الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشّاغلة عن الله تعالى= امتلأ القلب والجوارح بذلك النُّور، لا بالنُّور الذي هو صفة الرّبِّ تعالى، فإنّ صفاته لا تَحُلُّ في شيءٍ من مخلوقاته، كما أنّ مخلوقاته لا تحلُّ فيه. فالخالق بائنٌ عن المخلوق بذاته وصفاته، فلا اتِّحادَ ولا حلولَ ولا ممازجةَ. تعالى الله عن ذلك كلِّه علوًّا كبيرًا.
قوله: (وتَعْصِم من عُوارِ التّسلِّي)، العُوار: العيب. والتّسلِّي عن المحبوب الذي لا حياةَ للقلب ولا نعيمَ إلّا بحبِّه والقرب منه والأنسِ بذكره، وهو من أعظم العيوب. فهذه الملاحظة إذا صدقَتْ عصمَتْ صاحبَها من عيبِ سُلْوتِه عن مطلوبه ومراده، فإنّه في هذه الدّرجة مستغرقٌ في شهود الأسماء والصِّفات.
وقد استولى على قلبه نور الإيمان بها ومعرفتها، ودوام ذكرها. ومع هذا فباب السُّلوة
(1)
عليه مسدودٌ، وطريقها عليه مقطوعٌ. والمحبُّ يُمكِنُه
(2)
التّسلِّي قبل أن يشاهد جمالَ محبوبه، ويستغرقَ في شهود كماله، ويغيبَ به عن غيره. فإذا وصل إلى هذه الحال كان كما قيل
(3)
:
مرَّتْ بأرجاءِ الخيال طُيوفُه
…
فبكَتْ على رسم السُّلوِّ الدّارس
فصل
قال
(4)
:
(الدّرجة الثّالثة: ملاحظةُ عين الجمع
. وهي تُوقِظ لاستهانة
(1)
«على قلبه
…
السلوة» ساقطة من ش، د.
(2)
ت: «والمحب حرام عليه» .
(3)
تقدم (ص 376).
(4)
«المنازل» (ص 82).
المجاهدات، وتُخلِّص من رُعونةِ المعارضات، وتُفيد مطالعةَ البدايات).
هذه الدّرجة عنده أرفعُ ممّا قبلها. فإنّ ما قبلها مطالعة كشفٍ وأنوار
(1)
تشير إلى نوع كسبٍ واختيارٍ، وهذه مطالعةٌ تجذب القلب من التّفرُّق في أودية الإرادات وشِعابِ الأحوال والمقامات، إلى ما استولى عليه من عين الجمع، النّاظرة إلى الواحد الفرد الأوّل الذي ليس قبله شيءٌ، الآخر الذي ليس بعده شيءٌ، الظّاهر الذي ليس فوقه شيءٌ، الباطن الذي ليس دونه شيءٌ. فسبقَ كلَّ شيءٍ بأوّليّته، وبقي بعد كلِّ شيءٍ بآخريّته، وعلَا فوقَ كلِّ شيءٍ بظهوره، وأحاطَ بكلِّ شيءٍ ببطونه.
فالنّظرُ بهذه العين يُوقِظ قلبه لاستهانته بالمجاهدات. ومعنى ذلك أنّ السّالك في مبدأ أمره له شِرَّةٌ، وفي طلبه حِدّةٌ، تحمله على أنواع المجاهدات، وتَرميه عليها لشدّة طلبه. ففتورُه نائمٌ، واجتهاده يقظان.
فإذا وصل إلى هذه الدّرجة استهانَ بالمجاهدات الشّاقّة في جنب ما حصل له من مقام الجمع على الله، واستراحَ من كَدِّها. فإنّ ساعةً من ساعات الجمع على الله أنفعُ وأجدى من القيام بكثيرٍ من المجاهدات البدنيّة التي لم يفرضها الله عليه. فإن أجمعَ
(2)
همّه وقلبه كلّه على الله، وزال عنه كلُّ مفرِّقٍ ومشتِّتٍ= كانت هذه هي ساعات عمره في الحقيقة، فتعوّض بها عمّا كان يُقاسِيه من كَدِّ المجاهدات وتَعَبِها.
وهذا موضعٌ غلِطَ فيه طائفتان من النّاس:
(1)
ر: «كشف الأنوار» .
(2)
ت، ر:«فإذا جمع» .
إحدهما: غلَتْ فيه حتّى قدَّمتْه على الفرائض والسُّنن، ورأت نزولها عنه إلى القيام بالأوامر انحطاطًا من الأعلى إلى الأدنى. حتّى قيل لبعض من ذاق ذلك: قُمْ إلى الصّلاة، فقال
(1)
:
يُطالَب بالأورادِ من كان غافلًا
…
فكيف بقلبٍ كلُّ أوقاتِه وِرْدُ
وقال آخر: لا تُسيِّبْ واردَك لوِردِك.
وهؤلاء بين كافرٍ وناقصٍ: فمن لم يرَ القيامَ بالفرائض إذا حصلت له الجمعيّةُ فهو كافرٌ منسلخٌ من الدِّين. ومن عطّل لها ما مصلحتُه راجحةٌ ــ كالسُّنن الرّواتب، والعلم النّافع، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والنّفع العظيم المتعدِّي ــ فهو ناقصٌ.
والطّائفة الثّانية: لا تَعْبأ بالجمعيّة، ولا تعمل عليها. ولعلّها لا تدري ما مسمّاها وحقيقتها.
وطريقة الأقوياء أهلِ الاستقامة: القيام بالجمعيّة في التّفرقة ما أمكن. فيقوم بالعبادات ونفع الخلق والإحسان إليهم، مع جمعيّته على الله. فإن ضعُفَ عن اجتماع الأمرين وضاق عن ذلك قام بالفرائض، ونزل عن الجمعيّة، ولم يلتفتْ إليها، إذا كان لا يقدر على تحصيلها إلّا بتعطيل الفرض. فإنّ ربّه سبحانه يريد منه أداء فرائضه، ونفسُه تريد الجمعيّة، لما فيها من الرّاحة واللّذّة، والتّخلُّص من ألم التّفرقة وشَعَثِها
(2)
. فالفرائض حقُّ ربِّه، والجمعيّة حظُّه هو. فالعبوديّة الصّحيحة تُوجِب عليه تقديمَ أحد الأمرين
(1)
تقدم البيت (1/ 133، 380)، ولم يُنسَب لقائل.
(2)
ر، ت:«شعبها» .
على الآخر.
فإذا جاء إلى النّوافل، وتعارض عنده الأمران: فمنهم من يُرجِّح الجمعيّة، ومنهم من يُرجِّح النّوافل، ومنهم من يُؤثِر هذا في وقتٍ وهذا في وقتٍ.
والتّحقيق ــ إن شاء الله ــ أنّ تلك النّوافل إن كانت مصلحتُها أرجحَ من الجمعيّة
(1)
، ولا تُعوِّض الجمعيّة عنها= اشتغل بها ولو فاتتْه الجمعيّة، كالدّعوة إلى الله، وتعليم العلم النّافع، وقيام وسط اللّيل، والذِّكر أوّل النهار
(2)
وآخره، وقراءة القرآن بالتّدبُّر، وفعل
(3)
الجهاد، والإحسان إلى المضطرِّ، وإغاثة الملهوف، ونحو ذلك. فهذا كلُّه مصلحتُه أرجحُ من مصلحة الجمعيّة.
وإن كانت مصلحته دون مصلحة الجمعيّة ــ كصلاة الضُّحى، وزيارة الإخوان، والتبتل لحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وإجابة الدّعوات، وزيارة القدس، وضيافة الإخوان، ونحو ذلك ــ فهذا فيه تفصيلٌ.
فإن قويتْ جمعيّته وظهر تأثيرها فيه: فهي أولى له وأنفعُ من ذلك. وإن ضعفت الجمعيّة، وقوي إخلاصُه في هذه الأعمال: فهي أنفع له، وأفضلُ من الجمعيّة.
والمعوّل عليه في ذلك: إيثار أحبِّ الأمرين إلى الرّبِّ تعالى. وذلك
يُعرَف بنفع العمل وثمرته، من زيادة الإيمان به، وترتُّبِ الغايات الحميدة عليه، وكثرة مواظبة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وشدّة اعتنائه به، وكثرة الوصيّة به، وإخبارِه أنّ الله يحبُّ فاعله، ويُباهي به ملائكته، ونحو ذلك.
ونكتة المسألة وحرفها: أنّ الصّادق في طلبه يُؤثِر مرضاةَ ربِّه على حظِّه، فإن كان رضا الله في القيام بذلك العمل، وحظُّه في الجمعيّة: خلّى الجمعيّة تذهب، وقام بما فيه رضا الله. ومتّى علم الله من قلبه أنّ مراده وتوقُّعه
(1)
ليعلم: أيّ الأمرين أحبُّ إلى الله وأرضى له= أنشأَ له من ذلك التّوقُّفِ والتّردُّدِ حالةً شريفةً فاضلةً، حتّى لو أقدمَ على المفضول ــ لِظنِّه أنّه الأحبُّ إلى الله ــ رَدَّتْ تلك النِّيّةُ والإرادة عليه ما ذهبَ عليه وفَاتَه من زيادة العمل الآخر. وبالله التّوفيق.
وفي كلامه معنًى آخر، وهو أنّ صاحب المجاهدات مسافرٌ بعزمه وهمِّه إلى الله، فإذا لاحظ عينَ الجمع ــ وهي الوحدانيّة التي شهودُ عينِها: هو انكشافُ حقيقتها للقلب ــ كان بمنزلة مسافرٍ جادٍّ في سيره
(2)
، قد وصل إلى المنزل، وقَرَّتَ عينُه بالوصول، وسكنَتْ نفسُه، كما قيل
(3)
:
فألقتْ عصاها واستقَرَّ بها النَّوى
…
كما قَرَّ عينًا بالإيابِ المسافرُ
(1)
ر: «تردده وتوقفه» .
(2)
ت: «سفره» .
(3)
البيت لمعقّر بن حمار البارقي من قصيدة له في «النقائض» (2/ 678)، و «الأغاني» (11/ 160)، و «العقد الفريد» (5/ 144)، وللمضرّس الأسدي في «البيان والتبيين» (3/ 40)، ولراشد بن عبد ربه في «العقد الفريد» (5/ 146)، وللأحمر بن سالم المزني في «بهجة المجالس» (1/ 228).
ولكنّ هذا الموضع مورد الصِّدِّيق الموحِّد، والزِّنديق الملحد.
فالزِّنديق يقول: الاشتغال بالسّير بعد الوصول عبثٌ
(1)
لا فائدة فيه. والوصول عنده هو ملاحظة عينِ الجمع. فإذا استغرق في هذا الشُّهود، وفني به عن كلِّ ما سواه= ظنّ أنّ ذلك هو الغاية المطلوبة بالأوراد والعبادات، وقد حصلتْ له الغاية، فرأى قيامَه بها أولى به وأنفع له من الاشتغال بالوسيلة. فالعبادات البدنيّة عنده وسيلةٌ لغايةٍ، وقد حصلتْ، فلا يُغني الاشتغال
(2)
بالوسيلة بعدها، كما يقول كثيرٌ من النّاس: إنّ العلم وسيلةٌ إلى العمل، فإذا اشتغلتَ بالغاية لم تَحتجْ إلى الوسيلة.
وقد اشتدّ نكيرُ أهل
(3)
الاستقامة من الشُّيوخ على هذه الفرقة، وحذَّروا منهم، وجعلوا أهل الكبائر وأصحاب الشّهوات خيرًا منهم وأرجى عاقبةً.
وأمّا الصِّدِّيق الموحِّد: فإذا وصل إلى
(4)
هناك صارت أعماله القلبيّة والرُّوحيّة أعظمَ من أعماله البدنيّة، ولم يُسقِط من طاعاتِه
(5)
شيئًا، لكنّه استراح من كَدِّ المجاهدة بما لاحظه من
(6)
عين الجمع، وصار بمنزلة مسافرٍ طلب مَلِكًا عظيمًا رحيمًا جوادًا، فجَدَّ في السّفر إليه خشيةَ أن يقتطع دونه، فلمّا وصل إليه ووقع بصره عليه بَقَّى له سيرًا آخر في مرضاته ومَحابِّه.
(1)
ر: «عيب» .
(2)
ر، ت:«معنى للاشتغال» .
(3)
ر: «نكير السلف من أهل» .
(4)
«إلى» ليست في د.
(5)
ر: «أعماله» .
(6)
ر: «بملاحظة» .
فالأوّل كان سيرًا إليه، وهذا سيرٌ في محابِّه ومراضيه. فهذا أقربُ ما يقال في كلام الشّيخ وأمثاله في ذلك.
وبعد، فالعبد وإن لاحظ عينَ الجمع ولم يَغِبْ عنها، فهو سائرٌ إلى الله، ولا ينقطع سيرُه إليه ما دام في قيد الحياة. ولا يصل العبد ما دام حيًّا إلى الله وصولًا يستغني به عن المسير
(1)
إليه البتّة، وهذا عين المحال. بل يشتدُّ سيره إلى الله كلّما زادت ملاحظته لتوحيده وأسمائه وصفاته. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادًا، وقيامًا بالأعمال، ومحافظةً عليها، إلى أن توفّاه وهو أعظم ما كان اجتهادًا وقيامًا بوظائف العبوديّة. فلو أتى العبد بأعمال الثَّقلَين جميعها لم تفارِقه حقيقة السّير إلى الله، وكان بعدُ في طريق الطّلب والإرادة.
وتقسيم السّائرين إلى الله إلى طالبٍ وسائرٍ وواصلٍ، أو إلى مريدٍ ومرادٍ= تقسيمٌ فيه مساهلةٌ لا تقسيمٌ حقيقيٌّ، فإنّ الطّلب والسُّلوك والإرادة لو فارق العبدَ انقطع عن الله بالكلِّيّة. ولكنّ هذا التّقسيم باعتبار تنقُّل العبد في أحوال سيره، وإلّا فإرادة العبدِ المرادَ وطلبُه وسيرُه أشدُّ من إرادةِ غيره وطلبِه وسيرِه.
وأيضًا فإنّه مرادٌ أوّلًا، حيث أُقيم مقامَ الطّلب، وجُذِب إلى السّير. فكلُّ مريدٍ مرادٌ، وكلُّ واصلٍ سالكٌ وطالبٌ لا يفارقه طلبه ولا سيره، وإن تنوّعتْ طرقُ السّير بحسب اختلاف حال العبد.
فمن السّالكين: من يكون سيره ببدنه وجوارحه أغلبَ عليه من سيره
(1)
ر، ت:«السير» .
بقلبه وروحه.
ومنهم: من سيره بقلبه أغلبُ عليه، أعني قوّة سيره وحِدَّته.
ومنهم ــ وهم الكمّل الأقوياء ــ: من يعطي كلَّ مرتبةٍ حقّها، فيسير إلى الله ببدنه وجوارحه، وقلبه وروحه.
وقد أخبر الله سبحانه عن صفوة أوليائه بأنّهم في مقام الإرادة له، فقال:{(51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. وقال: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19]. فالعبد أخصُّ أوصافِه وأعلى مقاماتِه: أن يكون مريدًا صادقَ الإرادة، عبدًا في إرادته، بحيث يكون مراده تبعًا لمراد ربِّه الدِّينيِّ منه، ليس له إرادةٌ في سواه.
وقد يُحمَل كلامُه
(1)
على معنًى آخر، وهو أن يكون معنى قوله:(إنّ ملاحظة الجمع تُوقِظ للاستهانة بالمجاهدات): أنّه يُوقِظه من نوم الاستهانة بالمجاهدات، وتكون اللّام للتّعليل، أي تُوقِظه من سِنَة التّقصير لاستهانته بالمجاهدات. وهذا معنًى صحيحٌ في نفسه، فإنّ العبد كلّما كان إلى الله أقرب كان جهاده في الله أعظم. قال تعالى:{فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ} [الحج: 78].
وتأمَّلْ أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنّهم كانوا كلَّما تَرقَّوا من القرب في مقامٍ عظُمَ جهادهم واجتهادهم. لا كما ظنَّه بعض الملاحدة المنتسبين إلى الطّريق، حيث قال
(2)
: القرب الحقيقيُّ يَنقُل العبد من الأعمال
(3)
الظّاهرة إلى
(1)
ر، ت:«كلام الشيخ» .
(2)
هو التلمساني في «شرحه» (ص 453).
(3)
ر: «الأحوال» .