الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العابد هو العامل بمقتضى العلم النّافع للعمل الصّالح، فغيرتُه على ما ضاع عليه من عملٍ صالحٍ، فهو يَستردُّ ضياعَه بأمثاله، ويَجبُر ما فاتَه من الأوراد والنّوافل وأنواعِ التقرُّب بفعلِ أمثالها من جنسها وغير جنسها، فيقضي ما ينفع فيه القضاء، ويُعوِّض ما يقبل العوض، ويَجبُر ما يمكن جَبْرُه.
وقوله: «ويستدرك فواته» ، الفرق بين استرداد ضائعه واستدراك فائته: أنّ الأوّل يمكن أن يستردّ بعينه، كما إذا فاته الحجُّ في عامٍ تمكَّن منه، فأضاعَه في ذلك العام، استدركه في العام المقبل. وكذلك إذا أخَّر الزّكاة عن وقت وجوبها استدركه بعد تأخيرها، ونحو ذلك. وأمّا الفائت فإنّما يُستدرَك بنظيره، كقضاء الواجب الموقَّت إذا فات وقته.
أو يكون مراده باسترداد الضّائع واستدراك الفائت نوعَيِ التّفريط في الأمر والنّهي، فيستردُّ ضائعَ هذا بقضائه وفعلِ أمثاله، ويستدرك فائتَ هذا ــ أي سالفه ــ بالتّوبة والنّدم.
وأمّا تدارك قُواه فهو أن يتدارك قوَّتَه ببذلها في الطّاعة قبلَ أن تتبدّلَ بالضّعف، فهو يَغار عليها أن تذهب في غير طاعة الله، أو يتداركَ قوى العمل الذي لحقه الفتور، بأن يكسُوَه قوّةً ونشاطًا غيرةً له وعليه.
فهذه غيرة العُبَّاد.
فصل
(الدّرجة
الثّانية: غيرة المريد
. وهي غيرةٌ على وقتٍ فات، وهي غيرةٌ قاتلةٌ. فإنّ الوقت وَحِيُّ التّقضِّي، أَبِيُّ الجانب، بَطِيُّ الرُّجوع)
(1)
.
(1)
«المنازل» (ص 73).
المريدون هم أرباب الأحوال، والعُبَّاد أرباب الأوراد والعبادات. وكلُّ مريدٍ عابدٌ، وكلُّ عابدٍ مريدٌ. لكنّ القوم خَصُّوا أهلَ المحبّة وأذواق حقائق الإيمان باسم «المريد» ، وخَصُّوا أصحاب العمل المجرّد باسم «العابد» . وكلُّ مريدٍ لا يكون عابدًا فزنديقٌ، وكلُّ عابدٍ لا يكون مريدًا فمُراءٍ.
و الوقت عند العابد: هو وقت العبادة والأوراد، وعند المريد: هو وقت الإقبال على الله، والجمعيّة عليه، والعكوف عليه بالقلب كلِّه.
والوقت أعزُّ شيءٍ عليه، يَغار عليه أن ينقضي بدون ذلك. فإذا فاته الوقت فلا يمكنه استدراكُه البتّةَ، لأنّ الوقت الثّاني قد استحقّ واجبه الخاصّ، فإذا فاته وقتٌ
(1)
فلا سبيلَ له إلى تداركه. كما في «المسند»
(2)
مرفوعًا: «مَن أفطر يومًا من رمضان متعمِّدًا من غير عذرٍ، لم يَقْضِه عنه صيامُ الدّهر وإن صامَه» .
قوله: (وهي غيرةٌ قاتلةٌ) يعني: مُضِرّة ضررًا شديدًا بيِّنًا يُشبِه القتل، لأنّ حسرة الفوت قاتلةٌ، ولا سيّما إذا علم المتحسِّر أنّه لا سبيل له إلى الاستدراك.
وأيضًا فالغيرة على التّفويت تفويتٌ آخر، كما يقال: الاشتغال
(3)
بالنّدم على الوقت الفائت تضييعٌ للوقت الحاضر ولذلك يقال: الوقت سيفٌ، فإن
(1)
ت: «الوقت» .
(2)
رقم (10080، 10081). وأخرجه أيضًا أبو داود (2397)، والترمذي (723)، والنسائي (3279)، وابن ماجه (1672) وغيرهم من طرقٍ عن ابن المطوّس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه. وإسناده ضعيف لجهالة ابن المطوس وأبيه. وضعَّفه الحافظ في «الفتح» (4/ 161) وغيره. وانظر:«تمام المنة» (396).
(3)
«الاشتغال» ليست في ش، د.
لم تقطَعْه قَطَعك
(1)
.
ثمّ بيّن الشّيخ رحمه الله السّببَ في كون هذه الغيرة قاتلةً، فقال:«فإنّ الوقت وَحِيُّ التّقضِّي» ، أي سريع الانقضاء، كما تقول العرب: الوحَى الوحَى، أي: العجل العجل، والوحْيُ: الإعلام في خفاءٍ وسرعةٍ، ويقال: جاء فلانٌ وحيًا أي مجيئًا سريعًا.
فالوقت منقضٍ بذاته، مُتَصرِّمٌ
(2)
بنفسه. فمن غفل عن نفسه تصرَّمتْ أوقاته، وعظم فَواته، واشتدّتْ حسراته. فكيف حاله إذا علم عند تحقُّق الفوت مقدارَ ما أضاع، وطلب الرُّجعى فحِيلَ بينه وبين الاسترجاع، وطلب تناول الفائت؟
وكيف يردُّ الأمس في اليوم الجديد؟ وأنّى له التّناوشُ من مكانٍ بعيدٍ؟
(3)
ومُنِع ممّا يحبُّه ويرتضيه، وعلم أنّ ما اقتناه ليس ممّا ينبغي للعاقل يقتنيه، وحِيلَ بينه وبين ما يشتهيه
(4)
.
فيا حَسَراتٍ ما إلى ردِّ مثلها
…
سبيلٌ ولو رُدَّتْ لهانَ التَّحسُّرُ
…
هي الشّهواتُ اللَّاءِ كانت تحوَّلتْ
…
إلى حَسَراتٍ حينَ عَزَّ التّصبُّرُ
(1)
ذكره المؤلف في «الداء والدواء» (ص 358) عن الشافعي نقلًا عن الصوفية. وهو باختصار في «مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 208)، و «الرسالة القشيرية» (ص 233)، و «تلبيس إبليس» (ص 301).
(2)
ت: «منصرم» .
(3)
نظر إلى قوله تعالى: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 52].
(4)
كما في قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54].