الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال صاحب «المنازل» رحمه الله
(1)
: (العلم ما قام بدليلٍ، ورفعَ الجهل).
يريد: أنّ العلم له علامةٌ قبله وعلامةٌ بعده، فعلامته قبله: ما قام به الدّليل، وعلامته بعده: رفع الجهل.
قال
(2)
: (وهو على ثلاث درجات. الدّرجة الأولى: علمٌ جليٌّ به يقع العِيانُ
(3)
، أو استفاضةٌ صحيحةٌ، أو صحّةُ تجربةٍ قديمةٍ).
يريد بالجليِّ: الظّاهر الذي لا خفاء به، وجعله ثلاثة أنواعٍ:
أحدها: ما وقع عن عِيانٍ، وهو البصر.
والثّاني: ما استند إلى السّمع، وهو علم الاستفاضة.
والثّالث: ما استند إلى العقل، وهو علم التّجربة.
فهذه الطُّرق الثّلاثة ــ وهي السّمع والبصر والعقل ــ هي
طرق العلم وأبوابه
. ولا تنحصر طرق العلم فيما ذكره، فإنّ سائر الحواسِّ تُوجب العلم.
وكذا ما يُدرَك بالباطن، وهي الوجدانيّات.
وكذا ما يُدرك بخبر المخبر الصّادق، وإن كان واحدًا.
وكذا ما يحصل بالفكر والاستنباط. وإن لم يكن تجربةً.
فالعلم لا يتوقّف على هذه الثّلاثة التي ذكرها فقط.
(1)
(ص 61).
(2)
«المنازل» (ص 61).
(3)
في «المنازل» : «يقع بعيان» .
والفرق بينه وبين «المعرفة» من وجوهٍ ثلاثةٍ:
أحدها: أنّ المعرفة لبُّ العلم، ونسبة العلم إليها كنسبة الإيمان إلى الإحسان. وهي علمٌ خاصٌّ، متعلَّقه أخفى من متعلَّق العلم وأدقُّ.
والثّاني: أنّ المعرفة هي العلم الذي يراعيه صاحبه بموجبه ومقتضاه، فهو علمٌ تتّصل به الرِّعاية.
والثّالث: أنّ المعرفة شاهدة لنفسها، وهي بمنزلة الأمور الوجدانيّة التي لا يُمكِن صاحبَها أن يشكّ فيها، ولا ينتقل عنها. وكشف المعرفة أتمُّ من كشف العلم.
فصل
قال
(1)
: (الدّرجة الثّانية: علمٌ خفيٌّ. ينبت في الأسرار الطّاهرة
(2)
، من الأبدان
(3)
الزّاكية، بماء الرِّياضة الخالصة. ويظهر في الأنفاس الصّادقة، لأهل الهمّة العالية، في الأحايين الخالية، في الأسماع الصّاحية. وهو علمٌ يُظهِر الغائب، ويُغيِّب الشّاهد، ويُشير إلى الجمع).
يعني: أنّ هذا العلم خفيٌّ على أهل الدّرجة الأولى، وهو المسمّى بالمعرفة عند هذه الطّائفة.
قوله: «ينبت في الأسرار الطّاهرة» .
(1)
«المنازل» (ص 61، 62).
(2)
ش: «الظاهرة» . وكذا في بعض نسخ «المنازل» .
(3)
في «المنازل» : «الأبزار» . وفي بعض نسخها «الأبدان» .
لفظ «السِّرِّ» يطلق في لسانهم ويراد به أمورٌ:
أحدها: اللّطيفة المودَعة في هذا القالب، التي بها حصل له الإدراك والمحبّة والإرادة والعلم. وذلك هو الرُّوح.
الثّاني: معنًى قائمٌ بالرُّوح، نسبته إلى الرُّوح كنسبة الرُّوح إلى البدن. وغالبُ ما يريدون به هذا المعنى.
وعندهم: أنّ القلب أشرف ما في البدن، والرُّوح أشرف من القلب، والسِّرّ ألطفُ من الرُّوح
(1)
.
وعندهم: للسِّرِّ سرٌّ آخر لا يطّلع عليه غير الحقِّ سبحانه وتعالى، وصاحبه لا يطّلع عليه. وإن اطّلع على سرِّه فيقولون: السِّرُّ ما لكَ عليه إشرافٌ، وسرُّ السِّرِّ ما لا اطِّلاعَ عليه لغير الحقِّ سبحانه
(2)
.
والمعنى الثّالث: يراد به ما يكون مَصُونًا مكتومًا بين العبد وبين ربِّه، من الأحوال والمقامات. كما قال بعضهم: أسرارنا بِكرٌ، لم يَفْتضَّها وهمُ واهمٍ
(3)
. ويقول قائلهم: لو عَرفَ زِرِّي سرِّي لطرحتُه
(4)
.
والمقصود قوله: «ينبت في الأسرار الطّاهرة» . يعني: الطّاهرة من كَدَر الدُّنيا والاشتغال بها، وعلائقِها التي تعوق الأرواح عن ديار الأفراح، فإنّ هذه
(1)
«الرسالة القشيرية» (ص 293).
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المصدر نفسه.
أكدارٌ وتنفُّساتٌ في مرآة القلب والرُّوح، فلا تتجلَّى
(1)
فيها صور الحقائق كما ينبغي. والنّفس تتنفَّس فيها دائمًا بالرّغبة في الدُّنيا والرّهبة من فوتها، فإذا جُلِيت المرآة بإذهاب هذه الأكدار صَفَتْ، فظهرت فيها الحقائق والمعارف.
وأمّا الأبدان الزّاكية، فهي التي زَكَتْ بطاعة الله، ونبتتْ على أكل الحلال. فمتى خلصت
(2)
الأبدان من الحرام وأدناسِ البشريّة، التي ينهى عنها العقل والدِّين والمروءة، وطَهُرت الأنفس من علائق الدُّنيا= زكَتْ أرضُ القلب، فقبلتْ بذْرَ العلوم والمعارف. فإن سُقِيتْ بعد ذلك بماء الرِّياضة الشّرعيّة النّبويّة المحمّديّة ــ وهي لا تخرج عن علمٍ، ولا تبعد عن واجبٍ، ولا تُعطِّل سنّةً ــ أنبتتْ من كلِّ زوجٍ كريمٍ، من علمٍ وحكمةٍ وفائدةٍ وتعرُّفٍ. فاجتنى منها صاحبُها ومَن جالسه أنواعَ الطُّرف والفوائد والثِّمار، كما قال بعض السّلف
(3)
: إذا عَقَدت القلوب على ترك المعاصي جالتْ في الملكوت، ثمّ رجعتْ إلى أصحابها بأنواع التُّحَف والفوائد.
قوله: (وتظهر في الأنفاس الصّادقة)، يريد بالأنفاس أمرين:
أحدهما: أنفاس الذِّكر والمعرفة.
والثّاني: أنفاس المحبّة والإرادة. وهي ما يتعلّق بالمعروف المذكور، وبالمحبوب المراد من الذّاكر والمحبِّ.
(1)
ش، د:«ينجلي» .
(2)
د: «حصلت» .
(3)
هو أبو سليمان الداراني كما في «صفة الصفوة» (4/ 232)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 42، 43)، و «الآداب الشرعية» (2/ 60).
وصدقها: خلوصها من شوائب الأغيار والحظوظ.
وقوله: (لأهل الهِمَم العالية)، فهي التي لا تقف دون الله عز وجل، ولا تُعرِّج في سفرها على شيءٍ سواه. وأعلى الهمم: ما تعلّق بالعليِّ الأعلى. وأوسعها: ما تعلّق بصلاح العباد. وهي هِمَمُ الرُّسل وورثتهم.
وقوله: (في الأحايين الخالية).
يريد بها: ساعات الصّفاء مع الله تعالى، وأوقات النّفحات الإلهيّة، التي من تعرَّضَ لها يوشك أن لا يُحْرَمها، ومن أعرضَ عنها فهي عنه أشدُّ إعراضًا.
وقوله: (في الأسماع الصّاحية).
وهي التي صَحَتْ من تعلُّقها بالباطل واللّغو، وأصاخَتْ لدعوة الحقِّ ومنادي الإيمان. فإنّ الباطل واللّغو خمر الأسماع والعقول، فصَحْوُها بتجنُّبِه والإصغاء إلى دعوة الحقِّ.
قوله: (وهو علمٌ يُظهِر الغائب)، أي يكشف ما كان غائبًا عن العارف.
قوله: (ويُغيِّب الشّاهد)، أي يُغيِّبه عن شهود ما سوى مشهوده الحقِّ.
(ويشير إلى الجمع)، وهو مقام الفردانيّة، واضمحلال الرُّسوم حتّى رَسْم الشّاهد نفسه.
فصل
قال
(1)
: (الدّرجة الثّالثة: علمٌ لَدُنِّيٌ. إسناده وجوده، وإدراكه عيانُه، ونعتُه حكُمه. ليس بينه وبين الغيب حجابٌ).
(1)
«المنازل» (ص 62).
يشير القوم بالعلم اللّدنِّي إلى
(1)
ما يحصل للعبد بغير واسطةٍ، بل إلهامٍ من الله، وتعريفٍ منه لعبده، كما حصل للخضر عليه السلام بغير واسطة موسى، قال تعالى:{آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65].
وفرَّقَ بين الرّحمة والعلم، وجعلهما «من عنده» و «من لدنه» إذ لم ينلهما على يد بشرٍ، وكان ما لدنه أخصَّ وأقرب مما عنده، ولهذا قال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]. فالسلطان النّصير الذي من لدنه سبحانه أخصُّ من الذي عنده وأقربُ. وهو نصْره الذي أيّده به. والّذي من عنده: نصْرُه بالمؤمنين، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62].
والعلم اللّدنِّيُّ
(2)
ثمرة العبوديّة والمتابعة، والصِّدق مع الله، والإخلاص له، وبذلِ الجهد في تلقِّي العلم من مشكاة رسوله من كتابه وسنة رسوله، وكمالِ الانقياد له. فيفتح له من فهم الكتاب والسُّنّة بأمرٍ يخصُّه به، كما قال عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه ــ وقد سئل هل خصَّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ دون النّاس؟ ــ فقال: لا والّذي فَلَقَ الحبّةَ، وبرأَ النّسمةَ، إلّا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه
(3)
.
فهذا هو العلم اللّدنِّيُّ الحقيقيُّ، وأمّا علمُ من أعرض عن الكتاب والسُّنّة ولم يتقيّد بهما: فهو من لَدُنِ النّفس والشّيطان، فهو لدنّيٌّ لكن مِن لَدُنْ مَن؟
(1)
«إلى» ليست في ش، د.
(2)
بعدها في هامش ل: «هو» . وليست في ش، د.
(3)
أخرجه البخاري (3047، 6903، 6915).