الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن لمّا كانت الرُّوح قد تتجرّد ويَقوى تعلُّقها بالحقِّ تعالى، ويَضعُف تعلُّقها بل يتلاشى بما سواه، وقد يقترن بذلك نوعُ غَيبةٍ عن
(1)
حسِّه، ويقوى داعي هذا الواعظ،
ويستولي على قلبه وروحه، بحيث يمتلئ به، فتُؤدِّيه الرُّوح إلى الأذن، فيرجع من الأذن إليها، إذ هي مبدؤه، وإليها يعود، فيظنُّه خطابًا خارجيًّا. وينضاف إلى ذلك نوعٌ من ضعف العلم ومعرفة المراتب، فينشأ الغلط والوهم.
قوله: (أو جذبٌ حقيقيٌّ)، يعني: أنّ من أسباب هذا الوجد
(2)
جذبةً حقيقيّةً من جَذَبات الرّبِّ تعالى لعبده، استفاقتْ لها روحُه من منامها، وحَيِيَتْ بها بعد مماتها، واستنارتْ بها بعد ظلماتها. فالوجد خلعة هذه الجذبة.
قوله: (إن أبقى على صاحبه لباسَه، وإلّا أبقى عليه نُورَه) ، يريد بلباسه مقامه، يعني إن أبقى عليه تحقُّقَ مقامه فيه، وإلّا أبقى عليه أثره. فمقامُه يُورِثه عزًّا ومهابةً، وخلافةَ نبوّةٍ، ومنشورَ صدِّيقيّةٍ. وأثره يُورِثه حلاوةً وسكينةً، وأُنسًا في نفسه، وأُنسًا للقلوب به، وهوى الأفئدة إليه.
فصل
قال
(3)
: (الدّرجة
الثّالثة: وجدٌ يَخطَفُ العبدَ من يد الكونين
، ويُمحِّص معناه من دَرَنِ الحظِّ، ويَسلُبه من رِقِّ الماء والطِّين، إن سَلَبه أنساه اسمَه، وإن
(1)
ت: «من» .
(2)
ش، د:«الوجه» ، تصحيف.
(3)
«المنازل» (ص 77).
لم يَسلُبه أعاره رسمَه).
قوله: (يَخْطَف العبدَ من يد الكونين) ، أي يُغنيه عن شهود ما سوى الله من كونَي الدُّنيا والآخرة، فيختطفُ القلبَ من شهود هذا وهذا بشهود المُكوِّن.
قوله: (ويُمحِّص معناه من دَرَنِ الحظِّ)، أي يُخلِّص عبوديَّته التي هي حقيقته وسِرُّه من وَسَخِ حظوظِ نفسه، وإراداتِها المزاحمةِ لمراد ربِّه منه. فإنّ تحقيق العبوديّة ــ التي هي معنى العبد ــ لا يكون إلّا بفقد النّفس الحاملة للحظوظ، فمتى فَقَدت حظوظَها تمحَّصتْ
(1)
عبوديّتُها، وكلّما مات منها حظٌّ حَيِيَ منها عبوديّةٌ ومعنًى، وكلّما حَيِيَ فيها حظٌّ ماتت منها عبوديّةٌ، حتّى يعود الأمر على نفسين وروحين وقلبين: قلبٌ حيٌّ وروحٌ حيّةٌ بموت نفسه وحظوظها، وقلبٌ ميِّتٌ وروحٌ ميِّتةٌ بحياة نفسه وحظوظه. وبين ذلك مراتبُ متفاوتةٌ في الصِّحّة والمرض وبينَ بينَ، لا يُحصيها إلّا الله.
قوله: (ويسلُبه من رِقِّ الماء والطِّين)، أي يُعتِقه ويُحرِّره من رقِّ الطّبيعة والجسم المركّب من الماء والطِّين إلى رِقِّ ربِّ العالمين، فخادمُ الجسم الشّقيُّ بخدمته عبدُ الماء والطِّين، كما قيل
(2)
:
يا خادمَ الجسمِ كَمْ تَشْقى بخدمتِه
…
فأنت بالرُّوحِ لا بالجسمِ إنسانُ
(1)
ت: «تمحضت» .
(2)
البيت لأبي الفتح البستي من نونيته المشهورة في «ديوانه» (ص 183). وهو ملفَّق من بيتين:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته
…
لتطلب الربحَ فيما فيه خُسران
أقبِلْ على النفس فاستكمِلْ فضائلَها
…
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
والنّاس في هذا المقام ثلاثةٌ: عبد محضٌ، وحرٌّ محضٌ، ومُكاتَبٌ قد أدّى بعض كتابته وهو يسعى في بقيّة الأداء.
فالعبد المحض: عبدُ الماء والطِّين الذي قد استعبدتْه نفسُه وشهوتُه، وملكتْه وقهرتْه، فانقاد لها انقيادَ العبد إلى سيِّده الحاكم عليه.
والحرُّ المحض: هو الذي قهر نفسَه وشهوتَه وملكَها، فانقادتْ معه، وذلَّتْ له، ودخلَتْ تحت رقِّه وحكمه.
والمُكاتَب: من قد عقد له سبب الحرِّيّة، وهو يسعى في كمالها. فهو عبد من وجهٍ حرٌّ من وجهٍ، وللبقيّة التي بقيتْ عليه من الأداء كان عبدًا ما بقي عليه درهمٌ، فهو عبد ما بقي عليه حظٌّ من حظوظ نفسه.
فالحرُّ من تخلَّص من رقِّ الماء والطِّين، وفاز بعبوديّة ربِّ العالمين، فاجتمعت له العبوديّة والحرِّيّة. فعبوديّته من كمال حرِّيّته، وحرِّيّته من كمال عبوديّته.
قوله: (إن سلَبه أنساه اسمَه، وإن لم يسلُبه أعاره رسْمَه)، أي هذا الوجد إن سَلَب صاحبَه بالكلِّيّة فأفناه عنه وأخذَه منه= أنساه اسمَه، لأنّ الاسم تبعٌ للحقيقة، فإذا سلب الحقيقة نسي اسمها. وإن لم يسلبه بالكلِّيّة، بل أبقى منه
(1)
رسمًا، فهو مُعَارٌ عنده بصدد الاسترجاع، فإنَّ العواري يوشك أن تُستَردّ. يشير بالأوّل: إلى حالة الفناء الكامل، وبالثّاني: إلى حالة الغَيبة التي يؤوب غائبها. والله أعلم.
(1)
ت: «له» .
فصل
وقد يَعْرِض للسّالك دهشةٌ في حال سلوكه، شبيهةٌ بالبَهْتَة التي تحصل للعبد
(1)
عند مفاجأة رؤية محبوبه، وليست من منازل السُّلوك، خلافًا لأبي إسماعيل الأنصاريِّ حيث جعلها من المنازل، بل من غاياتها. فإنّ هذه الحالة ليست مذكورةً في القرآن ولا في السُّنّة ولا في كلام السّالكين، ولا عَدَّها أحدٌ من المتقدِّمين من المنازل والمقامات، ولهذا لم يجد ما يستشهد به عليها سوى حال النِّسوة مع يوسف عليه السلام، لمّا رأينَه أكبرنَه وقطَّعن أيديهنّ. فصدَّر الباب بقوله تعالى:{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31]، أي أعظمنه.
فإن كان مقصوده ما حصل لهنّ من إعظامه وإجلاله، فذلك منزلة التّعظيم. وإن كان مراده ما ترتَّب على رؤيته من غَيبتهنّ عن أنفسهنّ وعن أيديهنّ وما فيها حتّى قطَّعنها= فتلك منزلة الفناء. وإن كان مقصوده الدَّهْشة والبَهْتة التي حصلتْ لهنّ عند مفاجأته ــ وهو الذي قصَدَه ــ فذلك أمرٌ عارضٌ عند مفاجأة ما يغلب على صبر الإنسان وعقله، ولا ريبَ أنّ ذلك عارضٌ من عوارض الطّريق
(2)
ليس بمقامٍ للسّالكين، ولا منزلٍ مطلوبٍ لهم. فعوارضُ الطّريق شيءٌ، ومنازلُها ومقاماتُها شيءٌ.
فلهذا قال في تعريفه الدّهش
(3)
: (بَهْتةٌ تأخذ العبدَ عند مفاجأة
(4)
ما يغلب على عقلِه أو صبرِه أو علمِه).
(1)
ت: «للمحب» .
(2)
«الطريق» ليست في ش، د.
(3)
«المنازل» (ص 77).
(4)
في «المنازل» : «إذ فجأه» .