقام الجمع، وهو ذهاب شعور القلب بغير الحقِّ سبحانه، شغلًا به عن غيره، فهو جمعٌ في الشُّهود. وعند الملاحدة: هو جمعٌ في الوجود.
ومقصوده: أنّه لو داوم
(1)
الوقت بهذا المعنى الثّالث لشارفَ حضرةَ الجمع، لكنّه لا يدوم.
قوله: (ولا يبلُغ واديَ الوجود).
يعني: أنّ الوقت المذكور لا يبلغ السّالك فيه واديَ الوجود حتّى يقطعه. ووادي الوجود
(2)
: هو حضرة الجمع.
قوله: (لكنّه يكفي مؤنةَ المعاملة).
يعني: أنّ الوقت المذكور ــ وهو كشف
(3)
المشارف لحضرة الجمع ــ يُخفِّف عن العامل أثقالَ المعاملة، مع قيامه بها أتمَّ القيام، بحيث تصير هي الحاملة له. فإنّه
(4)
كان يعمل على الخبر، فصار يعمل على العيان. هذا مراد الشّيخ.
(1)
ت، ر:«دام» .
(2)
«حتى يقطعه ووادي الوجود» ساقطة من ش بسبب انتقال النظر.
(3)
ر: «الكشف» .
(4)
ت: «فان» .
وعند الملحد
(1)
: أنّه يُفنِي عن المعاملات الجسمانيّة، ويردُّ صاحبه إلى المعاملات القلبيّة. وقد تقدّم إشباعُ هذا المعنى.
قوله: (ويُصفِّي عينَ المسامرة).
المسامرة عند القوم: هي الخطاب القلبيُّ الرُّوحيُّ بين العبد وربِّه. وقد تقدّم أنّ تسميتها بالمناجاة أولى. فهذا الكشف يُخلِّص عن المسامرة من ذكر غير الحقِّ سبحانه ومناجاته.
قوله: (ويشمُّ رائحة الوجود).
أي صاحب مقام هذا الوقت الخاصِّ يشمُّ روائح الوجود، وهو حضرة الجمع، فإنّهم يسمُّونها بالجمع والوجود، ويَعنُون بذلك ظهورَ وجود الحقِّ سبحانه وفناءَ وجود ما سواه.
وقد عرفتَ أنّ فناء وجود ما سواه بأحد اعتبارين: إمّا فناؤه من شهود العبد فلا يشهده، وإمّا اضمحلاله وتلاشيه بالنِّسبة إلى وجود الرّبِّ. ولا تلتفتْ إلى غير هذين المعنيين، فهو إلحادٌ وكفرٌ. والله المستعان.
* * * *
(1)
يشير إلى «شرح التلمساني» (ص 461).