الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
منزلة الطُّمأنينة
.
قال الله تعالى: {(27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ} [الرعد: 28]. وقال تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30].
الطُّمأنينة: سكون القلب إلى الشّيء، وعدمُ اضطرابِه وقلَقِه. ومنه الأثر المعروف:«الصِّدق طمأنينةٌ، والكذِبُ ريبةٌ»
(1)
، أي الصِّدق يطمئنُّ إليه قلب السّامع، ويجد عنده سكونًا إليه، والكذب يُوجب له اضطرابًا وارتيابًا. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«البرُّ ما اطمأنّ إليه القلب»
(2)
، أي سَكَن إليه وزال عنه اضطرابه وقَلَقُه.
(1)
أخرجه أحمد (1723)، والترمذي (2518)، والبيهقي (5/ 335) وغيرهم من حديث الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وصححه الترمذي وابن حبان (722) والحاكم (2/ 13، 4/ 99).
(2)
أخرجه أحمد (18001)، والدارمي (2533)، وأبو يعلى (1586، 1587)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (2139)، والطبراني في «الكبير» (22/ 149)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 24، 6/ 255)، والبيهقي في «الدلائل» (6/ 292) من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه. وفي إسناده الزبير أبو عبد السلام لا يُعرف، كما في «الميزان» (4/ 548). وله شاهد من حديث أبي ثعلبة الخشني أخرجه أحمد (17742)، والطبراني في «الكبير» (22/ 219)، وإسناده صحيح، وجوَّد إسنادَه المنذري في «الترغيب» (2/ 351).
وفي ذكر الله هاهنا قولان
(1)
:
أحدهما: أنّه ذكرُ العبد ربَّه، فإنّه يطمئنُّ إليه قلبه ويسكن. فإذا اضطرب القلب وقلِقَ فليس له ما يطمئنُّ به سوى ذكر الله.
ثمّ اختلف أصحاب هذا القول فيه.
فمنهم من قال: هذا في الحلف واليمين. إذا حلف المؤمن على شيءٍ سكنت قلوب المؤمنين إليه واطمأنّتْ، ويُروى هذا عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما
(2)
.
ومنهم من قال: بل هو ذكرُ العبد ربّه
(3)
بينه وبينه، يسكُن إليه قلبه ويطمئنُّ.
والقول الثّاني: أنّ ذِكر الله هاهنا القرآن، وهو ذِكرُه الذي أنزله على رسوله، به طمأنينةُ قلوب المؤمنين. فإنّ القلب لا يطمئنُّ إلّا بالإيمان واليقين، ولا سبيلَ إلى حصول الإيمان واليقين إلّا من القرآن، فإنّ سكون القلب وطمأنينته من يقينه
(4)
، واضطرابه وقلقَه من شكِّه. والقرآن هو المحصِّل لليقين، الدّافع للشُّكوك والظُّنون والأوهام، فلا تطمئنُّ قلوب المؤمنين إلّا به. وهذا القول هو المختار.
(1)
انظر: «تفسير البغوي» (3/ 17)، و «زاد المسير» (4/ 327)، و «تفسير القرطبي» (9/ 315) وغيرها.
(2)
ذكره البغوي (3/ 17).
(3)
«ربه» ليس في ش، د.
(4)
ل: «نفسه» ، تحريف.
وكذلك القولان أيضًا في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].
والصّحيح: أنه ذِكره الذي أنزله على رسوله، وهو كتابه، مَن أعرض عنه قيّضَ له شيطانًا يُضِلُّه ويَصُدُّه عن السّبيل، وهو يحسب أنّه على هدًى.
وكذلك القولان في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
والصّحيح: أنّه ذِكره الذي أنزله، وهو كتابه
(1)
، ولهذا يقول المعرض عنه:{رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 125].
وأمّا تأويل من تأوّله على الحلف ففي غاية البعد عن المقصود، فإنّ ذكر الله بالحلف يجري على لسان الصّادق والكاذب، والبرِّ والفاجر، والمؤمنون تطمئنُّ قلوبهم إلى الصّادق ولو لم يحلف، ولا تطمئنُّ قلوبهم إلى من يرتابون به ولو حلف. وجعل سبحانه الطُّمأنينةَ في قلوب المؤمنين ونفوسهم، وجعل الغِبطةَ والمِدحةَ والبشارةَ بدخول الجنّة لأهل الطُّمأنينة، فطوبى لهم وحسنُ مآبٍ.
وفي قوله: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 27 - 28] دليلٌ على أنّها لا ترجع إليه إلّا إذا كانت مطمئنّةً، فهناك ترجع إليه، وتدخل في عباده وتدخل جنّته. وكان من دعاء بعض السّلف: اللهمّ هَبْ لي نفسًا
(1)
انظر: «تفسير البغوي» (3/ 235).