الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمّا (تزهيده في الخلق على القرب)، أي: وإن كانوا أقاربه ومناسبيه، أو مجاوريه وملاصقيه، أو مُعاشِريه ومخالطيه= فلكمال حذَرِه، واستعداده واشتغاله بما أمامه، وملاحظة الوعيد من أُفقِ ذلك البارق الذي ليس بخُلَّبٍ، بل هو أصدقُ بارقٍ.
ويحتمل أن يريد بقوله (عن قربٍ) أي: عن أقربِ وقتٍ. فلا ينتظر بزهده فيهم أملًا يُؤمِّله، ولا وقتًا يستقبله.
قوله: (ويرغب في تطهير السِّرِّ)، يعني تطهير سرِّه عمّا سوى الله. وقد تقدّم بيانه.
فصل
قال
(1)
: (الدّرجة
الثّالثة: برقٌ يلمع من جانب اللُّطف في عين الافتقار
، فيُنشِئ سحابَ السُّرور، ويُمطِر قَطْرَ الطَّرب، ويجري من
(2)
نهر الافتخار).
هذا البرق يلمع من أُفق ملاطفة الرّبِّ تعالى لعبده بأنواع الملاطفات، ومطلعُ هذا البرق: في عين الافتقار، الذي هو باب السُّلوك إلى الله تعالى، والطّريق الأعظم الذي لا يُدخَل عليه إلّا منه، وكلُّ طريقٍ سواه فمسدودٌ. ومع هذا فلا يصل العبد منه إلّا بالمتابعة، فلا طريقَ إلى الله البتّةَ أبدًا ــ ولو تَعنَّى المتعنُّون، وتَمنَّى المتمنُّون ــ إلّا الافتقار ومتابعةُ الرّسول فقط. فلا يُتعِب السّالكُ نفسَه على غير هذه الطّريق، فإنّه على غير شيءٍ، وهو صيدُ الوحوش والسِّباع.
(1)
«المنازل» (ص 79).
(2)
«من» ليست في «المنازل» .
قوله: (فيُنشِئ سحابَ السُّرور)، أي ينشئ للعبد سرورًا خاصًّا وفرحًا بربِّه لا عهدَ له بمثله، ولا نظيرَ له في الدُّنيا، ونفحةً من نعيم الجنّة، ونسمةً من ريح شمالهم. فإذا نشأ له ذلك السّحاب أمطر عليه طيب الطَّرب، فطرِبَ باطنُه وسِرُّه لما ورد عليه من عند سيِّده ووليِّه. وإذا اشتدَّ ذلك الطّرب جرى به نهر الافتخار، بتميُّزِه عن أبناء جنسه بما خصَّه الله به.
فإمّا أن يريد به: افتخاره على الشّيطان، وهَزَّه عِطْفَه طربًا وافتخارًا عليه، فإنّ الله لا يكره ذلك. ولهذا يُحبُّ المختالَ بين الصّفّين عند الحرب، لما في ذلك من مراغمة أعدائه، ويُحبُّ الخيلاء عند الصّدقة ــ كما جاء ذلك مُصرَّحًا به في الحديث
(1)
ــ لسِرٍّ عجيبٍ، يعرفه أولو الصّدقات والبذل من نفوسهم عند ارتياحهم للعطاء، وابتهاجِهم به، واختيالهم على النّفس الشّحيحة الأمّارة بالبخل، وعلى الشّيطان المزيِّن لها ذلك
(2)
. فهذا الافتخار من تمام العبوديّة.
(1)
أخرجه أحمد (23747)، وأبو داود (2659)، والنسائي (5/ 78)، والبيهقي (7/ 308) من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه. وفي إسناده ابن جابر وهو مجهول. وله شاهد من حديث عقبة بن عامر الجهني عند أحمد (17398)، وفيه عبد الله بن زيد الأزرق، وهو مقبول في المتابعات. فالحديث حسن به.
(2)
بعدها في طبعة الفقي زيادة هذه الأبيات وليست في النسخ. وهي للشريف الرضي في «ديوانه» (1/ 504، 505).
وهم يُنفِدون المال في أوّل الغنى
…
ويستأنفون الصّبرَ في آخر الصّبرِ
مَغاويرُ للعَلْيا مغابيرُ للحِمَى
…
مَفاريجُ للغُمَّى مَداريكُ للوتْرِ
وتأخذهم في ساعة الجودِ هِزَّةٌ
…
كما تأخذ المِطرابَ عن نَزْوة الخمر
أو يريد به: أنّه حَريٌّ بالافتخار بما تميَّز به، وإن لم يفتخر به إبقاءً على عبوديّته وافتقاره. فكِلا المعنيين صحيحٌ. والله أعلم.
وسرُّ ذلك: أنّ العبد إذا لاحظ ما هو فيه من الألطاف، وشهده من عين المِنَّة ومحض الجود، وشهدَ مع ذلك فقْرَه إليه في كلِّ لحظةٍ، وعدمَ استغنائه عنه طرفةَ عينٍ= كان ذلك من أعظم أسبابِ الشُّكر، وأسبابِ المزيد، وتَوالي النِّعم عليه. وكلّما توالت عليه النِّعم أنشأتْ في قلبه سحائبَ السُّرور. وإذا انبسطتْ هذه السّحائب في سماء قلبه، وامتلأ أُفقه بها، أمطرتْ عليه وابلَ الطَّرب بما هو فيه من لذيذ السُّرور، فإن لم يُصِبْه وابلٌ فطلٌّ. وحينئذٍ يجري على لسانه وظاهره نهرُ الافتخار من غير عُجْبٍ ولا فخرٍ، بل فَرَحٍ بفضل الله ورحمته، كما قال تعالى:{(57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ} [يونس: 58]. فالافتخار على ظاهره، والافتقار والانكسار في باطنه، ولا ينافي أحدهما الآخر.
وتأمَّل قول النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ ولا فَخْرَ»
(1)
، كيف أخبر بفضل الله ومنَّتِه عليه، وأخبر أنّ ذلك لم يصدُرْ منه افتخارًا به على من دونه، ولكن إظهارًا لنعمة الله عليه، وإعلامًا للأمّة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله وعلوِّ منزلته لديه
(2)
، لتعرف الأمّة نعمةَ الله عليه وعليهم.
ويُشبِه هذا قول يوسف الصِّدِّيق للعزيز: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي
(1)
أخرجه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه «ولا فخر» . وهو مع هذه الزيادة عند الترمذي (3615) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
«لديه» ليست في ش، د.
حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. فإخباره عن نفسه بذلك لمّا كان متضمِّنًا لمصلحةٍ تعود على العزيز وعلى الأمّة وعلى نفسه= كان حسنًا، إذ لم يقصد به
(1)
الفخر عليهم. فمصدرُ الكلمة والحاملُ عليها يُحسِّنها ويُهجِّنها، وصورتُها واحدةٌ.
* * * *
(1)
«به» ليست في د.