الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة الهمّة
.
وقد صدّرها صاحب «المنازل» بقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]. وقد تقدّم
(1)
أنّه صدّر بها باب الأدب، وذكرنا وجهه. وأمّا وجه تصدير «الهمّة» بها فهو الإشارة إلى أنّ همّتَه ما تعلَّقتْ بسوى مشهودِه وما أُقيم فيه، ولو تجاوزتْه همّتُه لَتبِعَها بصرُه.
والهمّة فِعْلةٌ من الهمِّ، وهو مبدأ الإرادة، ولكن خَصُّوها بنهاية الإرادة. فالهَمُّ مبدؤها، والهِمّة نهايتها.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله يقول: في بعض الآثار الإلهيّة: «إنِّي لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنّما أنظر إلى هِمّته»
(2)
.
قال
(3)
: والعامّة تقول: قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحسِن. والخاصّة تقول: قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يَطلُب. يريد: أنّ قيمة المرء همّته ومطلبه.
(1)
(3/ 150).
(2)
عزاه شيخ الإسلام إلى بعض الكتب المتقدمة في «الجواب الصحيح» (6/ 35)، وإلى الإسرائيليات في «النبوات» (1/ 410)، و «جامع المسائل» (5/ 265).
(3)
في المصادر السابقة. و «قيمة كل امرئ ما يحسن» يُنسب إلى علي رضي الله عنه في «البيان والتبيين» (1/ 83) و «ديوان المعاني» (1/ 146) و «البصائر والذخائر» (8/ 10) و «زهر الآداب» (1/ 253) وغيرها. قال شيخ الإسلام في «درء التعارض» (9/ 410): ولا يصح هذا عن علي.
قال صاحب «المنازل» رحمه الله
(1)
: (الهمّة: ما يملك الانبعاثَ للمقصود صرفًا، لا يتمالك صاحبها، ولا يلتفت عنها).
قوله: (يملك الانبعاث للمقصود)، أي يستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك
(2)
.
و «صِرْفًا» أي خالصًا صرفًا. والمراد أنّ همّة العبد إذا تعلَّقت بالحقِّ تعالى طلبًا خالصًا صادقًا محضًا، فتلك هي الهمّة العالية التي لا يتمالك صاحبها، أي لا يقدر على المهلة
(3)
، ولا يتمالك صبره، لغلبة سلطان الهمة عليه، وشدّةِ إلزامها إيّاه بطلب المقصود، ولا يلتفت عنها إلى ما سوى أحكامها. وصاحبُ هذه الهمّة سريعٌ وصوله وظفَرُه بمطلوبه، ما لم تَعُقْه العوائق، وتقطَعْه العلائق.
فصل
قال
(4)
: (وهي على ثلاث درجاتٍ. الدّرجة الأولى: همّةٌ تصونُ القلبَ عن وحشة الرّغبة في الفاني، وتَحمِله على الرّغبة في الباقي، وتُصفِّيه من كَدَر التّواني).
الفاني: الدُّنيا وما عليها، أي تُزهِّد القلبَ فيها وفي أهلها. وسمّى الرّغبة فيها وحشةً، لأنّها وأهلها تُوحِش قلوبَ الرّاغبين فيها، وقلوبَ الزّاهدين فيها.
(1)
(ص 69).
(2)
«على المملوك» ليست في ش، د.
(3)
كذا في ش، د. وغُيِّر في ل إلى «الملكة» .
(4)
«المنازل» (ص 69).
أمّا الرّاغبون فيها: فأرواحهم وقلوبهم في وحشةٍ من أجسامهم، إذ فاتها ما خُلِقتْ له، فهي في وحشةٍ لفَواتِه.
وأمّا الزّاهدون فيها: فإنّهم يرونها مُوحِشةً لهم، لأنّها تَحُول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم، ولا شيءَ أوحشُ عند القلب ممّا يحول بينه وبين مطلوبه ومحبوبه. ولذلك كان مَن نازع النّاسَ أموالَهم وطلبها منهم أوحشَ شيءٍ إليهم وأبغضَه.
وأيضًا، فالزّاهدون فيها إنّما ينظرون إليها بالبصائر، والرّاغبون بالأبصار، فيستوحش الزّاهد ممّا يأنس به الرّاغب، كما قيل:
وإذا أفاقَ القلبُ واندملَ الهوى
…
رأتِ القلوبُ ولم ترَ الأبصارُ
(1)
وكذلك هذه الهمّة تحمله على الرّغبة في الباقي لذاته ــ وهو الحقُّ سبحانه ــ والباقي بإبقائه، وهو الدّار الآخرة.
(وتُصفِّيه من كَدَر التَّواني)، أي تُخلِّصه وتُمحِّصه من أوساخ الفتور والتّواني، الذي هو سبب الإضاعة والتّفريط.
فصل
قال
(2)
: (الدّرجة الثّانية: همّةٌ تُورِث أنفةً من المبالاة بالعِلل، والنُّزولِ على العمل، والثِّقةِ بالأَمل).
(1)
البيت مع آخر لأبي نصر بن نباتة في «ديوانه» (2/ 271) و «ذم الهوى» (ص 653) بقافية «الأحداقُ» بدل «الأبصار» .
(2)
«المنازل» (ص 70).
العِلل هاهنا هي عِلل الأعمال من رؤيتها، أو رؤية ثمراتها وإرادتها
(1)
، أو نحو ذلك، فإنّها عندهم عللٌ.
فصاحب هذه الهمّة يأْنَفُ على همّته وقلبِه من أن يبالي بالعلل، فإنّ همّته فوق ذلك. فمبالاتُه بها وفكرتُه فيها نزولٌ من الهمّة.
وعدمُ هذه المبالاة: إمّا لأنّ العلل لم تحصُلْ له؛ لأنّ علوّ همّته حالَ بينه وبينها، فلا يبالي بما لم يحصل له. وإمّا لأنّ همّتَه وسعةَ مطلبِه وعلوَّه تأتي على تلك العلل وتَستأصلها، فإنّه إذا علَّق همّتَه بما هو أعلى منها تضمّنَتْها الهمّة العالية، فاندرج حكمها في حكم الهمّة العالية. وهذا موضعٌ غريبٌ عزيزٌ جدًّا، وما أدري قصَدَه الشّيخُ أو لا؟
وأمّا أَنَفَتُه من النُّزول على العمل: فكلامٌ يحتاج إلى تقييدٍ وتبيينٍ، وهو أنّ العاليَ الهمّةِ مطلبه فوقَ مطلب العمّال والعبّاد وأعلى منه، فهو يأنف أن ينزل من سماء مطلبه العالية، إلى مجرّد العمل والعبادة، دون السّفر بالقلب إلى الله، ليحصل له ويفوز به، فإنّه طالبٌ لربِّه تعالى طلبًا تامًّا بكلِّ معنًى واعتبارٍ: في عمله، وعبادته ومناجاته، ونومه ويقظته، وحركته وسكونه، وعُزلته وخُلطته، وسائرِ أحواله. فقد انصبغ قلبه بالتّوجُّه إلى الله تعالى أيَّما صِبغةٍ. وهذا الأمر إنّما يكون لأهل المحبّة الصّادقة، فهم لا يَقْنَعون بمجرّد رسوم الأعمال، ولا بالاقتصار على الطّلب حالَ العمل فقط.
وأمّا أنفتُه من الثِّقة بالأمل: فإنّ الثِّقة توجب الفتورَ والتّواني، وصاحب هذه الهمّة ليس من أهل ذاك، كيف وهو طائرٌ لا سائرٌ.
(1)
ش، د:«إراداتها» .
فصل
قال
(1)
: (الدّرجة الثّالثة: همّةٌ تتصاعد عن الأحوال والمعاملات، وتُزرِي بالأعواض والدّرجات، وتَنحو عن النُّعوت نحو الذّات).
أي هذه الهمّة أعلى من أن يتعلَّق صاحبها بالأحوال التي هي آثار الأعمال والواردات، أو يتعلّق بالمعاملات. وليس المراد تعطيلَها، بل القيام بها مع عدم الالتفات إليها والتّعلُّق بها.
ووجهُ صعود هذه الهمّة عن هذا ما ذكره من قوله: (تُزْرِي بالأعواض والدّرجات، وتنحو عن
(2)
النُّعوت إلى الذّات)، أي صاحبها لا يقف عند عوضٍ ولا درجةٍ، فإنّ ذلك نزولٌ من همّتِه، ومطلبُه أعلى من ذلك. فإنّ صاحب هذه الهمّة قد قصر
(3)
همّته على المطلب الأعلى، الذي لا شيء أعلى منه، والأعواض والدّرجات دونه، وهو يعلم أنّه إذا حصل له فهناك كلُّ عوضٍ ودرجةٍ عاليةٍ.
وأمّا نَحْوُها نحوَ الذّات، فيريد به: أنّ صاحبها لا يقتصر على شهود الأفعال ولا الأسماء والصِّفات، بل الذّات الجامعة لمتفرِّقات الأسماء والصِّفات والأفعال، كما تقدّم. والله أعلم.
* * * *
(1)
«المنازل» (ص 70).
(2)
ل: «من» .
(3)
ل: «قصرت» .