الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكنّ الوقت في اصطلاح القوم أخصُّ من ذلك.
قال أبو عليٍّ الدّقّاق: الوقت ما أنت فيه. فإن كنتَ بالدُّنيا فوقتُك الدُّنيا، وإن كنتَ بالعقبى فوقتك العقبى، وإن كنتَ بالسُّرور فوقتك سرور، وإن كنتَ بالحزن فوقتك الحزن. يريد: أنّ الوقت ما كان الغالب على الإنسان من حاله
(1)
.
وقد يريدون بالوقت ما بين الزّمانين الماضي والمستقبل. وهو اصطلاح أكثر الطّائفة، ولهذا يقولون: الصُّوفيُّ أو الفقير ابنُ وقتِه
(2)
.
يريدون: أنّ همّته لا تتعدّى وظيفةَ وقتِه، وعمارتَه بما هو أولى الأشياء به وأنفعُها له. فهو قائمٌ بما هو مُطالَبٌ به في الحِين والسّاعة الرّاهنة، فهو لا يهتمُّ بماضي وقتِه وآتيه، بل بوقته الذي هو فيه، فإنّ الاشتغال بالوقت الماضي والمستقبل يُضيِّع الوقتَ الحاضر، وكلّما حضرَ وقتٌ اشتغل عنه بالطّرفين، فتصير أوقاته كلُّها فَواتًا
(3)
.
قال الشّافعيُّ رحمه الله: صحبتُ الصُّوفيّة، فما انتفعتُ منهم إلّا بكلمتين. سمعتهم يقولون:
الوقت سَيفٌ، فإن قطعتَه وإلّا قطَعَك
. ونفسك إن لم تَشْغَلْها بالحقِّ شَغَلَتْك بالباطل
(4)
.
(1)
«الرسالة القشيرية» (ص 232).
(2)
المصدر نفسه.
(3)
ش، ت:«فوات» .
(4)
انظر: «مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 208)، و «تلبيس إبليس» (ص 301)، والكلمة الثانية فيهما:«ومن العصمة أن لا تقدر» . وذكر المؤلف الفقرة الأولى فيما مضى (ص 428)، وفي «الداء والدواء» (ص 358).
قلت: يا لهما من
(1)
كلمتين ما أنفعَهما وأجمعَهما! وأدلَّهما على علوِّ همّة قائلهما ويقظته! ويكفي هذا ثناءً من الشّافعيِّ على طائفةٍ هذا قدْرُ كلماتهم.
وقد يريدون بالوقت ما هو أخصُّ من هذا كلِّه، وهو ما يصادفهم من
(2)
تصريف الحقِّ لهم دونَ ما يختارونه لأنفسهم فيقولون: فلانٌ بحكم الوقت، أي مستسلمٌ لما يأتي من عند الله من غير اختيارٍ.
وهذا يحسُن في حالٍ، ويحرُم في حالٍ، وينقُص صاحبَه في حالٍ:
فيحسُن في كلِّ موضعٍ ليس لله فيه على العبد أمرٌ ولا نهيٌ، بل في موضع جريان الحكم الكونيِّ الذي لا يتعلّق به أمرٌ ولا نهيٌ، كالفقر والمرض، والغربة والجوع، والألم والحرِّ والبرد، ونحو ذلك.
ويحرم
(3)
في الحال التي يجري عليه فيها الأمر والنّهي والقيام بحقوق الشّرع، فإنّ التّضييع لذلك والاستسلام والاسترسال مع القدر انسلاخٌ من الدِّين بالكلِّيّة.
وينقُص صاحبَه في حالٍ يقتضي قيامَه بالنّوافل وأنواعِ البرِّ والطّاعة.
وإذا أراد الله بالعبد خيرًا أعانَه بالوقت، وجعل وقتَه مساعدًا له. وإذا أراد به شرًّا جعلَ وقتَه عليه، فكلّما أراد التّأهُّبَ للمسير لم يساعده الوقت، والأوّل كلّما همَّتْ نفسه بالقعود أقامه الوقت وساعده.
(1)
«من» ليست في النسخ.
(2)
ر: «في» .
(3)
ش، د:«ومحرم» .